06-يونيو-2016

محمد دحة

لا يمكن فهم تجربة العازف الجزائري محمد دحة إلا من خلال عنصر المشاكسة، ليس بوصفها نزقًا وخروجًا على الأعراف لذات الخروج، بل بوصفها بحثًا عن الذات كما تريد أن تكون لا كما يُراد لها، ورغبة في الانسجام مع روح جيل جزائري فتح عينيه على الرؤوس المقطوعة بأيدي الأشقاء، ويرى أنه حان الوقت لأن يفتحها على الآلات بكل أنواعها ليمارس حقه في فن العيش.

لا يمكن فهم تجربة العازف الجزائري محمد دحة إلا من خلال عنصر المشاكسة

ولد محمد عام 1986، أي قبل سنتين من "انتفاضة أكتوبر" التي أثمرت التعددية السياسية في البلاد، في منطقة قمار بمحافظة وادي سوف، 600 كيلومتر جنوبًا، أي في المنطقة التي عرفت أول عملية في سجل الإرهاب الذي مزق الأرواح والأجساد في الجزائر على مدار عقد من الزمن، لأب يؤم المصلين في المسجد، مع ذلك فقد برمجته روح المشاكسة على الموسيقى عزفًا وتذوقًا.

اقرأ/ي أيضًا: 3000 ليلة.. نسوية الحركة الأسيرة

شكّل توجه الفتى الصحراوي خرّيج العائلة المحافظة والبيئة المعروفة بطابع موسيقي ذي لمسة تونسية، إلى الموسيقى الأمريكية من "هيب هوب" و"جاز" و"ديسكو" و"راب روك" و"روك أند رول" و"بلوز"، والتأثر بفرقها المختلفة، مفاجأة لمحيطه الذي لم يستوعب هذا التوجه، وتعامل معه على أساس أنه انسلاخ عن الهوية الفنية للمنطقة، فما زاده ذلك إلا إصرارًا، وغذى رغبته في الانتقال إلى الجزائر العاصمة.

لكنه قبل أن ينفذ هجرته العاصمية، مارس شهوة مواجهة الذائقة السائدة، بالخروج إلى الشارع في مدينة وادي سوف والعزف فيه عام 2004، ليخوض أول تجربة له في التعامل مع رجال الشرطة الذين منعوه من ذلك، وهي المحاولة التي كررها في مدينة أكثر تمسكًا بالتقاليد هي مدينة غرداية عام 2007 ليلقى نشاطُه المصيرَ نفسَه.

في عام 2009 أصدر أول ألبوم له تحت عنوان "أولاد الصحراء" وأعقبه شهورًا بعد ذلك بألبوم "صنع في الجزائر"، ممرّرًا من خلال الألبومين رسالة أن الفن لا هوية له غير الجمال، وأن تفاعل الجيل الجديد مع مختلف الفنون في العالم، لا يعني الانسلاخ عن هويته الجزائرية، بقدر ما هو واحد من تجليات عبقريته وقدرته على التواصل والانفتاح.

اعتقل الأمن الجزائري العازف محمد دحة ثلاث مرات، لعدم امتلاكه رخصة للعزف في الشارع

امتلك محمد عام 2012 استوديو للتسجيل في الجزائر العاصمة، بالموازاة مع التجارة في آلة القيثار التي يرى فيها هويته، لكنه أصيب بخيبة أمل كبيرة بالسطو على ممتلكاته، خاسرًا "تحويشة العمر" وعائدًا إلى الصفر من جديد، وهو الوضع الذي جعله يفكر مرة أخرى في العودة إلى الشارع، غير أن رجال الأمن كانوا في انتظاره مرة أخرى. "كنت أعزف متخفيًا تحت الجسور وفي زوايا بعيدة من المترو، وكنت في كل مرة أطالب بالترخيص الذي لم أكن أملكه، فأساق إلى مخفر الشرطة".

اقرأ/ي أيضًا: وليد سيف.. 5 مسلسلات لا تفوّت

يروي لنا أشهر فنان شارع في الجزائر قصة تحوله إلى قلب الجزائر العاصمة ومجاهرته بفنه: "مرة كنت أعزف في ركن بعيد عن الأنظار في المترو، فجاءني رجل أمن في زي مدني، وأخبرني أنه معجب بفني، ونصحني بأن أترك الزوايا الخفية وأقصد ساحة موريس أودان، حتى أكون تحت الأضواء في حالة منعي من العزف، وهذا الذي كان عام 2014".

الروح المرحة لمحمد دحة ومهارته في العزف جعلته مقصد الشباب العاصميين الذين تهاطلوا على الاستماع لعزفه والتقاط الصور معه وزرعها في حساباتهم الفيسبوكية، غير أن ذلك لم يشفع له مع رجال الأمن الذين اعتقلوه ثلاث مرات، لعدم امتلاكه رخصة رسمية، وهو ما أجج موجة تضامن كبيرة معه في الإعلام المكتوب والسمعي البصري ومواقع التواصل الاجتماعي، تحول معها على مدار أسبوع كامل، إلى ضمير يعبر عن الجيل الجديد في البلاد.

تطور هذا التضامن إلى تجمع للفنانين والإعلاميين والطلبة في المكان الذي تعود على العزف فيه قبالة الجامعة المركزية، دفع برئيس "بلدية الجزائر الوسطى" إلى منحه رخصة للعزف في الشارع، أتبعه بجمع العشرات من أمثاله في حفل بساحة البريد المركزي، دلالة على بداية انعتاق فن الشارع الذي لا يزال، بحسب محمد دحة، يُنظر إليه في المدينة الجزائرية، رغم تأثرها بالمدينة الفرنسية التي يزدهر فيها، على أنه نوع من التسول المقنّع.

اقرأ/ي أيضًا: 

8 من أجمل الأفلام الأوربية خلال الـ5 سنوات الأخيرة

مورغان فريمان.. أسعى لتحقيق السعادة والسكينة