03-مايو-2017

المفكّر أحمد الطالبي (1921 - 2017)

لم تكنّ لتمرّ سحابة الحزن التي خيّمت على الساحة الفكرية والجامعية التونسية بوفاة رائد نقد الأدب العربي توفيق بكار، حتّى عادت بعد أقل من أسبوع، وزادت قتامة برحيل المفكّر محمد الطالبي (1921-2017) أستاذ التاريخ والاسلاميات، وأحد مؤسّسي الجامعة التونسية، حيث كان أول عميد لكلية الآداب سنة 1955. 

بالنسبة للمفكر التونسي الراحل محمد  الطالبي إما أن يكون المفكر إشكاليًا أو لا يكون

رحيل محمد الطالبي هو رحيل لقامة فكرية مثلت أيقونة للاجتهاد والتجديد في الفكر الإسلامي، خاصة وأن محمد الطالبي قد واصل الدفاع عن أفكاره والانتصار لها حتى الرمق الأخير. فلم يمنعه تقدّمه في السنّ وهو الذي تجاوز السادسة والتسعين، أن يواصل إنتاجه الفكري، فكانت آخر مؤلفاته السنة الماضية "تأملات في القرآن: الحقيقة، العقلانية والإعجاز العلمي".

اقرأ/ي أيضًا: رحيل رجاء بن عمار.. المسرح التونسي في حداد

واصل محمد الطالبي طيلة السنوات الأخيرة اقتحام ساحة الوغى الفكري، وإن ما كان في هذا الاقتحام، لدى أنصاره وأصدقائه، في غير مضربه. فمحمد الطالبي الذي ساهم في تأسيس الجامعة التونسية، والذي له الفضل في تكوين أجيال من الأكاديميين، وهو الأستاذ المعلوم بعطاء لا يقابله جزاء، كان "نجمًا" في تونس في السنوات الأخيرة، بيد أنها نجومية كريهة في الشارع التونسي، ليس كنجوميته الباهرة داخل أسوار الجامعة. ومردّ كراهة النجومية الأولى باقحامه في مهاترات "الشو الإعلامي" باستضافته في برامج شعبوية لا تهدف للنقاش الراقي، ولا يحضرها أصحاب كفاءة علمية، هي برامج هدفها إثارة جدل المصارعة الكلمنجية الباحثة عن نسب المشاهدة لا المقارعة الحجاجية المتزّنة. 

وبذلك اكتشف طيف واسع من التونسيين محمد الطالبي كنجم مثير للجدل بتصريحاته الإعلامية الجريئة على غرار موقفه من البغاء والخمر، لا كمفكر ساهم في إثراء المكتبة التونسية منذ أولى كتاباته قبل زهاء ستين سنة، وله عشرات المؤلفات في التاريخ والحضارة والمقارنة بين الأديان. فمات محمد الطالبي قبل أن يموت، فيا ليته ظلّ في ركنه العتيد، هكذا يجازف أصحابه في قول قد لا يأتيه إلا ردّ فحواه: المفكرون الكبار لا يهابون المواجهة، فمحمد الطالبي لم يستسلم وواصل خوض معركة الوعي بشجاعته المعهودة. فالمفكر إشكالي أو لا يكون.

والحديث عن الشجاعة لدى محمد الطالبي لا تنحصر في طرق ما يبين مقدسًا أو خطًا اصطبغ بحمرة الممنوع، وهو الذي واصل الانتصار لمشروعه الفكري برباطة جأش رجل محارب لا مستكين، حيث كان شجاعًا في مواجهة نظام الاستبداد. فلم يرم بنفسه في أحضان السلطة، ولم يطمع حتّى لتجسيد مشروعه من موقع وزارة، كما فعل زملاء له وبرّروا انحيازهم للسلطة الحاكمة، وإن أدار محمد الطالبي اللجنة الوطنية الثقافية في آخر سنوات بورقيبة، غير أن ذلك لم يمنعه من أن يكون حادّ الموقف منه.

جسدّ الراحل محمد الطالبي التوجه الإصلاحي في المجال التونسي العام

كان محمد الطالبي ضد السلطة الفكرية، وهو الذي دعا للجرأة عليها بقولته المؤسسة "الحريّة ديني" بحثًا عن إسلام مارس لعقود حرية اكتشافه بعيدا عن سطوة قول القدامى. كما كان محمد الطالبي ضد السّلطة السياسية، حيث ساهم في تأسيس "المجلس الوطني للحريّات" نخبة جمع من الحقوقيين نهاية التسعينات، وذلك في أوج ممارسات انتهاكات حقوق الإنسان زمن بن علي. فكان أمينًا لفكرته المؤسسة، وهي الحرية، والتي لا تقبل عنده أي مساومة.

اقرأ/ي أيضًا: توفيق بكّار.. رحيل عرّاب النقد التونسي

كان ثائرًا لأبعد حدود، حيث تصعب قولبته، وإن بدت عنده مفارقات، فهي من باب أنه لا يعترف بسلطة تقيّده أو بقالب يشدّه. فالفقيد وهو رائد الفكر الإصلاحي في الساحة الفكرية، معاد شرس لنظام الحبيب بورقيبة، أول رؤساء تونس، والذي جسدّ التوجه الإصلاحي في المجال العامّ. فلم يتردّد محمد الطالبي في اعتبار بورقيبة "طاغوتا". وقد انضمّ المفكر الراحل بعد الثورة لحزب نداء تونس الذي يتبنى الطرح البورقيبي، وذلك قبل أن ينسلخ عنه لرفضه "تجديد الفكر الإسلامي". هكذا هو محمد الطالبي، لا يعرف قعودًا ولا يعترف برضوخ.

تفقد الساحة الفكرية التونسية والعربية بوفاة البروفيسور محمد الطالبي أحد قاماتها، تاركًا خلفه عشرات الكتب والدراسات، ومخلفا بصمة ستظلّ باقية في الفكر الإسلامي. هو الذي كان يناجي الله باسم الإنسان في "عيال الله"، فحتى إن كانت لمسيرته الفكرية مسمّى فهو كاشف عن نفسه في عنوان مؤلفه الشهير "مرافعة من أجل إسلام معاصر".

 

اقرأ/ي أيضًا:

بشار إبراهيم.. صندوق الذاكرة السينمائية

بحثًا عن جذور الجهاد في الغرب