12-أغسطس-2015

داعش ليس مشكلة إسلامية، بل مشكلة الدولة العربية الحديثة

يعد الباحث والمترجم المصري محمد الدخاخني، من أبرز الباحثين الشباب في مسائل الفكر العربي الحديث والمعاصر. صدر له، مع آخرين، كتاب: "المرأة في المجتمع السعودي، مداخل متعددة". كما شارك في كتابة عدة أوراق بحثية مع مؤسسات عديدة، بالإضافة إلى مساهمته بالعديد من المقالات في عدة دوريات عربية.

الفصل بين السياسي والثقافي هو نوع من الردة أو العودة عن منجزات الانتفاضات العربية

ما زالت العلاقة ما بين الثقافي والسياسي في البلاد العربية، شائكة، بقدر كبير، وخصوصًا في مرحلة ما بعد الانتفاضات العربية، فكيف تنظر إلى هذه العلاقة؟

نتيجة للهزائم المتلاحقة التي مُنيت بها الانتفاضات العربية، بغض النظر عن الاستثناء التونسي، وهي الانتفاضات التي وسَّعت من مساحات السياسي والدنيوي في وعي المواطنين العرب، جرت وما تزال تجري محاولات ارتكاسية ونكوصية عن حجم السياسي الذي تم اكتسابه، ومن علامات ذلك فك الارتباط بين الثقافي والسياسي، فيروج لنا الآن الفن والثقافة كموضوعات معزولة السياسة".

إذا كانت الانتفاضات العربية قد نجحت في كشف هشاشة وارتباك الكثير من المنظرين والكتاب والفنانين، فإن ما نُدعى إليه حاليًا، بعد موجة الفصل بين الدين والسياسة، أي بعد موجة "الرجعية التنويرية"، هو نوع من الفصل بين الثقافة والسياسة من أجل تبرئة ساحة العديدين أمام الأحداث المتلاحقة التي نواجهها، ومن أبرز الأمثلة على ذلك، ركون البعض ممن أسميهم بـ"النخبة المصرية الجديدة" إلى الحديث عن "موت الجمهور"، أي عدم أهمية القرّاء والمشاهدين وعدم أخذهم في الاعتبار، وكما هو معلوم، فالجمهور هو أبرز ما أنتجته هذه الانتفاضات.

ما أريد قوله باختصار، هو أن الفصل بين السياسي والثقافي هو نوع من الردة أو العودة عن منجزات الانتفاضات العربية، ولا أدع هنا إلى تسييس الثقافي تمامًا، كما أرفض تسييس الديني، لكن ما أدع إليه هو "لا انعزالية الثقافة" والفن، لأن الانعزالية التي يتم الترويج لها لن تنتهي إلا بعدمية سوداء. المثقف الذي تم جرح نرجسيته في الجو السياسي، يريد أن يعود مرة أخرى إلى كهفه الثقافي الشفيف المتوهم.

يتردد منذ عقود مصطلح "الفاشية الإسلامية"، كيف تقرأ هذا المصطلح في ظل ازدياد الترويج الهائل له، في الأعوام الثلاثة السابقة في مصر؟

هو مصطلح تم سكِّه منذ عقود، لكن جرى استقباله والترويج له في نصف السنة الثاني من حكم محمد مرسي، ضمن شتى الشعارات التي ووجه بها هذا الحكم، وتم بيعها للجماهير، وحقيقة الحال أن من ينطبق عليه هذا التوصيف هو نظام ما بعد "30 يونيو"، الذي كانت مشكلته مع الإخوان المسلمين أنهم لم يكونوا "مسلمين كفاية"، أي "مسلمين مصريين"، هذا ما نجده في مختلف خطابات المؤسسة الدينية الرسمية، الأزهر الشريف، و"الدعوة السلفية"، التي دعمت هذا الانقلاب، وأضفت عليه الشرعية الدينية، من خلال القول بأن الإخوان خارجين عن الإسلام الصحيح، الوسطي والسمح.

أثناء كتابتك حول مآلات الانتفاضات العربية، خصصت أكثر من مقالة حول ما تنظيم داعش، فكيف تناولت هذه المسألة؟ 

ضمن هذه الموجة في ملاحقة ما يسمى بـ"الفاشية الإسلامية"، يتم الحديث عن "داعش"، باعتباره ناتجًا عن قراءة مغلوطة للدين، وبرأيي فإن داعش وغيره من حركات الإسلام العنيف، ليس مشكلة إسلامية - إسلامية أو لا يعبر عن مشكلة ثقافية، فهو يعود بالأساس إلى مشكلة الدولة العربية الحديثة، التي سيطرت عليها أقليات تتبنى سياسات اقتصادية واجتماعية تضر بمصلحة الأغلبية، وبالتالي هو نتاج لأزمة البرجوازيات العربية وليست الحضارة العربية كما بيّن لنا مهدي عامل، وهو من ناحية أخرى يعود إلى أزمة النظام العالمي الراهن، الذي يزداد فيه الفقراء فقرًا والأغنياء غنى، أي أن هناك أشياء كثيرة تحتاج إلى إعادة اختراع كالدولة والديمقراطية، قبل أن نتحدث عن إعادة اختراع الإسلام أو إصلاحه. وأنا هنا لا أبريء ساحة أحد، وإنما أرد الظاهرة إلى محدداتها.

ما زالت هناك الكثير من الخلافات بين ما يسمى بالقوى الثورية في مصر، حول الفصل ما بين "30 يونيو" و"3 يوليو"، فما رأيك؟

من يفصل بين الحدثين أو يرى في الأول موجة ثورية تالية، بدعوى أن الثوار ما كانوا ليمتلكوا امتدادت الحدث، يغيب عنه أن سؤال المعارضة ليس سؤالًا عفويًا أو جزافيًا، وإنما ينبغي أن يتحلى بالمسؤولية السياسية حتى لا تصبح المعارضة هنا من نوعية "أغبياء الصفوف الأمامية"، وهم الطيبون الذين تستغلهم الفاشيات في إضفاء الشرعية على سياستها وإجراءاتها، بدعوى أنها ستحقق مطالبها حين تستتب الأمور، وهذا هو ما ينتج عن أي تحالف تكتيكي مع خصم لدود، فما كان الثوار يلومون عليه الإخوان في 2011 عن وعي، فعلوه هم في 2013 عن غير وعي.

من المعروف أن اليسار العربي، انحسر دوره منذ عقود، تجلى ذلك بوضوح منذ مرحلة الانتفاضات العربية، فما هي الأسباب الحقيقية لهذا التراجع، من وجهة نظرك؟

ما يلوم عليه دومًا اليسار المصري، التيارات الإسلامية، هو خطابهم الهوياتي، والحقيقة أن اليسار قد انزلق إلى الأرضية الهوياتية، مقدمًا إياها على المسائل الاقتصادية والاجتماعية، فحجم النقد الذي يوجهه اليسار إلى الإسلاميين بخصوص قناعاتهم الهوياتية، يفوق بما لا يُقارن حجم النقد الموجه إليهم نتيجة رؤاهم الاقتصادية والاجتماعية المجحفة، أي أن اليسار قدم مقلوب أو معكوس شعار "الإسلام هو الحل"، ولم يطرح السؤال اللازم، أي سؤال العدالة الاجتماعية.

أعتقد أن اليسار بدلًا من أن يطرح أسئلته وأجوبته، صار ينازع الآخرين في أجوبتهم، من غير أي منطلق يساري، والسؤال الذي أطرحه على اليسار دوما: ما الفارق بين أي نقد وجهتموه إلى السنة التي حكم فيها مرسي وأي نقد آخر ليبرالي أو نيوليبرالي؟

كيف تنظر إلى السياسات الثقافية في مصر، على ضوء ما ظهر منذ حوالي عقدين بما يسمى بـ"الثقافة المستقلة"، في مواجهة المؤسسات الثقافية الرسمية؟

المثقف الذي تم جرح نرجسيته في الجو السياسي، يريد أن يعود مرة أخرى إلى كهفه الثقافي الشفيف المتوهم

من يعتقد أنه بالإمكان إثبات أو بزوغ أي أجواء ثقافية بمعزل عن مواجهة سؤالي الاستغلال والاستبداد، وأهم، بمعنى أن من يعتقد أن إغراء المطبوعات التي تصدر عن الهيئات الثقافية الرسمية، بالأفكار الأدبية والفنية والنقدية أو تلك الصادرة عن المؤسسات غير الرسمية، سيسهم في تنمية أجواء تحررية، هو مصاب بعمى نظري وسياسي أو بسعي حثيث لإدواء نرجسية مجروحة، لأنه ببساطة لا توجد حرية في معجم يلعن السياسة.

سيصدر لك قريبًا، كتاب بعنوان "الدرس القرآني: قراءة في محاولات القرآنيين وتحدياتها"، من أي زاوية تناولت هذه القضية؟

يتناول الكتاب في ضوء ما يسمى الإصلاح الديني الإسلامي، واحدة من المحاولات الأكثر جذرية، فيما يمكن أن ندعوه بالداخل الإسلامي، وأول ما يثير الخلاف في البحث هو تسمية القرآنيين نفسها. الكتاب يتناول بالأساس مشروعات "القرآنيين"، وهناك تمهيد بإطلالة تاريخية، أحاول من خلالها أن أتحرى وجود هذه المجموعة في المدونة التراثية، لدينا بعض الكتابات التي تتناول الفرق الإسلامية، تعرضت لمثل هؤلاء، وإن على نحو مختصر بالنقد والتجريح، وأيضا في هذه الإطلالة أتناول أبرز الأشخاص الذين تبنوا خطا قرانيا، لكن لم تكن لديهم مشاريع ناجزة ومكتملة.

الجزء الثاني من التمهيد، وهو الجزء المفاهيمي، أحاول فيه أن أوضح مدى التفاوت الكبير أحيانًا في المنهج والقصد بين ما نطلق عليه حديثًا "مصادر التشريع"، بينما يرى آخرون في كفاية القرآن وحده للتشريع، وترى مجموعة ثالثة كفاية أجزاء محددة من النص القرآني للتشريع، والكتاب بالأساس يتناول بعض القرآنيين ليس فقط أصحاب الخلفية الإسلامية، وإنما أيضًا من يمتلكون مرجعيات علمانية، ومن الفريق الأول يمكننا الحديث عن محمد عبده كمدشن لهذا التيار، وأيضا يمكننا الحديث عن محمد شحرور ومحمد أبو القاسم حَاج حَمد من المعاصرين، ومن الرافد العلماني، يمكننا الحديث عن هشام جعيط ومنهجيته في تأريخ السيرة النبوية وجورج طرابيشي، الذي يرى أنه لكي يصل العرب إلى "فولتير عربي" فإن عليهم أن يمروا بـ"لوثر مسلم"، وهو ما يسعى طرابيشي للقيام به في كتابه "من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث"، وهو الجزء الخامس من نقده لمشروع المفكر المغربي محمد عابد الجابري. 

وفي الجزء الأخير أتناول أهم ما يُقدم في وجه "القرآنيين" من إحراجات نقدية، أسواء من السلفية التقليدية أو الإصلاحية الإسلامية، وغايتي من البحث هو عرض لتاريخ أفكار واشتباك نظري مع ما أراه أكثر محاولة جذرية لإصلاح الفكر الإسلامي من الداخل، وبالتالي فالكتاب هو بلورة لأهم مفاهيم هذه "المدرسة" ومآزقها ومشكلاتها، إن على المنحى المنهجي أو التحديثي، وظروف تشكُّلها في مراحلها المختلفة.