15-يونيو-2018

باريس في الذكرى الـ50 لأيار 1968 (Getty)

1

بعد مرور 50 عامًا على ما حدث في أيار/مايو 1968، لا تزال الأصداء في فرنسا وأنحاء أخرى من العالم حاضرة ومثيرة للتفاعل والرغبة في فهم تلك الأحداث وتقييم حصادها وإرثها التاريخي. في أوروبا وأمريكا. إذ حفلت الصحف والمجلات والمواقع، كل على حسب سياسته، بموضوعات تناولت الحدث التاريخي من منظورات مختلفة، ركزت في أغلبها المهم على العودة إلى مَن عاصروا تلك الفترة وشهدوا لحظة الثورة العاطفية النادرة في القرن العشرين لتغيير العالم، قبل أن يلحق بها في عقود لاحقة طبقات متكاثفة من ضباب التأويلات الذاتية وتهويمات الأيديولوجيات المتعارضة. في أوقات مثل تلك التي نحياها الآن في عالمنا العربي، وفي ظل وضع عالمي مأزوم، يشبه، بكثير من التجاوز، الإطار العام للحظة أيار 1968، تصبح العودة إلى فهم ذلك التاريخ واجبة، أو ضرورية، وهذا أضعف الإيمان.

عندما تتزامن اضطرابات في القارات الخمس مع اختلاف مستوى النمو الاقتصادي، يقول التفكير السليم إننا أمام أزمة عالمية وليس أمام مجرد تصدّعات محلية

"ثورة الشباب" بالنسبة لبعض المحللين و"الراديكاليين" العرب هي التعبير عن مرحلة ما بعد هزيمة المشروع العربي للتحرير بواسطة أنظمة رفعت لواء القومية. للراديكالي عربي، هجوم التيت في فيتنام ومقتل إرنستو تشي جيفارا. بالنسبة للقوة المعادية للإمبريالية، اقتحام قوات حلف وارسو السوفيتية، وإنهاء ربيع براغ، وتنصيب حكومة بالقوة، ونهاية وهم الديمقراطية الشعبية، وانتفاضات حركة الحقوق المدنية بعد اغتيال مارتن لوثر كينج، واحتلال "الكامبوس" الجامعي من قبل الطلاب الغاضبين في جامعة بيركلي في بلاد العم سام ومثيله في أثينا ونيو مكسيكو وبيونس آيرس.

اقرأ/ أيضًا: على الإمبراطورية اللاتينية أن تثأر

كان الثور الذي يحمل العالم على قرنيه يتململ. هكذا كان ما يبدو عليه الوضع، حسب التوصيف السابق لشكسبير على لسان هاملت في ظروف مسرحية سابقة على المجتمع الصناعي. ماذا حدث وكيف ولم؟

يدخل الناس منذ عصر الكتابة في الأحداث، تُدخلهم يد الله، وهم يتوهمون بأنهم يفعلون أشياء، بينما الشروط التاريخية للتطور وتناقضاته تقوم بترسيخ أشياء أخرى. الذين كانوا يأسسون مملكة الله على الأرض، أدّى عملهم ببساطة لتأسيس الإقطاع، والذين دافعوا عن الكتاب المقدس في مواجهة الكهنة، كانوا يمهدون الطريق لحكم رجال المال والبنوك، والحرية والإخاء والمساواة فتحت الباب لدخول الإمبراطور الكامل السيطرة. ويظن البعض أنه لم يكن أمام سبارتاكوس سوى أن يصبح هو نفسه مالكًا للعبيد. "الهيروغرافية" المعاصرة التي فكّ طلاسمها كارل ماركس تقول بألا يتجاوز التاريخ طور التطور الفعلي للقوى المنتجة ولا التناقضات الفعلية لعلاقات الإنتاج. قدر الله وما شاء فعل.

عندما تتزامن اضطرابات في القارات الخمس مع اختلاف مستوى النمو الاقتصادي، يقول التفكير السليم إننا أمام أزمة عالمية وليس أمام مجرد تصدّعات محلية، فما طبيعة الأزمة التي أنتجت حدث الـ68؟

2

هناك فرضيات فرنسية بالأساس تحدثت عن أزمة شكل الحكم الديغولي الرئاسي وكذلك أزمة الأخلاقية المحافظة الكاثوليكية، ودعونا نناقش المسألة من وجهة نظر مختلفة نوعيًا عن التحليل الخاص بالبني الفوقية. بعد تدشين مشروع مارشال وبعد عشرين عامًا من النمو غير المسبوق، الذي استوجب توسعًا هائلًا في المؤسسات التعليمية وتغيير الأهداف من العملية التعليمية من تعليم العلوم الإنسانية للعلوم التكنولوجية، دخل "الماندران" في فرنسا في أزمة تشغيل وحتى في أزمة قيمية فلم يعد جهاز الدولة في حاجة إلى أدباء وفلاسفة وإنما لمهندسين ورياضيين، ودخلت الفئات السابقة من المتعلمين في أزمة وجودية عبّرت عن نفسها في مقولات الستينات لسارتر وميرلو بونتي ثم البنيوية وتبعاتها، وكانت المقولات الأنطولوجية لهؤلاء هى الوقود الأيديولوجي للمتمردين الجدد في الجامعة.

كان شكل الحكم الديغولي قد تم تجاوزه بعد حل أزمة الجزائر لدرجة أن الجنرال دخل في دورة ثانية لانتخابات الرئاسة مع فرانسوا ميتران في انتخابات 1966

من ناحية أخرى توسعت صفوف الطبقة العاملة بنوع جديد من العمال المتعلّمين في معاهد التكوين الفني، وكذلك اضطر عدد لا بأس به من المتخرجين من المعاهد النظرية للولوج في "إعادة تكوين" حتى ينخرطوا في سوق العمل، ولم تعد النقابية القديمة تتسع لهؤلاء (CGT وتفرعاتها) فكان تأسيس نقابية ديمقراطية (CFDT وهي نقابية كادر بالأساس).

اقرأ/ي أيضًا: "دعونا نتفلسفْ".. كيف سار عظماء الفكر عكس التيار

ثالثًا، كان شكل الحكم الديغولي قد تم تجاوزه بعد حل أزمة الجزائر لدرجة أن الجنرال دخل في دورة ثانية لانتخابات الرئاسة مع فرانسوا ميتران في انتخابات 1966، وبدأت تتشكل تجمعات سياسية جديدة مثل الحزب الاشتراكي الموحد تدعو لتجاوز الديغولية، وكذلك على الناحية الأخرى، تقوّى اليمين التقليدي بزعامة فاليري جيسكار ديستان.

باختصار، كانت هناك عناصر "أزمة سياسية" في فرنسا، وكذلك أزمة ثقافية وهى التي عبرت عن نفسها بالضيق من الأخلاقية الجنسية الكاثوليكية وبدأت ببيان ستراسبورغ، والذي يتضمن التنديد بعدم السماح للطلاب بالتواجد في مبيت الطالبات، وبالعكس.

عنصر آخر للأزمة الثقافية الوطنية في فرنسا تمثّل في الولع بموسيقى الروك أند رول والجينز الأمريكي، ولا يجب في هذا الموضع نسيان أن فرنسا كانت بلدًا محتلًا وكان أبطالها في الحرب العالمية الأولى، الجنرال بيتان، هم المتعاونون مع الاحتلال النازي، حكومة فيشي، وحرّرتها القوات الأمريكية التي هبطت في نورماندي، كما تضحيات المقاومة الوطنية، من حارج المدرسة التقليدية، التي رسخت في الوعي الجمعي. أما ديغول فكان أشبه بملك عجوز من البوربون أكثر منه رئيس جمهورية على نسق ليون غامبيتا، ومنافسه فرانسوا ميتيران كان أكثر شبهًا بالحبيب بورقيبة منه لـجان جوريس. ونفهم من هنا لماذا اقتحمت بورتريهات وصور بحجم الحوائط لتشي جيفارا وماو تسي تونغ وتروتسكي ولينين وهو تشي منه الجامعات في نانتير والسوربون وستراسبورغ وتولوز كما سيطرت الهتافات الداعمة لكوبا فيديل كاسترو.

كانت فرنسا أمة تبحث عن بطل، بعد أن هلك أبطالها منذ زمن وتمرّغت شعاراتها في الوحل في حرب الجزائر ومن قبلها حرب الهند الصينية، وكان قدر الإنسان الذي اخترعه أندريه مارلو، الأديب ووزيرالثقافة الديغولي، لا هو بقدر ولا يتحدث عن الإنسان. كانت مرحلة "الفرنسي التائه"، واتضح أن عيني إلزا للوي أراغون هما عينا امرأة عمياء، وأن السيد أراغون لا يهوى النساء أساسًا.

كانت فرنسا أمة تبحث عن بطل، بعد أن هلك أبطالها منذ زمن وتمرّغت شعاراتها في الوحل في حرب الجزائر

تتشابه عناصر الأزمة الفرنسية مع إيطاليا، مع إضافة ولع الإيطاليين بالبطل الجامح، ولهذا كانت الجماعات الماركسية المسلحة هى المظهر الخاص بإيطاليا، التي لديها على الأقل محاولة لتجاوز نمط الإنتاج الرأسمالي في عصر أنطونيو غرامشي ولديها صورة غرامشي تضعها على حوائط الجامعات في روما ونابولي وتورينو، وإيطاليا لم تعان معاناه شاقة في نزع المستعمرات "decolonization" وهجرة الإيطاليين للعالم الجديد أسهمت في وعي مزدوج شبه عالم ثالثي.

اقرأ/ي أيضًا: إدوارد سعيد والموقف من الماركسية

الحالة اليونانية والتي شهدت تمردات جامعية ضخمة جديرة بالدراسة، فاليونان بلد بين-بين، لا هي متقدمة صناعيًا ولا هي في الحالة الإفريقية، أو ما عرف كلاسيكيًا بنمط الإنتاج الآسيوي، وكانت طوال النصف الأول من القرن العشرين مصدرًا للمهاجرين الذين يعملون في أعمال بسيطة حتى في مصر، ولكنها على الناحية الأخرى ذات تاريخ سياسي ونقابي عريق وكاد اليسار أن يصل لحكمها بعد الحرب العالمية الثانية، لولا تحالف جوزف ستالين ودعمه لشظايا الفاشية ضد الشيوعيين، ثم تناوبت عليها حكومات هشّة حتى أتى انقلاب عسكري في دولة عضو في حزب الناتو الأمر الذي أعطى للانقلاب أبعادًا أطلنطية. جاء الانقلاب ليطفىء النور ويسدّ الأبواب. كانت انتفاضة البوليتكنيك في جامعة أثينا إذًا تعبيرًا عن الشوق للديمقراطية والتمثيل، واشتركت فيها فصائل من كل ألوان قوس قزح، ماويين وتروتسكيين وجيفاريين تواجدوا مع حزب شيوعي قوي وحزب اشتراكي عريق.

الحالة في جنوب المتوسط غير الحالة في شماله، فعقب موجة عارمة من القومية والدعوات الاشتراكية من قبل نظام عسكري في مصر يلقى هزيمة ساحقة على يد دولة وليدة مثل إسرائيل، ما زالت تشكّل جرحًا وطنيًا غائرًا حتى الأن، يواكبها فشل لخطط التنمية البيروقراطية ومنع سياسي كامل للمعارضات يمينًا وشمالًا وتقييد للحريات العامة وتجريم للنقابية المستقلة وللإضرابات المطلبية. عقب الإعلان عن مشروع لتغييرات في نظام الدراسة، يخرج طلاب المعهد الديني بالمنصورة في مظاهرة احتجاجية تقمع بوحشية، ويكون الرد عليها في الإسكندرية، حيث يحتل الطلاب كلية الهندسة. تبدأ أول معارضة جماهيرية للزعيم جمال عبد الناصر، ويخرج سكان المدينة الساحلية لحماية الطلاب المعتصمين، وتتدخل القوات الخاصة لجيشٍ خرج من لتوه من عارٍ وطني لكي تحاصر المدينة المنتفضة وتطلق الرصاص الحي في الشوارع وعلى الأسفلت، وكانت المرة الأولى التي يسمع فيه الناس في مصر والعالم العربي "يسقط ناصر الدكتاتور". كانت الشعارات غامضة، ولكنها بشكل عام ضد القمع وتم اقتحام الجامعة والقبض على الطلاب. في تلك الأيام كان نجيب محفوظ يكتب "ثرثرة فوق النيل"، ولم يكن الوعي قد عاد لتوفيق الحكيم، وكانت منظمات ماركسية وإسلامية تعاود الظهور الحذر وكانت مجلة "الطليعة" التي يصدرها مؤسسة الأهرام بمحررين يساريين تصدر عددها الخاص "شباب 68" بعنوان رئيسي "شباب 68 يهزّ العالم".

على الجانب الأخر من الأطلنطي لم تكن الأمور هادئة، فتشي جيفارا تم عرض جثته المسجاة على أغلفة كل المجلات الكبرى والصغرى، وجماعات حروب العصابات تجتاح تقريبًا كل بلاد أمريكا الجنوبية، التي تحكمها كلها تقريبًا أنظمة عسكرية. وسط ذلك المناخ اللاتيني المتماثل، تستدعي الحالة المكسيكية التدقيق حيث أخذت الأحداث الطلابية المظهر الأعنف ربما في العالم أجمع، فقد كانت البلاد تستعد لافتتاح الألعاب الأوليمبية وخرجت مظاهرات طلابية من الجامعات في تموز/يوليو يقمعها البوليس بعنف يتسبب في موت عشرة طلاب، وفي تشرين الأول/أكتوبر تفتح قوات الجيش مسلحة بطائرات الهليكوبتر النار على متظاهرين متجمعين في ميدان الثقافات الثلاث مما ينتج عنه مقتل 300 مواطن أغلبهم طلاب، ويتم بعد ذلك توقيف آلاف الأشخاص واختفاء المئات، كل ذلك تحت حكم "الحزب الثوري الدستوري" عضو الدولية الاشتراكية ورئيسه غوستاف دياز أورداز.

في عقر دار الإمبريالية الأمريكية كانت حركة الحقوق المدنية للسود تجتاح الولايات زاحفة من سيلما في الجنوب إلي العاصمة واشنطن

على الجانب الأخر من الستار الحديدي كانت هناك انتفاضة أخرى، فبعد محاولة للإصلاح حاول القيام بها ألكسندر دوبتشيك الذي هو في نفس الوقت شيوعي ورئيس لجمهورية تشيكوسلوفاكيا التي كانت موحّدة ذلك الحين وكانت تحت السيطرة السوفيتية. حاول دوبتشيك الإصلاح تحت مسمي "اشتراكية ذات وجه إنساني"، وقامت حركة شعبية هائلة لمساندته كان مركزها الجامعات التشيكية وبدأ ما سُمّى بـ"ربيع براغ" كان جوهره الهجوم على ونقد النموذج الدكتاتوري لحكم البيروقراطية. وتشيكوسلوفاكيا كانت في ذلك الحين أكثر الدول تقدمًا من الناحية التكنولوجية في الكتلة الشرقية، وهى بلاد شهدت تجربة ديمقراطية قبل الحرب العالمية الثانية وشهد حزبها الشيوعي أثناء السيطرة السوفيتيية على البلاد أصواتًا معارضة ماركسية، قدمت رؤية ماركسية نظرية لطبيعة الحكم في البلاد باعتباره دكتاتورية طبقة جديدة هي البيروقراطية.

اقرأ/ي أيضًا: عنصرية أمريكا البيضاء.. غواية هتلر

لم تنتظرالسلطة في موسكو لكي يتحول الانفلات التشيكوسلوفاكي ليشمل كل البلاد الواقعة داخل المعسكر الشرقي، فتدخلت القوات الروسية وأسقطت دوبتشيك الذي تمت تنحيته، وحدثت مواجهات بين الطلاب الثائرين والدبابات السوفيتية نقلتها وسائل الاعلام لأركان الأرض الأربعة. بعض الأحزاب الشيوعية مثل الحزب الإيطالي انتقدت الغزو الروسي ولكن غالبية الأحزاب أيدته، حتى الحزب الصيني الذي كانت ينتقد "التحريفية السوفيتية" في مناظرته الشهيرة مع الخرتشوفية وعلى إثر "ثورته الثقافية"، لكن الغزو والموقف التابع لأغلبية الأحزاب المسماة شيوعية أحدثا انشقاقات مهمة في الأحزاب الكبرى مثل الحزب الشيوعي الفرنسي. أصبح هناك شبحٌ يخيّم ويضجّ مضاجع اليسار الماركسي ويطرح سؤال حول ماهية الاشتراكية تحديدًا.

في عقر دار الإمبريالية الأمريكية كانت حركة الحقوق المدنية للسود تجتاح الولايات زاحفة من سيلما في الجنوب إلي العاصمة واشنطن، وجاء اغتيال مارتن لوثر كينج ليصبّ البنزين علي النار، ويأتي هجوم الفيت كونغهجوم تيت لكي تشتعل الثورة الطلابية ضد الحرب الإمبريالية في الهند الصينية وضد التفرقة العنصرية والمحافظة الأخلاقية وتكون جامعة بيركلي المشهورة كواحدة من أفضل الأكاديميات في العالم المسرح للمواجهات والمناظرات التي ساهمت في فتح النقاش حول كل شىء بعد مرور سنوات من المكارثية وإقصاء أي رأي مخالف.

3

منتهى القول بعد الاستعراض السريع للتمردات التي شملت الشرق والغرب الشمال والجنوب وأنماطًا متنوعة من النظم، أن العالم كان يخرج عن سياقه ولا يمكن تفسير ذلك بالحديث المعتاد عن ثورة للطلاب. وبغض النظر عن الأوهام التي خرج الملايين للبحث عنها، وبغض النظر عن ما تم تسميته بالثورة الجنسية، فالأمر كان جللًا ويستوجب النظر في تناقضات أعمق للنظام الذي هو عالمي بطبيعة الحال.

هناك فرضية مطروحة للنقاش مفادها أن تحولًا تكنولوجيًا عميقًا كان قد بدأ مما أوجد على صعيد كل المجتمعات تشققات أنتجت أزمة عامة على أصعدة سياسية وأيديولوجية ومعرفية ولم يُعرف تأثيرها إلا بعد سنوات، فدائمًا الواقع المادي يسبق الوعي والإدراك. يمكن الادعاء بأن نهاية الستينيات شهدت بزوغ الحضارة الرقمية وأفول التنظيم الأوتوماتيكي والميكانيكي للصناعة والإنتاج. وليس العالم الرقمي مجرد تكنيك، بل ساهم في تغيير طبيعة السيطرة نفسها، فخلق وسائل للإعلام عابرة للقارات وجعل نفس الرساميل عبر البورصات يتم بضغطة زر وأصبحت رؤوس الأموال التي تتجول عبر البورصات العالمية مئات أضعاف الرساميل الثابتة وتطورت حركات الهجرة بين المجتمعات وتعمق اقتصاديات المضاربة. لقد أصبحت نيويورك تتحدث الإسبانية وباريس تتحدث العربية.

كان العالم على مشارف أن يصبح قرية كونية صغيرة، وكما تنبأ ماركس: "كل ما هو راسخ وثابت، ستذروه الرياح"

طبيعة العمل ذاته كفعل يستدعي مجهودًا بدنيًا اضمحلت، وأصبحت القيمة المضافة تتحق أساسًا خلف شاشات الكمبيوتر وأصبحت تذاكر الطيران بين المدن الأمريكية تبيعها موظفة تجلس أمام كمبيوتر في مومباي. لقد كان العالم على مشارف أن يصبح قرية كونية صغيرة، وكما تنبأ ماركس: "كل ما هو راسخ وثابت، ستذروه الرياح". هذا ما سيسمّيه مُنظّرون وكتّاب فيما بعد "العولمة". 1968 بداية ظهور التناقضات لفعلية لهذه العملية غير المسبوقة في التاريخ، ونظرا للقصور الذاتي في الوعي فإن بقاء الحكايات القديمة عاود الظهور على أرضية بدأت بالتزلزل.

اقرأ/ي أيضًا: أمبرتو إيكو وتجديد روح المثقف

منذ تلك الأيام، تُخرج المطابع تشكيلة من الكتب تعبيرًا عن هذه الأزمة الكبرى بدءًا من "تاريخ الجنسانية" لميشيل فوكو حتى "الوضع ما بعد الحداثي" لفرانسوا ليوتار وبحوث نعوم تشومسكي حول "الكفاءة اللغوية" والبحوث النوستالجية لسمير أمين وأندريه جوندر فرانك للعودة للعالم الثالث وتوماس بيكتي يكتب رأسمال جديد في القرن الحادي والعشرين، وفي المجال السينمائي والروائي هبّت موجة الخيال العلمي وسيناريوهات القيامة المبكرة وديستوبيات ما بعد الأبوكاليبس.

ما زلنا في الأزمة، ومازال الثور الذي يحمل العالم على قرنيه يهتز بعصبية وليست الاضطرابات الجيوبوليتيكية التي عمّت منطقتنا سوى تعبير آخر عن هذا الوضع. في مثل هذه الظروف من التغيرات الكبرى ينبغي إخضاع مقولات وقصص كبرى لإعادة النظر لأن التدخل الواعي في التاريخ يفترض المعرفة بتناقضات المرحلة والمخارج الممكنة والمحتملة والحلول الرجعية والتقدمية والطبقات والفئات والمجموعات الاجتماعية الكفيلة بقيادة البشرية إلى الأمام، لأننا لو نظرنا إلى الخلف لتحوّلنا جبالا من الملح، كما يخبرنا العهد الجديد.

اقرأ/ أيضًا:

ميشيل فوكو.. المنظور الفلسفي للسلطة

هل استطاع مارتن لوثر كينج تحقيق حلم حياته؟