04-فبراير-2019

الشاعر محمد المطرود (ألترا صوت)

في كتابه الجديد "آلام ذئب الجنوب" (دار ميسلون، إسطنبول 2019)، يبدو الكاتب والشّاعر السوريّ محمد المطرود مصرًّا على كتابة نصوصٍ مُتفلِّتة من أي تصنيفٍ كان.

في "آلام ذئب الجنوب"، يكتب محمد المطرود نصوصًا مُتفلِّتة من عبء التصنيفٍ

لا تبدو نصوص الشّاعر المقيم في ألمانيا شعرًا كما كتبَ قبلًا، ولا هي نوع من السرد أو قصص قصيرة أو يوميات كذلك؛ بل يمكن ربّما القول إنّها خليط من كلّ ما سبق ذكرهُ، يُحاول المطرود من خلالها إنجاز نصٍّ يبدو للقارئ متعدّد الأغراض والمهام، ولكنّه، في المجمل، نصّ معنيّ بإعادة ترميم الذاكرة بالدرجة الأولى، كعتبة أوليّة لإعادة كتابة سيرة مكانٍ لا يبدو إلّا مكان/ أرض الشّاعر الأوّل/ الأولى. والتي ليست إلّا جزءًا من بلادٍ تغرقُ في أتون حربٍ غيّرت ملامح ما كان قائمًا في زمنٍ مضى.

اقرأ/ي أيضًا: مكتبة محمد المطرود

يستعيد صاحب "اسمه أحمد وظله النار" صورة ذلك المكان، في شمال شرق سوريا، مع أنّه بات مكانًا مفقودًا. ولا نقصد بالفقد هنا زوال المكان، بل إنّ المكان نفسه لم يعد ملموسًا أو مُعاشًا، وأنّ الكاتب يكتب من غربته عنه بالدرجة الأولى. لذا، تغيب بعض ملامحه في النص، أو الدقيقة منها على وجه التحديد، لصالح أخرى مستعارة تأتي كتعويضٍ عن الأولى، ويُعيد عبرها تأسيس المكان، مستندًا إلى ما قيل عنه، ورُويَ حوله: أساطير وحكايات خرافية تشارك السكّان تأليفها، وأعادوا صياغة أحداثها على مرّ سنواتٍ طويلةٍ مضت.

استعادة هذه الحكايات، بلغةٍ مجازية، وحضورها كجزءٍ من عملية إعادة تأسيس صورة المكان داخل النص، يُظهر الأخير كأنّه رثاء للأوّل، أي المكان. ومن جهةٍ ثانية، يبدو النص رحلة مضنية فيما حضر من تضاريس مسقط رأس المطرود.

القارئ مدعوٌ دون شك إلى اكتشاف المكان بصورةٍ مُغايرة. يقول محمد المطرود: "ينحدر الجبل في الجنوب مثل أفعى كبيرة صوب بحيرة خاتون، يحدّ هذه البرية السراب من الجهات كلها والخيّالون الذاهبون إلى شأن القبائل والعشق المكتوم في سيرة البدو الأشاوس (...) تتناثر البيوتات السوداء، لها لغة واحدة هي الحداد، أمّا اللغة الأم لغة السرّ فلها شأن آخر وميعاد آخر" (ص 29). نص كهذا يؤكّد فكرة فقدان المكان وحضوره في ذهن كاتبه كخيالاتٍ عابرة، أو صورٍ متقطّعة يحاول بنفسه إكمالها، وتعويض ما يشوبها من نقص.

المكان، أي مكان، يفقد حضوره المُعتاد إن غاب بشره دون شك، فيفقد بذلك الصورة الأولى التي مُنِحت له. هكذا، يصير من الصعب استحضاره بما هو عليه الآن لغرض وصفه أو تشكيل صورته. محمد المطرود أدرك ذلك، وكجزءٍ من استعادة وتكوين صورة جنوب الردّ، بأقل نقصٍ ممكن، وظّف شخصية تحضر في أغلب نصوص الكتاب، ومن خلال تجوالها بين بقعةٍ وأخرى، تتناسل مرويات وتفاصيل ذلك الجنوب الذي ينفتح على حكاياتٍ متعدّدة، فنقرأ مثلًا عن حارسة آبار البرية التي توقظ نارًا كبيرة في الجوار، لتهبّ إليها كلّ مخلوقات السهل الممتد. ونقرأ عن ذئبةٍ تتناهب النسوة أعضاءها، وللفرج هنا مكانة خاصّة، إذ يُعاد تدويره ليكون ما يضمن للنسوة وفاء أزواجهنّ.

يستعيد محمد المطرود صورة مكانه، في شمال شرق سوريا، مع أنّه بات مكانًا مفقودًا

الشخصية التي وضعها محمد المطرود في نصوصه هي شخصية أسطورية دون شك، ونتاج الحكايات الخرافية المتداولة في مكانٍ كذلك الذي يستعيده. فهي: "شاهدة العيان لموت طويل كسنين الجوع"، ومن تميّز بين: "حجر خامل وخرز كريم، بين شعبة سامة وأخرى تصنع سحرًا أبيض"، وهي من يناشدها الشّاعر قائلًا: "الأخضر يا فتنة صادم هنا، ولا يفتح شهيتي على الأفراح، قولي لهم، لو فيهم أحد مؤمن بالحنين ومصدّق لما بين يديه، أن يعيدني إلى صحرائي ولو جثةً، ولو بقايا قميص عليه أثر لدم قديم" (ص 18). يؤكّد حنينه إلى المكان، المكان الأوّل، بنصٍ آخر يقول فيه من منفاه: "أنا ابن صحراء، وهذا الأخضر لا يشدّني إليه" (ص 21).

اقرأ/ي أيضًا: القيامة الآن

هكذا، يكتب محمد المطرود سيرة المكان إذًا، مكانه الأوّل، وفردوسِه المفقود. ومن خلال هذه السيرة، يكتب أجزاءً من سيرة ذاتية غير مكتملة، فيبدو أنّ هذا النقص هو ما يميّزها، بعد أن توزّعت بين مكانٍ وآخر، وبين متناقضاتٍ شتّى، تنضوي ضمن القلق والطمأنينة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

محمد الماغوط.. شاعر الشفوية المضادة

ركن الورّاقين: أقوال في الكتب والكتابة