29-أبريل-2016

عمل لـ قادر عطية/الجزائر

تفتقد الساحة الأدبية في الجزائر إلى رصد حقيقي للولادات الإبداعية الجديدة، بما ينجرّ عنه من احتفاء وتثمين، في ظل استقالة غير مبررة لمخابر البحث الجامعية، وانفتاح المنابر الإعلامية على شلة معينة، تراهن في حضورها على ما هو خارج النص، وإقبال المهتمين بالنقد، على ما هو قادم من الخارج، أو ما هو متوقف عند عتبة زمنية معينة، ما عدا حالاتٍ قليلة في هذه الأقاليم الثلاثة.

في ظل هذا الواقع المأزوم، يصدر كتاب يُشكل قطيعة جمالية مع السائد، ولا يُنتبه إليه أحد

في ظل هذا الواقع المأزوم، بات ممكنًا لصوت إبداعي متميز، أن يصدر كتابًا يُشكل قطيعة جمالية مع السائد، فلا يُنتبه إليه، وإن تم ذلك فبنية التثبيط أو التتفيه، إلا إذا وجد نافذة أجنبية يطلّ من خلالها، ليحمي حضوره من آلة التغييب المبرمج، في بلد يعرف عدد مواهبه المهاجرة، ويجهل تلك التي بقيت على قيد الإبداع والانتظار في الداخل.

اقرأ/ي أيضًا: البوكر.. دعوة إلى المراجعة

بعيدًا عن ضجيج الملتقيات والمهرجانات المحكومة بمعاييرَ غير إبداعية، وداخل زاوية ضيقة في الفيسبوك رغم اتساعه، يطلع الشاعر محمد بن جلول (1977)، ليزرع ومضاته ويمضي، غير آبهٍ بعدد الإعجابات والتعليقات التي عادةً ما تكون قليلة، بحكم أن أزمة الواقع الثقافي الجزائري انتقلت إلى الافتراضي أيضًا، فأضحى إبداء الإعجاب مثلًا، مرتبطًا بالمصلحة لا بالذوق. هنا التقطت "دار ميم" ليل الفتى الخجول، ونشرته على طاولة القراءة والضوء، في الدورة الأخيرة لمعرض الجزائر الدولي للكتاب.

لديوان "الليل كله على طاولتي" أربعة وجوه هي "غبار لقاء قديم"، و"ميّت تأخر عن موعد جثته" و"ندوب بيضاء داخل قبعتي" و"تمارين صغيرة في القبض علي"، لكنها وجوه تشترك في ملامحَ متقاربةٍ تحيل على ذات لفّها الظلام، حتى تصالحت معه، ليس بوصفه خطابًا سوداويًا، بل بصفته محفزًا على التنقيب داخله عن نقاط الضوء، فالشاعر ينتصر بالضرورة إلى شفافية الأضواء، وانسجامًا مع نزوعه إلى التمرّد، فهو يفضل أن يخلق نهاراته بنفسه.

اقرأ/ي أيضًا: قتلتُ لأنني أردتُ أن أحيا

يتعامل الشاعر، في هذه التجربة الثانية، بعد تجربته الأولى "أوجاع باردة"، مع أشياء لا يدري إن كانت حقيقية فعلًا، أم هي مجرد صور وخيالات لأشياء اندثرت، أو لم تولد بعد، وينطبق هذا الحكم على ذاته ذاتها، غير أن ذلك لا يمنعه من التواصل معها، ومحاولة القبض على لحظتها باللغة، وحين يتأتى له ذلك، وقلما يستطيع، يرفع عنها يده، لتنضم إلى أسراب الشك التي تحلّق في سماواته. إنها القصيدة المحكومة بروح الشك وعلامات الاستفهام: "لا نوارس على السقف/ كما أن هذا الأزرق ككيس نفاياتٍ/ لا يعني أنه البحر".

هل يملك الإنسان روحًا مستقلة؟ أم هي صدىً لأرواحِ ما يحيط به من أشياءَ ومشاهدَ وحالاتٍ؟ 

هل يملك الإنسان روحًا مستقلة؟ أم هي صدىً لأرواحِ ما يحيط به من أشياءَ ومشاهدَ وحالاتٍ؟ سؤال تطرحه نصوص بن جلول، وتتوخى الإجابة عليه، من خلال اختبارات عديدة، يأتي على رأسها اختبار قدرة الذات الكاتبة على الامّحاء. كل ذات لا تمحو ذاتها، ثم ترسمها من جديد بالكلمات، هي ذات تروي لا تكتب، وشتان بين الحالتين في منطق الشعر/ النص. "سأقول لتلك الأشياء المتلألئة في الغرفة: امنحيني بريقك قليلًا، كي يراني عابر ويهتدي بي. أيتها النجوم المقعصة مثل سجائر فوق الطاولة، ما منحتِه لرجليَّ كان أجنحة".

فالشاعر يترك خلفه أو تحته، المهم في زاوية الإهمال، كل المساطر والقواعد والوصايا التي ورثها عن القبيلة/ المؤسسة، بكل مفاهيمها، ويجترح لنفسه لغة ورؤية ومنطقًا وميولًا وفلسفة، من غير مراعاة الرفض أو القبول، فالخيار كان واضحًا منذ البداية: الكتابة لقول جرحٍ/ حلمٍ لا فكرة، من هنا تمد القطيعة مخالبها، لدى جيل بن جلول، جيل ما بعد الإرهاب والأيديولوجيا، لتعلن سلطة الذات في وجه سلطة الجماعة، وتحتكم إلى بوصلة تشير إلى كل الجهات لا إلى جهة واحدة فقط: "لا باب لحفرتي/ كالفأر أبني ممراتٍ كثيرة/ وأفتح داخلها غرفًا فسيحة".

اقرأ/ي أيضًا:

ما بعد إسرائيل.. تشريح الذات الصهيونية

أسوأ شخص في الاتصالات