17-مايو-2018

العيش المشترك هو أكثر الهواجس التي تشغل بال وقلم محمد شوقي الزين (فيسبوك)

بحضوره الرّصين في الواقع وفي مواقع التّواصل الاجتماعي، وكتاباته وترجماته الفلسفيّة، التي تحاول أن تحقن اللّحظة الجزائريّة والعربية بجرعة ضرورية من التّفكير والتأويل والشكّ والأسئلة، حتّى تغادر مقام اليقين المستشري في أوصالها سلوكًا وتفكيرًا، بما يُؤهلها لأن تُعاين تقصيرها في حقّ الحاضر والمستقبل، بات الأكاديميّ والباحث محمّد شوقي الزّين، الأستاذ السّابق للفلسفة في جامعة إكس أون بروفانس الفرنسية، وأستاذها الحالي في جامعة تلمسان، في صدارة جيل جزائريّ يتعاطى التّفكير بوصفه عناقًا عارفًا بين المنهج والمعايشة، هو الذي بدأ ذلك في سنوات العنف والإرهاب، وقدّم قرابينَ كثيرةً لأجل حرّية الفكر، كان في مقدّمتها بختي بن عودة صاحب المشروع الفكري، الذي خلق انقلابًا في علاقة الفلسفة بالحياة في الجزائر.

بات محمد شوقي الزين، في صدارة جيل جزائري يتعاطى الفكر بوصفه عناقًا عارفًا بين المنهج والمعايشة 

تجلّى المشروع الفلسفي لمحدّث "ألترا صوت" في البحوث التي نشرها في مجلّات عالمية محكّمة، والكتب التي تبنّتها دور نشر عربية وغربية، والتّرجمات التي أنجزها لكتب فكرية وفلسفية، منها: "القبلي التّاريخي وتشخيص الحاضر عند ميشال فوكو"، و"نقد العقل الثّقافي"، و"بحر أم ساحل؟ قراءات معاصرة لفكرة التّأويل عند ابن عربي"، و"الصّورة واللغز: التّأويل الصّوفي للقرآن عند ابن عربي"، و"التّرجمة، الهيرمينوطيقا والاستيطيقا"، و"العيش بالتّفلسف" لجون غرايش.

اقرأ/ي أيضًا: بوعمران الشيخ.. رحيل بن رشد الصغير

ويُعدّ "العيش المشترك" من أكثر الهواجس التي تشغل بال وقلم محمّد شوقي الزّين، في محاولة لتفكيك المعوّقات، التي تحول دون أن يتحقّق في الفضاء الجزائري والعربي، ويصبح ثقافة عامّة ومكرّسة ومحمية شعبيًا وحكوميًا.

ينطلق محمّد شوقي الزّين، صاحب كتاب "الغسق والنّسق: مقدّمة في أفكار ميشال دو سارتو" في مقاربة رهان العيش المشترك من عبارة لجاك دريدا (1930 ـ 2004) في رثاء غادمير، الذي توفّي قبله بسنتين، قال فيها: "لقد كان على حقّ"، رغم أنّ غادمير كان ذا نزعة تأويلية بينما كان دريدا ذا نزعة تفكيكية، أي أنّ الخلاف بينهما كان جذريًا، "(لقد كان على حق) أو (يمكن أن يكون الآخر على حق)، هو الشّعار الأمثل للعيش المشترك، للعرفان المتبادل، للاعتراف المشاع؛ شعارٌ صعبُ الاستساغة والتّحقيق طالما أن الإرادات المتنافرة مختبئة وراء قلاع الأيديولوجيا، ومدجَّجة بالأسلحة الدّغمائية"، كما يقول محمد شوقي الزين.

كُرم الزين من وزارة الثقافة في "اليوم الدولي للعيش معًا بسلام" (فيسبوك)
كُرم محمد شوقي الزين من وزارة الثقافة في "اليوم الدولي للعيش معًا بسلام" (فيسبوك)

ويشرح محمد شوقي الزين فكرته: "لأنّ العيش المشترك يقتضي تعايُش ذوات، وتَذاوُت أرواح، دائمًا على وزن تفاعُل. أن نتعايش معناه أن نتفاعل، أن نتكامل، أن يُكمّل الواحدُ الآخرَ ما نقُص فيه، وأن يستكمل في ذاته بما يجنيه من الآخر"، مضيفًا: "لأن التعايُش هو دائمًا الاشتراك في قيم مبدئية، إنسانية في جوهرها، تتعدَّى حدود الأنا الضيّقة نحو الأنا الأخرى المنعكسة في مرآة الآخر. فهو إذن عيش مشترك، تلتئم حوله ذوات، بالقناعة الرّاسخة أنها تقتسم قيمة واحدة، مبدئية على الأقل، هي القيمة الإنسانية. ما وراء ذلك، ما بعد ذلك، أو ما دون ذلك، هو أنانيات تستأثر بتصوُّر ضيّق حول المعيش وحول الحياة عمومًا".

ويسترسل محمد شوقي الزين بالقول: "الاشتراك حول القيم ليس المراد منه اختزال الاختلاف أو نفي التمايُز، بل إنّ العيش المشترك لا يتحقَّق سوى في بيئة التنوُّع الأنثروبولوجي والثقافي. فلأنّ هناك اختلافًا في اللّسان والانتماء والمعتقد والتصوُّر، هناك إمكانية للعيش المشترك".

وفي مقام مقارنته بين مفهومي العيش والتّعايش، يقول محمّد شوقي الزّين إنّ العيش بالمقارنة مع التّعايش مثل الفهم بالمقارنة مع التفاهم، موضحًا: "ليس الفهم مجرَّد قبض سيكولوجي على موضوعٍ نقول إننا أحطنا به واستوعبناه. كذلك، ليس العيش مجرَّد انهمام ذاتي بالضّرورة الطبيعية والغريزة التي تنتظر التلبية. إنه مقام أنطولوجي في استحقاق مكانٍ في الوجود، وفي التواجُد مع الغير. يتعدَّى العيش المدلول المبتذل في العناية البيولوجية بالذات: المأكل والمشرب والمسكن. إنه قبل كل شيء رابطة رمزية في القُدرة على التعايُش، بمعنى التفاعل، مثلما أن التفاهم هو القيمة الاجتماعية والأخلاقية للفهم بوصفه قيمة أنطولوجية في الإقامة في الوجود".

الاشتراك حول القيم لا يقصده منع اختزال الاختلاف أو نفي التمايُز، بل إنّ العيش المشترك لا يتحقَّق سوى في بيئة التنوع الثقافي

ينبري العيش المشترك، بحسب محمد شوقي الزين، "مسيرةً في الاكتمال بما نقُص في الإنسان دون الوصول إلى الكمال". ويشرح: "الاكتمال هو الاعتراف بأن النقيصة تُميّزنا كبَشَر، وأن العيش المشترك يُوفّر الثقافة المثلى في الوعي بهذه النقيصة مدخلًا لكلّ اكتمال. هو نوع من عمل السلب كما يقول هيغل، عمل الجدل والجدال، عمل النّقاش والحوار في الدَّفع بالتواجُد البشري في العالم نحو مقام الإنسانية الجامعة".

اقرأ/ي أيضًا: بين هويّتين

ويستشهد محمد شوقي الزين بما قاله جاك دريدا عن علاقته بغادمير: "لقد اشتركنا حتمًا حول القناعة بأنّ الحرب والتحقير والعدوان لم يكن لها الحظ في أن تُعكّر بيننا الاحترام الذي لا يتبدَّل"، إذ يرى محمد شوقي الزين العيش المشترك هو في الأساس "الاشتراك حول هذه القناعة التي تقول الوعد الموثوق فيه بأن لا يخدعَ أحدٌ أحدًا، فينشقّ الوعد عن شقيقه الوعيد من الرّضاعة اللّغوية. هل لدينا هذه القناعة بالوعد الصَّادق الصَّدوق بأن لا يتعدَّى أحدٌ على أحدٍ في عِرضه أو شخصه أو فكره، وإنما يواجهه، وجهًا لوجه، يتوجَّه إليه قصديًا ووُدّيًا، بأن يُناديه بالسّؤال ويُعاركه بالبرهان، بأن لا يثور كالبركان وإنما يكنُّ له الصّدق والعرفان.

يضع شوقي الزين، العيش المشترك في مقام "اليقظة والنباهة" (العربي الجديد)
يضع محمد شوقي الزين، العيش المشترك في مقام "اليقظة والنباهة" (العربي الجديد)

يعترف محمّد شوقي الزّين بكون هذا الخيار تمرينًا مأمولًا فيه، لكنّه عسير في خِضمّ النَزَعات المتباينة والنزاعات المتفشّية، "حيث كل نزوع يعتبر بأن حقيقتـه هي الحقيقة، دون نكرة حذرة أو اعتبار نسبي. يُنفي التعايش المشترك الاستئثار العدواني بالحقيقة. هناك حقوق موزَّعة، فهي مفترَضة أكثر منها بديهية أو يقينية"، كما يقول.

ويضع محمد شوقي الزين العيش المشترك في "مقام اليقظة والنباهة"، و"الانتباه السّليم لمجرى العالم وطابعه الحدثي، في ما يعتمل فيه من تجارب، وما يتميَّز به من تداول وتواصل"، موضحًا: "تقول عبارة هيرقليطس: (بالنّسبة لليقظين ثمَّة عالم واحد ومشترك، لكن بالنسبة للنّائمين، كلّ واحد ينصرف إلى عالمه الخاص)، فحوى العالم الذي يشترك حوله الجميع، العالم الذي يجمعهم ويلمُّهم، وهو كونهم الإنسانية المتجذّرة في هذا العالم. فهُم بهذا المعنى يقظون، ينتبهون إلى الشّرط الوجودي لبعضهم البعض، يتواصلون ويتبادلون رمزيًا أساسيات الحوار، يتفاهمون حول موضوعات المعيش والسّلوك، يحلُّون نزاعاتهم بما يجود عليهم العقل من السّداد والتعقُّل، بما يدرأ عنهم العدوانية والمظالم".

يزيد محمد شوقي الزين في شرح مفهوم اليقظة، فيقول: "اليقظة هي انتباه الحسّ والرّوح لسيول الوجود، هي الإصغاء النّبيه لموسيقاه وانسجام أنغامه. هي العمل على ترجمة هذا الانسجام الكلّي في الفرديَّات المتعيّنة من أشخاص وأشياء وأفكار وأحوال".

عكس اليقظة، انطلاقًا من عبارة هيرقليطس، هو "الانصراف إلى النّوم والخلود إلى العالم الخاصّ والمنعزل لكلّ فرد، وهو عدم الإحساس بوجود الآخر، بتواجُد الغير؛ هو انعدام الاستشعار بأن ينغلق كلّ فردٍ أو جماعةٍ داخل قناعاته وهواجسه. العيش المشترك، بما هو يقظة ونباهة، يدرأ الانصراف إلى النّوم والسّهو والنّسيان والنّكران؛ يُبعد الميل نحو الكسل والجُبن، من بين ما اعتبره كانط (عوائق التنوير)، لأنّ التّنوير هو واضحة النّهار الوجودي باستيقاظ الحواسّ والرّوح؛ على العكس من عتمة الخلود إلى الاسترخاء والغطّ في النوم".

تعني "اليقظة"، انتباه الحس والروح لسيول الوجود، والإصغاء لموسيقاه وانسجام أنغامه. وبالنسبة لليقظين فهناك عالم واحد مشترك

هنا، يسأل محمّد شوقي الزّين: "هل نحن نيام لأننا لم نحسن الانتباه إلى تعايُشنا المشترك؟ هل نحن نيام لأننا أعجز ما نكون عن الانتباه الوجودي تُجاه الشّرط الإنسانيّ المشترك؟ وأخيراً، هل نحن نيام لأننا لا نريد الخروج من الكهف، الداخل الباطني- الأناني، نحو الخارج الواسع والفسيح؟".

 

اقرأ/ي أيضًا: 

المثقف والسّلطة في الجزائر.. قناع لوجهين

الفلسفة والأدب.. سردية حب معلن