21-فبراير-2017

محمد عريقات (فيسبوك)

الشّعرُ عملٌ صعب، والدّخول إلى عوالم الشّاعر محمّد عريقات الشّعريّة في مجموعته الأخيرة الموسومة بـ"أكلتني الشّجرة" (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2016) هو البحث عن الأسئلة الأكثر صعوبةً حول الشّعر وماهويّته، وحول الشّعر وفضاءاته المتعدّدة، وحول الشّعر ومفاهيمه الفلسفيّة وعلاقته الشائكة بالأنا والوجود والآخر. 

"أكلتني الشّجرة" كولاج من الأسئلة واللوحات والأفكار البليغة والمجنونة والهاذية

في هذه المجموعة ثمّة كولاج من الأسئلة واللوحات والأفكار البليغة والمجنونة والهاذية في ذات الوقت، يصنع عبرها الشاعر هويّته الشّعرية، ويواجه من خلالها يأسه ومراراته ويقبض على نكبات اليوميّ وتفاصيله الصّغيرة بين حزنٍ ومرحٍ. وحيث أكلت الشّجرة أفراح الشاعر وأحزانه، ثمّة تفاصيل يبعثرها على نحوٍ سورياليّ صوفيّ حداثيّ بمهارة ودقّة بين إيجازٍ وإطنابٍ وبين عباراتٍ هشّة وعبارات بليغة، لا يقول الشاعر عبرها مقولات كبيرة، بل يفضّل أن يظلّ خفيف الصّوت، خفيف الملامح، يقفز كالجندب قفزاتٍ حرّة بين أفكاره وينثر الألم والفوضى لنبلغَ معه درجات من اللذة، تجبرنا على التّماهي مع يأس الشّاعر وتفاؤلاته في صياغاتها الموحشة.

اقرأ/ي أيضًا: إيمان مرسال.. الشعر في جنّة السرد

يقدّم عريقات في هذا العمل الشّعريّ صيغة جديدةً للأمل، صيغة ملفّعة باليأس ودواله، اليأس الذي يشفع له الشاعر بعباراته البليغة وبالتوصيف اليوميّ والحميميّ، بين ماضٍ وراهنٍ. ثمّة إحساس بتهويمات الخيال التي تثيرُ دهشةً سورياليّة عند المتلقّي كلّما حاول أن يُمسكَ بيقين الأفكار في هذه القصائد. وهذه السّورياليّة الدّقيقة التي تقف على حبلٍ رفيع يفصلُ بين الغموض والوضوح، هي ما يذهب بالقارئ إلى عمق الإحساس بالرّاحة والسّكينة، فهيَ قصائد تنتصر للسورياليّة الرّشيقة وللفقد الذي لا بد منه.

يستوطنُ الشّاعر عوالم اليأس، ويعيدُ صياغة الجنون اليوميّ وذاكرة الطفولة دون تمرّد أو ثورة. في تجاويف القصائد بهاءٌ فوضويّ يتمحور حول الحبّ، والفقد، والسّعادة الهشّة، وفوضى لا يعدّل الشّاعر من هيئتها. كأنّ الشّاعر على مَوعدٍ دائمٍ قدريّ مع اليأس يدلّي له لسانه محتجًا عليه احتجاجَ الأطفال: " لن أسير تحتَ سماءٍ خائنةٍ/ ولن أقبضَ على يد حبيبةٍ/ تخفي خاتم زواجها/ عن شهوتي لن أحب أمّي كما كنتُ من قبل/ سأنامُ مع عاهرةٍ: لا شأن لها بالقصيدةِ ووسامتي". هنا نجد المهارة في إتقان اليأس ورسمه بدقّة وتذويته داخل القصيدة، وهو ما يجعل القصائد أكثرَ رونقًا، فاليأس يصيرُ وجهة الشّاعر ووجهُ الأمل الأكثر عمقًا عنده: "كلُّ من حولي يُسمّيني وأرفُضُ/ هكذا تصرخُ هربًا من أطُرٍ محسومةٍ، كأنها فخّارة مرهونة بقدْرِ ما يتمكّن خزّافٌ من إفراجِ يديهِ، هُمْ لم يبصروا الشَّرخَ في قاعِها/ ما تفعلهُ الرحى الثقيلة في ملامحِ القمحِ؛ وتسأل: بِمَ يشبِهُ الرغيف السنبلة سوى أنهُ جدواها؟ من الإجابةِ أريدُ لنفسي الاسم!".

ولعلّ اليأس نفسه يحرّر الشّاعر من عبوديّة العبارات الزائفة حول الأمل وأشكاله، باليأس يبحثُ الشاعر عن الخلاص، فبالأشياء ونقيضها يُحيلنا الشّاعر إلى الحريّة الكامنة في معنى القصيدة.. إنّها الحريّة التي ترى شرعيّة طرق الأبواب الحلال والحرام مُحدثةً خليطًا هجينًا دافئًا يشبه ولوج حجرات كرنفاليّة للأفكار الوجوديّة الدافئة، القاتمة، الصوفيّة، المرحة، الحزينة: "انتشليني من الحزنِ أو اغمسيني في المغيب أسوةً بالشمس عتبي على قلبك الذي يرسم بالأسودِ أحلام الغلابى.. تعالي نتعلم المحبة من قسوةِ الوحش فعلى أكتافكِ تترامى البيوت كالثآليل باردة وعمياء".

الشعر عالمٌ من الأشياء المنقوصة، من اللاكمال الضروريّ لفهم العالم من زواياه الأكثر حدّةً

القصائد عند عريقات هيكلٌ شعريّ متماسكُ البناء، تتناثر داخله غضاريف هشّة تكادُ تكسره، وسرعانَ ما ننكشف عن جمال هذه الهشاشة التي تنمّ عن وجوديّة فطريّة غريزيّة حسّاسة. عالمٌ من الخَلق الكامل والناقص على حدّ سواء، عالمٌ معطوب ومثاليّ تراه العين الشّاعرة وتتماهى معه تارةً ثمّ تنفصلُ عنه تارات. إنّها الهشاشة الجميلة، اليُتم المطلوب، الحبّ الصبيانيّ، الأمومة الناقصة، الشهوة المتيبسة، عالمٌ من الأشياء المنقوصة، من اللاكمال الضروريّ لفهم العالم من زواياه الأكثر حدّةً. "أنا الهشّ الذي تنتابهُ القسوة لتحطمهُ قبلَ أن يصلَ إلى سندان مصنوعٍ من جناحِ فراشةٍ/ ومطرقة تشبه الأمومةِ/ في أقسى حالاتها".

اقرأ/ي أيضًا: علاء أحمد.. حفرتُ بئرًا في الهواء

في مرّات كثيرة يفتتن برحابة اللغة ويختبر قدراته في الذهاب إلى أقصى حدودها، وهو ما يجعله يشذّ عن اللغة المسكوكة في الشّعر، يفاجئك بفرادة المعجم وفرادة الصّور مستعيرًا عوالم لوصف عوالم أخرى.. مركّبة وغامضة لكنّها تمتعك بصفائها وعافيتها.. نعم لغة متعافية نشطة مشاكسة مفرطة في صوفيّتها وحساسيّتها تجاه الرّوح الشّاعرة، ليرسم الشاعر لنا هزيمةً وانكسارًا يلفّهما إصرار على أمل بالنّجاة: "مثلَ أداةِ اللصّ.. دعي عطركِ يستديرُ في فُتحَةِ القفلِ/ سأخلعُ عنّي المدينة وأرتديكِ سأضعُ الكلبشة في أيدي الملاك/ تعالي نجرّبُ في دفترِ الرسمِ طالما القصائد صلاة نافلة في ليلِ المدينةِ وسريركِ".

يلقم عريقات مسدّسه الشعريّ برصاصات حرّة طائشة تصوّب عشوائيًا في كلّ اتّجاه. هذه الرّصاصات، الموحّدة في لغتها وأفكارها، والتي تفشلُ في أن تُصيبُ أهدافًا بعَينها، تُحدِثُ أثرًا قويًا في النفس. بين كلّ متر وآخر نجدُ النّفس ذاته، والنّقص ذاته، والنبرة الشّعريّة ذاتها، حيث يقدّم عريقات في قصائد كثيرة رؤية ناقصة للأشياء، لعلّ هذا النّقص، قصدًا أو سهوًا، هو ما يعمّق جمال القصائد ويتركها مبعثرة أمامنا حيث اللايقين واللامألوف يهيمنُ عليها. هذا النّقص يأتي أحيانًا كثيرة على شاكلة التمنّي "لو": "لو أن قلبكِ ينصت للشعرِ كنّا أعدنا لوجهك لونه المخطوف ولَكنّا عبرناك كسهمٍ رماهُ قوس قرح"، أو في هيئة لغويّة مبهمة تعمّق أثر الوجع السورياليّ ويتركنا رهينة لزخم اللحظة: 
فاجئينا ذات صباح بمقبرة تتقلص من حوافها/ مثل فَرشةِ الثلج بيوم ثامن للموسيقى/ بصلاة سادسة للجنس بركن للشمس من قتامةِ البيت بطبق أو اثنين للشعر إلى جانبِ وليمةِ الجمعة".

يلقم عريقات مسدّسه الشعريّ برصاصات حرّة طائشة تصوّب عشوائيًا في كلّ اتّجاه

ثمّة إحساس قويّ تبثّه القصائد بنكباتٍ صغيرة، مصائب تأتي في هيئة وديعة، يتدلّى منها اليأس برفقٍ فلا تدفعنا إلى الهاوية، وإنّما تأخذنا معها إلى الفضاء البينيّ الذي يفصل بين الحياة والموت وبين اليأس والأمل وبين حزن الحب وفرحه. "بيني وبينكِ ليس أكثرَ من إغماضةٍ تجيءُ بلصوصِ المسافةِ على فرَحٍ منّي.. والصحو هو اليأس بينَ قلبي المكشوف لثمانين جلدة ورحمة واحدة سيكشطها إصبعك عن جبين الجلاد".

اقرأ/ي أيضًا: عماد الدين موسى.. كجندي منشق وبفردة حذاء واحدة

القصائد خشنة.. إحساس بالخشونة يعتريك وأنت تقرأ تجارب الشاعر، حتى في أكثرها رقةً وعذوبةً يطرح أمامك المفردات ويركبّها ليخدش الرّقة غير عابئ بالنتائج. إنها الخسارة في أصلها، التي تحوّل العذوبة تلك إلى خشونة: 
تلك الخسارات لا تلوي عنقي إلى الخلف.. لا شيء لي وراء كتفي سوى أثر حذاء/ ونطفة يابسة/ وزجاجة فارغة عند كل منعطف وذكريات تقفز أمامي ككلبٍ نشيط ياه لو أنها تشاركني/ زجاجة ويسكي/ أو فكرةِ انتحار/ لأتخمتني الخسارة بغنيمةِ الخفةِ/ ولطوقتُ عنق الفراغ بخرزةٍ زرقاء". 

في هذا المقطع الشّعريّ لا نلحظ عبارات بليغة ملقاة داخل الأسطر، وإنّما نجدُ عالمًا متكاملًا ورؤية دقيقة وحساسة ومفلسفة لعلاقة الكائن مع الأشياء التي تحيط به. تبدو قصائد هذا الكتاب كيانات منفصلة عن بعضها، منها العاشق، ومنها الطفوليّ، ومنها الحذر، ومنها المتمرّد والخنوع، جرعات نزقة من كلّ شيء تأتلف مع بعضها، تفصح عن ذات الشّاعر وعن اكتناز مشاعر الرهبة والخوف واليأس والمرارة واليتم والفقد، حيث اللغة المختمرة فيها تتحول إلى معجم صوفي حداثي يصف اليوميّ: "قلبي يتضخمُ كالفُطرِ في الظِّل، فالخميرةُ سقطت في نُتَفِ حُزني وأصبح غطاء مدفَنِهِ قبَّعة، والصباح، ليكونَ على شاكِلةِ الأمس، يتدربُ طيلةَ الليل بعيدًا عن الأقدارِ وعن الصُّدَفِ التي أرتجيها سيرًا على الأحلام. الحظّ لا أعوِّلُ على جهدِهِ ولو كانَ دلاؤهُ ينشِلُ من بئرِ المعجزة، والأصدقاء المتعثرونَ خلفَ دجاجةِ الفرح لم يجلبوا لي المَرَقَ والنبيذ".

يتفجر هذا النص بجرعات مورفين تحاول أن تخفّف ألم الشّاعر. في كلّ سطرٍ من سطور القصائد المخطوطة يُسمَعُ نشيجٌ خفيف يتذكّر الأشياء ويبكيها. مرثيّات صغيرة هذه القصائد تقول كلّ شيء عن الشاعر، خوفه من المَوت، رغبته في التلاشي، حلمه بميتامورفوزا تقيه شرور العالَم: "ليقطفني الموت عن شجرةِ العائلة وليزرعني من جديدٍ/ في ترابٍ ما شئتُ لحفنةٍ منه/ أن تكون حفيدًا لأبي خاتمُ عرسي لا يزالُ/ في فاترينةِ الصائغِ وشهوتي التي تتدحرجُ مثل كُرةِ النار شاخت في انتظاركِ قادمة على يديِّ".

لدى محمد عريقات، اليأس هو الأمل الجديد والحزن هو الفرح الجديد

في مجموعته هذه، يكشف عريقات عن أشعار أرستقراطيّة اللغة يتيمة الروح، وعن أجواء دروشة صوفيّة، حيث اليأس هو الأمل الجديد والحزن هو الفرح الجديد. يكتب عريقات في هذه المجموعة القصيدة الحقيقيّة، رغم الفضلات والزوائد هنا وهناك.. يعيشُ عبرها كشاعرٍ ويموتُ كشاعر له تفاحتا آدم، واحدة صوتها نشيجٌ خافت يرثي ظلّه، وأخرى زقزقات زاهدة صوفيّة الموسيقى واللون والرائحة. 

اقرأ/ي أيضًا: عماد أبو صالح.. الشعر في المزبلة

أعتقد أنّ عريقات يفعل فعله الصّوفيّ في قصيدة اليوميّ، ويحقن الدنيويّ بالآخرويّ، أو الجسديّ بالروحيّ، مطهّرًا قصيدته من زبدها، ومطّهرًا ذات الشّاعر من خوفها، واصلاً بها إلى الحريّة.. نحو الصوفيّ المكتمل. أكلت الشّجرة الشّاعر، وأبقت آثار دمه على القصائد السورياليّة. أكلته وهو يقف مكانه واصفًا تفاصيل ما قبل هذا الفعل، التفاصيل التي يبرهن الشاعر عبرها، بحكمة الدراويش، أنه كائن صوفيّ يرتدي زيًا خشنًا يواجه به الخسارة ويرتكب أخطاء متعمّدة داخل القصيدة تخفّف في نهاية المَطاف من حدّة المرارات فيها.

 

اقرأ/ي أيضًا:

الشعر الميّت على فيسبوك

علي أزحاف.. كريستالية الشعر