21-فبراير-2018

محمد جعفر

"ابتكار الألم" (منشورات ضفاف والاختلاف، 2017) عنوان لمجموعة قصصية للكاتب محمد جعفر. قد نتساءل في بداية الأمر، ترى ، كيف يبتكر الانسان ألمه؟ وهو الذي يسعى دائمًا إلى الخلاص بحكم طبيعته البشرية.

هذا العنوان فعلًا مثير للتساؤلات ويطرح عدة احتمالات تتواصل مع قراءة صفحات الكتاب، إنه عنوان حي يوحي بعمق النص وضرورة قراءة ما بين الأسطر، وهو نفس ما ينتهجه الروائي ميلان كونديرا في رواياته مثل رواية "الخلود" أو "الجهل". إذ لا نرى علاقة مباشرة بين مضمون النص والعنوان إلا إذا فهمنا ما يذهب إليه الكاتب من وراء النص.

أحيانًا لا نرى علاقة مباشرة بين مضمون الكتاب وعنوانه إلا إذا فهمنا ما يرمي إليه الكاتب

هناك عدة مستويات في الرواية تختلف من قصة إلى أخرى، فالكاتب محمد دعفر اعتمد على العامل النفسي لتحليل شخصياته التي تتصارع في القصة موضحة لنا انشغالاتها الباطنية وهواجسها من خلال ما قدمه الروائي محمد جعفر في لوحاته الفنية.

اقرأ/ي أيضًا: مكتبة نصير شمّه

سيعبر القارئ جسرًا من الأفكار التي تربط بين القصتين، الشك والقضية. تتحدث القصة الأولى عن الزوجة التي وقع بصرها على ورقة تحمل رقم هاتف لشخص مجهول في جيب زوجها، وهنا يبرز العامل النفسي في توجيه أحداث القصة التي تتجه دائما نحو معاناة الألم، أي ابتكار أفكار خيالية تعذب صاحبها، تقع الزوجة فريسة لهواجسها المتمثلة في خداع زوجها لها وإمكانية إفساد أسرتها، تجد نفسها في مواجهة احتمالات متعددة عليها أن تختار أحدا منها للخروج من هذه الورطة. كل شيء حدث بسبب بسيط وهو رقم هاتف كتب على قطعة ورق صغيرة الحجم. أما في القضية، القصة الثانية فتنتقل المعاناة إلى الزوج الذي يمتهن الكتابة وينتظر الإلهام ولكن دون جدوى. متحسرًا على قدره التعيس ككاتب مقارنًا بذلك زوجته بميرثيدس زوجة غابرييل غارسيا ماركيز وكيف عملت على مساعدته ليفوز بعد سنوات بنوبل. هذا الكاتب الذي أراد أن يكتب للفوز بجائزة معينة تطرق لموضوع مهم مستعينا بسخرية سوداء لإبراز مساوئ الجائزة وتأثيرها على المسار الإبداعي وكيف تقوم الإيديولوجيات التي توظفها اللجنة بتوجيه هذه الأعمال لصالحها. يستسلم الكاتب لأحلام يقظته ويوهم نفسه متوجًا بالجائزة بعد أن وضع اللجنة في موقف حرج بكتابة تحفة أدبية سيخصصها لفلسطين، ثم يرتدي شالًّا كتأكيد على الموافقة والانصياع لمعايير اللجنة التي تسير الجائزة.

لا يفتأ الكاتب ينقلنا في تجربة إلى أخرى محاولًا التطرق لمشاكل الإبداع بطريقة بانورامية، يعرض فيها مختلف أوجه النظر فيعمد إلى ابتكار شخصية ديناميكية تتحرك داخل اطار النص بحرية معبرة بشكل غامض عن أهدافها، فهذا الكاتب الذي نجده في قصة "الرجل الذي أكل قلبه" يمتهن الكتابة كمصدر رزق، وهو معروف في الأوساط الأدبية فيقوم باستغلال قوته الأدبية لإخضاع شاعرة لنزواته الجنسية، وكل هذا من أجل كتابة مقدمة لها في ديوانها الشعري.

من الملفت للنظر أن الكاتب محمد جعفر ركز على موضوع معين وحاول معالجته من زوايا مختلفة يفرضها سياق النص، وطبيعة علاقة شخصياته داخل وسطها المتخيل.

[[{"fid":"98591","view_mode":"default","fields":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":"ابتكار الألم","field_file_image_title_text[und][0][value]":"ابتكار الألم"},"type":"media","field_deltas":{"1":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":"ابتكار الألم","field_file_image_title_text[und][0][value]":"ابتكار الألم"}},"link_text":null,"attributes":{"alt":"ابتكار الألم","title":"ابتكار الألم","height":295,"width":200,"class":"media-element file-default","data-delta":"1"}}]]

إن قصص "ابتكار الألم" مختلفة اختلافًا تامًا في أسلوبها وطريقة سردها عن بعضها البعض، وسنكتشف بعد قراءة قصة "التباس" ثم "الأعمى مبصرًّا" أن هناك تجريبًا واضحًا اعتمده الكاتب ليخرج من الدكتاتورية التي يمارسها الراوي العليم على شخوصه، التي عادة ما تتحكم في شكل النص وطريقة سرده. أحيانًا يتدخل الكاتب نفسه ليقف حائلًا بينه وبين القارئ ليوضح بعض الأمور بخصوص شخصياته، وهذا ربما ما يشتهر به ميلان كونديرا في رواياته التي يمتزج فيها الخيال مع واقع الكاتب نفسه، إذ نرى أن طابع الخيال يتوقف لحظة ليبدأ الكاتب في وضع الفواصل التي تدخل القارئ في مستوى آخر من القراءة وهو مستوى ما وراء النص. دون أن يبتعد عن قصده الأول وهو إبراز السمات الأساسية لكل شخصية، بعيدًا عن الميلودراما والحشو الذي لا فائدة منه، هنا تتداخل الحقيقة مع الخيال بمباركة من الكاتب نفسه.

تبقى التأويلات مفتوحة ومتنوعة من قارئ إلى آخر ما دام النص ليس محصورًا في فكرة واحدة فقط

إن من بين القصص التي تحمل أكثر من تأويل هي قصة "صاحب ظله"، فهي تحكي قصة الصحفي الذي يتبعه ظله أينما ذهب ويصاحبه وكأنه حقيقي دون أن يدخل في انفصام تام، أو هذيان مع الظل، بل يصاحبه أينما ذهب وكأنه شخص حقيقي.

اقرأ/ي أيضًا: ساعة غسان كنفاني

هذه الرمزية تعبر عن ازدواجية المبدع عندما يتحول إلى شخص آخر، و ينبهر بنفسه حتى لا يرى شخصًا غيره، تعدد الشعور هو ما يميز هذه القصة التي تنتهي بمأساة مقتل الصحفي غدرًا، بعد أن عاش حياة تضارب آراء ووجهات نظر متعاكسة. بعد موته يأتي صاحب الظل ويلقي فوق الجثة الجريدة ويغادر في صمت. هذه الجريدة تمثل عمله وطموحه، والظل يمثل اعتداده بنفسه وغروره الذي يغذي فنه وطريقة معاملته للآخرين. وتبقى التأويلات مفتوحة ومتنوعة من قارئ إلى آخر ما دام النص ليس محصورًا في فكرة واحدة فقط، بل إنه كالمتاهة الفكرية التي تستدرجك للتفكير مرتين في قراءتك للنص قبل إنهائه.

 

اقرأ/ي أيضًا:

أمجد ناصر في "هنا الوردة".. مساءلة التغيير

سامح درويش.. السّارد الذي انتهى إلى الهايكو