محمد الصغير أولاد أحمد.. "شاعر البلد" التونسي يتوَّج بجائزة محمود درويش

"لن أحبَّ سوى ما لا يُحبُّ/ وأعرفُ خاتمتي جيّدًا:/ عاقلٌّ يسألُ الناسَ عن اسمهِ/ أو/ حديثُ الزمانْ".

عبر هذا المقطع الشِعري من قصيدة "أعرف خاتمتي جيّدًا"، يختزل الشاعر التونسي محمد الصغير أولاد أحمد (1955 – 2016) المسافة بينه وبين القارئ. فقد عُرف بمواقفه الثابتة في مقاومة الظُلم والاستبداد في بلاده، فتعرض للمضايقات الأمنية بل والفصل من وظيفته. وأصبحت قصائده بمثابة الخبز اليومي للحالمين والمتطلعين لغدٍّ أفضل، فكان شاعر الثورة التونسية قبل أن تندلع. ولذا قررت لجنة تحكيم "جائزة محمود درويش للشعر والأدب والفنون" تكريمه في دورتها الأولى عن مجمل أعماله الشعرية والأدبية ومسيرته الإبداعية والوطنية الحافلة. وقال رئيس لجنة تحكيم هذه الجائزة عبد الحميد لرقش لوكالة تونس أفريقيا للأنباء (وات): "إن حفل تسليم الجائزة وتكريم عملاقي الشعر العربي الراحلين، الفلسطيني محمود درويش (1941 – 2008) والتونسي الصغير أولاد أحمد (1955 – 2016)، سيُنظم في الثالث عشر من حزيران/يونيو بمكتبة "الكتاب" بالميتيال فيل بتونس العاصمة. وسيُقام الحفل بحضور زهور زوجة أولاد أحمد وابنتهما كلمات وسيكون الشعر والأدب العربي بشكلٍ عام في صُلب هذا الحدث الذي ستتخلله قراءات شعرية من قصائد أولاد أحمد ودرويش بصوت وغناء الفنانة والموسيقية عائدة نياتي".

بفضل إتقانه الاستثنائي للتقاليد الشعرية العربية، وإعجابه اللامحدود بأساتذة الأدب، وعبقريته اللفظية التي تجمع بين الدقة والجمال، والتزامه الإنساني، فرض الصغير أولاد أحمد نفسه كشاعر متكامل، وشخصية لا يُمكن تجاوزها في الشعر المعاصر

ويرأس اللجنة العلمية لجائزة محمود درويش للشعر والأدب والفنون المؤرخ الجامعي عبد الحميد لرقش، وعضوية كل من لطيفة لخضر مؤرخة ووزيرة ثقافة سابقة، وفوزي محفوظ مؤرخ ورئيس كرسي ابن خلدون. ويقدم "لرقش" الشاعر أولاد أحمد على أنه "شاعر بوهيمي بامتياز"، مضيفًا أنه كان "الأكثر شعبية والأكثر حبًّا بين النخب المثقفة في تونس وفي جزءٍ كبير من العالم العربي وخاصة الفلسطيني"، وأضاف: "بفضل إتقانه الاستثنائي للتقاليد الشعرية العربية، وإعجابه اللامحدود بأساتذة الأدب، وعبقريته اللفظية التي تجمع بين الدقة والجمال، والتزامه الإنساني، فرض الصغير أولاد أحمد نفسه كشاعر متكامل، وشخصية لا يُمكن تجاوزها في الشعر المعاصر".

وعن علاقته بالشاعر الفلسطيني محمود درويش صرَّح لرقش قائلًا: "أصبحت صداقته مع الشاعر الفلسطيني محمود درويش أسطورية وتبرر هذه الجائزة إلى حد كبير"، مشيرًا إلى أنه "في عام 1995 عندما كان أولاد أحمد مديرًا لبيت الشعر، أشاد بالشاعر الفلسطيني واعتبر نفسه تلميذه".

سنوات الدراسة والعمل

في مدينة سيدي بوزيد المعروفة بمهد الثورة التونسية، وُلد "أولاد أحمد" في الرابع من نيسان/أبريل عام 1955 لأسرة متواضعة الحال، خلال مرحلة مخاض عسيرة شهدتها البلاد أثناء خروج الاستعمار الفرنسي. وكعادة أبناء الأُسر يسيرة الحال، بدأ تعليمه في كُتَّاب القرية. فحفظ القرآن الكريم وتعلَّم أساسيات القراءة والكتابة والخط العربي. وذلك قبل أن يحصل على الشهادة الابتدائية من إحدى مدارس منطقة "النوايل" التابعة لسيدي بوزيد عام 1968. ثم انتقل إلى محافظة "قفصة" لمتابعة الدراسة، قبل أن يستقر في العاصمة التونسية ويلتحق بالمدرسة العُليا لأُطر الشباب بمنطقة "بئر الباي" بين عامي 1975 و1977 ومنها حصل على شهادة مُنشِط شباب. قبل أن يعود إلى سيدي بوزيد مجددًا ويحصل على شهادة البكالوريا عام 1978 ويسافر إلى فرنسا لدراسة علم النفس في جامعة "رامس".

لم تكن حياة "أولاد أحمد" المهنية في أفضل حالتها، فبعد أن عمل منشطًا في دور ثقافية عرف البطالة في الفترة من 1987 إلى 1993. كما عمل ملحقًا بوزارة الثقافة التونسية من 1993 إلى 1997. وذلك قبل أن يؤسس ويترأس بيت الشعر التونسي من 1993 حتى 1997. كما كتب لصحفٍ ومجلاتٍ أجنبية ومحلية.

الشعر ماء الحياة

والده كان حكَّاءًا بارعًا يعرف كيف يوظف الحكاية ويعيد طرحها بأسلوب جذَّاب؛ أخذ عنه أولاد أحمد حِرفة الحكي وتشكيل الكلمات. انفتح على التجارب الشعرية المعاصرة: سعدي يوسف ومحمود درويش وعبد الوهاب البيَّاتي وناظم حكمت. كان مولعًا بأشعار أبي القاسم الشابي ومنوَّر صمادح ورافقت لمدة زمنية بعيدة أشعار المتنبي وامرؤ القيس. جاءت قصائده انعكاسًا لثقافته ومواقفه، فيما يُمكن أن نطلق عليه "التزامًا" لكن في معناه الأوسع، حيث تمتزج قيم الثورة والجمال. لقد أراد أن يعيد يكون الشِعر جزءًا من الحياة اليومية، لا هامشًا على متنها. ولذا بدت أشعاره محاولات حثيثة، لإعادة الأشياء إلى وضعها الصحيح وترتيب الفوضى المبعثرة من حولها. أراد "أولاد أحمد" أن تكون قصائده بسيطة في عُمقها وعميقة في بساطتها. تأخذ مفرداتها من إيقاع الحياة اليومية وتنشد التقشف الاستعاري. أليست الحياة التي نعيشها يوميًّا هي مجاز في حدِّ ذاتها؟ هذه البساطة الممزوجة بطاقة الصدق لديه وعشقه لتراب المكان الذي تربي عليه، هي التي جعلته "شاعر البلد" بامتياز أو كما عُرف في الوعي الجمعي التونسي بأنه أبرز الشعراء وأكثرهم جماهيرية بعد أبي القاسم الشابي شاعر الإرادة والحياة.

عُرف "أولاد أحمد" بديوانه "نشيد الأيام الستة" (1984) والذي مُنع وبقي محجوزًا عليه حتى عام 1988. أصبحت الأناشيد ملح الأيام للمواطن التونسي والذي وجد فيها متنفسًا لما ضاق به صدره. وإن كان لا بد لكل شاعر من نصٍّ تعريفي، فإن مقاطع هذا العمل طافت شهرتها أرجاء البلاد: "كتبَ الصَبّيُ إلى أبيهِ يقولُ: يا أبتِ، بلادي لستُ أعرفها/ ويعجبني مزاجي/ كلما سألَ المعلمُ: من أنا؟/ قلتُ الذي يحتاجُ أجوبةً لكي يلغي الرحيلا/ وأنا: أنا/ لا أعشق الرؤساءَ لكنني سأمشي في جنازتهم قليلا".

تميّز صاحب "حالات الطريق" عن كثير من الشعراء لدينا بأنه كان أكثر وأخطر من دفع بإمكانية أن يكون المرء "شاعرًا" إلى النهاية. لقد جازف بذلك ضد نفسه الجسدية قبل أن يجازف بذلك ضد أي نوعٍ آخر من السُلطة

يقول عنه الناقد فتحي المسكيني (مجلة الدوحة، العدد 119، أيلول/سبتمبر 2017): "تميّز صاحب "حالات الطريق" عن كثير من الشعراء لدينا بأنه كان أكثر وأخطر من دفع بإمكانية أن يكون المرء "شاعرًا" إلى النهاية. لقد جازف بذلك ضد نفسه الجسدية قبل أن يجازف بذلك ضد أي نوعٍ آخر من السُلطة".

أتبع "ولاد أحمد" ديوانه السابق بمجموعة من الأعمال الأخرى منها: "ليس لي مشكلة" (منشورات سيراس، 1989)؛ "تفاصيل" (منشورات بيرم، 1989)؛ "جنوب الماء" (منشورات سيراس، 1991)؛ "الوصية" (منشورات أولاد أحمد، 2002)؛ "حالات الطريق" (2013)؛ "قيادة شعرية للثورة التونسية" (2013). كما تُرجمت بعض هذه الدواوين إلى اللغة الفرنسية ونشرت دار نيرفانا للنشر مجموعة قصائد مختارة في عام 2016 تكريمًا لذكراه." وله كذلك "مسودة وطن – أولاد أحمد" وهي مختارات شعرية باللغة الفرنسية من أعماله؛ ترجمها أيمن حسن وقدم لها منصف المزغني مع مقدمة لأدونيس. وصدر هذا الكتاب المكون من 108 صفحات في أبريل/نيسان 2021 عن دار "مانيفيست" للنشر بالاشتراك مع "لو ميرل موكور" (فرنسا). وجاء في وصف هذه المختارات: "على عكس معظم شعراء جيله العرب، لم ينخرط أولاد أحمد شعريًّا في السياسة، بل انخرط في الشعر سياسيًّا".

عاش "أولاد أحمد" مهمومًا بالقبض على اللحظة الشعرية، حيث الفرادة والفكرة المبتكرة هي جوهره الشعري. كأن يقول في حديثه مع الشاعرة اللبنانية عناية جابر (السفير، 16 تشرين الأول/أكتوبر 2012): "في الشعر لا يكون الزمن تاريخيًّا، بحيث ينقسم إلى ماض وحاضر ومستقبل. الشاعر الفرنسي برنار نويل يقول في هذا السياق: "أتذكر المستقبل جيدًا". إذن، الكتابة الشعرية هي محاولة للإمساك باللحظة التي يسميها مارتين هيديغير، اللحظة الفريدة والمتمردة. لست مع الذين يقولون: "ليس بالإمكان أفضل ممّا كان" لأن هناك معاني جديدة أصيلة يمكن استنباطها. إذًا، غاية الشاعر كإنسان، وكمبدع هو الوصول إلى فرادة في الأسلوب، حتى يُخلد في ما بعد".

جوائز وتكريمات

خلال حياته التي توزعت بين الشعر والمقاومة، حصل "أولاد أحمد" على جائزة قرطاج العالمية للشعر عام 2011 ضمن إطار الملتقي التونسي الإسباني الأول للثقافة، لكنّه كان قد رفض جائزة الاستحقاق الثقافي من الرئيس التونسي زين العابدين بن علي عام 1993، تقديرًا لجهوده في إنشاء بيت الشعر التونسي.