14-ديسمبر-2019

عشرات الأزمات تحاصر طموحات ماكرون (أ.ب)

إعداد: وائل قيس وسفيان البالي

عادت الاحتجاجات الشعبية مرةً أخرى لتتصدر واجهة الأخبار القادمة من العاصمة الفرنسية باريس، بعدما نفذت خمس نقابات عمالية تهديدها الذي وجهته للحكومة الفرنسية في 23 أيلول/سبتمبر الماضي، وبدأت إضرابًا مفتوحًا، اعتبارًا من يوم الخميس، الخامس من كانون الأول/ديسمبر 2019 الجاري، من المتوقع استمراره حتى نهاية الأسبوع الجاري، في محاولة لزيادة الضغط على الحكومة للتراجع عن قرارها الأخير بشأن إصلاح نظام المعاشات للمتقاعدين.

استمرار الاحتجاجات في فرنسا، يعكس تفاقم الأزمة غير المسبوقة التي تواجهها إدارة ماكرون بسبب فشلها في إيجاد حلول لمشاكل متراكمة

لكن الاحتجاجات الشعبية المستمرة منذ عام تقريبًا على السياسة الداخلية للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ليست الوحيدة التي تشكل ضغوطًا على عديد الملفات للإدارة الفرنسية الحالية لإيجاد حلول لها، إنما تتصل مع السياسة الخارجية الهادفة لإعادة باريس إلى صدارة صناعة القرار الأوروبي، في ظل التغييرات التي تشهدها برلين، خاصة بعد إعلان المستشارة الألمانية إنجيلا ميركل اعتزالها العمل السياسي في عام 2021، وإصرار إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على استمرارها في النهج الأحادي للسياسة الخارجية.

أقرأ/ي أيضًا: إضراب فرنسا مستمر.. إصرار الشارع في وجه تعنت إدارة ماكرون

الاحتجاجات على سياسة ماكرون الداخلية مستمرة

وفي التاسع من الشهر الجاري، صوت سائقو المترو في باريس، على مد إضرابهم، ما شكل ضغوطًا داخلية جديدة تضاف إلى باقي الضغوط التي تواجه إدارة الرئيس ماكرون، بعد الاحتجاجات التي بدأتها حركة السترات الصفراء في تشرين الثاني/نوفمبر العام الماضي، الأمر الذي يشير إلى مواجهة الإدارة الفرنسية ضغوطًا منذ ما يزيد عام تقريبًا، دون أن تتوصل إلى حلول جذرية تساهم في تسحين الحياة الاقتصادية والاجتماعية للفرنسيين.

ويقول ماكرون إنه يجب تغيير نظام المعاشات الذي يضم أكثر من 40 نظامًا منفصلًا في الوقت الراهن، ما يتيح للمتقاعدين الحصول ميزات مختلفة، على أن يعوضه قانون واحد يقوم على أساس النقاط، ويتمتع فيه جميع المتقاعدين بحقوق متساوية مقابل كل يورو يساهمون به، غير أن القانون الجديد الذي تسعى الإدارة الفرنسية لتمريره أعاد تأجيج غضبة الشارع الباريسي مجددًا. 

ويُشكل هذا الأمر تحديًا أمام محاولات ماكرون، الذي يريد إجراء تغييرات اجتماعية واقتصادية داخليًا، ويرى أنها ضرورية لمنافسة القوى الاقتصادية الأخرى مثل بكين وواشنطن.

إضراب محطات المترو في باريس
مدد سائقو المترو في باريس، إضرابهم

وعلى مدار الأشهر الماضية، عرفت فرنسا احتجاجات شبعية واسعة، فيما عرف باحتجاجات السترات الصفراء، للمطالبة بإلغاء الضريبة على الهيدروكربون التي تسبّبت في زيادة 1.51 يورو على كل لتر من المازوت، بعد أن كان الهدف منها الحد من استخدام السيارات التي تعمل على المازوت مقابل استخدام السيارات صديقة البيئة.

وعلى الرغم من تراجع الحكومة الفرنسية عن قرار ضريبة المازوت، فإن الاحتجاجات المستمرة تعكس تفاقم الأزمة غير المسبوقة التي تواجهها الإدارة الفرنسية حاليًا، وفشلها في إيجاد الحلول لمشاكل داخلية تراكمت خلال السنوات الماضية، كان من بينها تراجع القدرة الشرائية لدى الطبقات المتوسطة والفقيرة، فضلًا عن مشكلة البطالة التي تعتبر من أكثر التحديات التي واجهت الإدارات الفرنسية السابقة، زاد عليها موجة اللاجئين التي باتت تشكل تحديًا كبيرًا لكافة دول الاتحاد الأوروبي وسط خلاف على نظام المحاصصة المتفق عليه.

شعبية ماكرون تتراجع لأدنى مستوياتها

أظهر أحدث استطلاع للرأي، نشر نهاية تشرين الأول/أكتوبر الماضي، عدم شعور نسبة كبيرة من الفرنسيين بالرضا عن السياسة الداخلية للرئيس ماكرون، فقد أشار الاستطلاع إلى أن 65% من الفرنسيين يشعرون بعدم الرضا من الإدارة الحالية، وهو ما يزيد على سبع نقاط عن استطلاع مماثل أجري في نيسان/أبريل العام الماضي، فيما أعرب 35% عن رضاهم من أداء ماكرون داخليًا، إلا أن الشعور بالرضا انخفض بمعدل سبع نقاط عن الاستطلاع السابق.

ورأى 63% من المشاركين في الاستطلاع أن الرئيس ماكرون لم يستطع الوفاء بالوعود التي قدمها للناخبين الفرنسيين خلال حملته لانتخابات الرئاسة الفرنسية، مقابل 37% قالوا عكس ذلك، وكان لافتًا ارتفاع نسبة الفرنسيين الذين قالوا إن ماكرون لم يستطع الوفاء بوعود حملته الانتخابية بزيادة 20% عن الاستطلاع الذي أجري في نيسان/أبريل من العام الماضي.

ووُصف ماكرون من قبل 69% من المشاركين في الاستطلاع، بـ"الاستبدادي"، مقابل 30% رأوا أنه رئيس "عادل". ووفقًا لموقع إكسبرس فإن شعبية الرئيس ماكرون تراجعت بشكل كبير منذ فوزه بانتخابات الرئاسة في أيار/مايو 2017، وكان السبب وراء ذلك شعور الناخبين الفرنسيين بأن السياسة الاقتصادية التي ينتهجها تفضل النخبة والأثرياء على العمال وذوي الدخل المحدود.

التحديات الداخلية للإدارة الفرنسية

يمكن القول إن انتخابات البرلمان الأوروبي كانت في مقدمة التحديات الداخلية المضافة إلى احتجاجات حركة السترات الصفراء التي واجهت الرئيس البالغ من العمر 41 عامًا. إلا أن التحدي الذي خاضته الإدارة الفرنسية في انتخابات البرلمان الأوروبي يختلف عن طبيعة التحديات الداخلية، نظرًا لارتباطه كليًا بسياسة القارة العجوز للتعامل مع قضايا إشكالية تأتي في مقدمتها الهجرة، وتنامي الخطاب القومي لليمين الأوروبي، والوضع الاقتصادي بشكل عام.

وكما كان الحال مع مفاجئة حزب البديل من أجل ألمانيا (النازيون الجدد) في الانتخابات البرلمانية الألمانية التي أفضت في نهاية المطاف لدخوله البرلمان الألماني لأول مرة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية؛ جاءت انتخابات البرلمان الأوروبي لتعزز صعود أحزاب اليمين في القارة العجوز، وكان من ضمنها تصدر حزب التجمع الوطني اليميني الذي تقوده مارين لوبان على حساب حزب "الجمهورية للأمام" الذي يرأسه ماكرون، وهو ما يؤكد تراجع شعبية ماكرون في الداخل الفرنسي.

وفي معرض تعليقه على نتائج انتخابات البرلمان الأوروبي فرنسيًا، اعتبر الكاتب جيروم سانت ماري أن الناخبين الفرنسيين منقسمين بين كتلة مؤيدة لماكرون تضم حولها الأثرياء والكوادر العليا والمتقاعدين، واصفًا إياها بـ"النخبوية"، وكتلة ثانية يصفها بـ"الشعبية"، تضم التجار الصغار وموظفي القطاع الخاص المؤيدين للوبان، مشيرًا إلى أنه في الوقت الذي تسعى إدارة ماكرون لتطبيق نموذج اجتماعي يتماشى مع قيود العولمة، فإن حزب لوبان ينادي بالحفاظ عل هوية وطنية لمواجهة ظواهر الهجرة.

ماكرون ولوبان
من مناظرة بين ماكرون ولوبان

وفي ظل تنامي غضبة الشعوب في أنحاء العالم بسبب السياسات الاقتصادية والاجتماعية المتراجعة، فإن فترة ولاية ماكرون الرئاسية لن تكون ناجحة إلا في حال نجحت بالخروج من ثنائية "الجمهورية إلى الأمام" و"التجمع الوطني"، بحسب ما يرى المستشار المقرب من قصر الإليزيه فيليب غرانجون

ويقول غرانجون، إن باريس "تحتاج إلى سلطات مضادة حقيقية وأحزاب معارضة جديرة بهذا اللقب، لأن الديمقراطية هكذا تكون". إلا أن المدافع عن البيئة، ديفيد كورمان يختلف مع الرأي السابق، بإشارته إلى أن "الخلل لا يكمن في الديمقراطية" بل في "عجز الشخصيات السياسية المتزايد عن احترام وعودها".

"ماكرون ليكس".. علاقة باريس وموسكو الملتبسة

شهرًا بعد شهر، ومنذ أول انفجار لفضيحة اختراق حملة ماكرون الانتخابية من عام 2017، وتسريب الآلاف من رسائلها الإلكترونية؛ تؤكد كل معالم قضية ما بات يعرف إعلاميًا بـ"ماكرون ليكس" أو "تسريبات ماكرون"، تورط الأجهزة الاستخباراتية الروسية في الأمر.

ورجوعًا إلى سنة الانتخابات الرئاسية الفرنسية، ومباشرة قبل جولتها الثانية، هُوجمت رسائل البريد الإلكتروني المرتبطة بحملة حركة "الجمهورية إلى الأمام"، برسائل مفخخة، سرعان ما مكنت المهاجمين من السيطرة على ما يزيد على 22 ألف رسالة إلكترونية، في واقعة مشابهة جدًا لما تعرضت له حملة المرشحة الديمقراطية للانتخابات الأمريكية هيلاري كلينتون في 2016.

الأسبوع الماضي، عادت قضية الاختراق إلى الساحة، بعد أن كشفت صحيفة لوموند الفرنسية عن مستجدات في القضية، معلنة عن النتائج التي تلقتها من تقرير لاثنين من الباحثين المختصين في تتبع عمليات القرصة بشركة جوجل.

وكشف الباحثان عن أن عمليت الاختراق تمت على مرحلتين وعبر فريقين: المرحلة الأولى كانت ابتداء الاختراق من فريق APT28، والثانية كانت إتمام الاختراق من فريق قراصنة يعرف باسم Sandworm، ويرتبط أيضًا بالاستخبارات العسكرية الروسية.

يقول مؤلف كتاب "عهد جديد من الحرب السيبرانية ومحاولة تتبع أخطر قراصنة الكرملين"، إن مجموعة Sandworm "مختصة في عمليات الاختراق الصعبة والدقيقة، خصوصًا من ناحية التوقيت". وقد ثبت تورط هذه المجموعة سنة 2018 في كل من محاولة اختراق غرفة المحكمة الدولية في لاهاي المختصة بالأسلحة الكيماوية، والهجوم السيبراني على دورة الألعاب الشتوية في بيونغ تشانغ.

بعد هذا كلّه، يقول مقال لوموند: "هذا يؤكد إن الهجوم على ماكرون والتأثير على نتائج الانتخابات الرئاسية كان مقصد الهجمة السيبرانية الروسية على الحملة الانتخابية"، وبالتالي يبرز طموح بوتين لفرنسا تحكمها مارين لوبان اليمينية في محاولة إعادة تجربة دونالد ترامب، في حين يبقى ماكرون اسمًا غير مفضل للكرملين

ماذا عن سياسة ماكرون الأوروبية؟

ركّزت بنود الحملة الانتخابية لماكرون الخاصة بالسياسة الخارجية، على الاتحاد الأوروبي، من بينها توحيد الميزانية والبرلمان ووزير المالية في منطقة اليورو، وإنشاء قوة حرس حدود أوروبية مشتركة عدد أفرادها خمسة آلاف عنصر، وتأسيس صندوق أوروبي للدفاع، لتمويل التجهيزات العسكرية المشتركة، فضلًا عن ضبط الاستثمارات الأجنبية في أوروبا، وحصر الدخول إلى الأسواق العامة الأوروبية للشركات التي تحصل على نصف إنتاجها على الأقل في أوروبا.

وفي وقت سابق من العام الماضي، دعا ماكرون قد دعا إلى المسارعة في تأسيس جيش أوروبي، مشيرًا إلى ذلك بقوله إن "الأوروبيين بدون جيشهم الحقيقي لن يكون بمقدورهم الدفاع عن أنفسهم بمواجهة تهديدات خطيرة"، وهي دعوة تتوافق مع أخرى سابقة أطلقها بهدف تأسيس قوة عسكرية أوروبية للتدخل في مناطق الأزمات بحلول 2020، مدعمًا اقتراحه بأن يكون لهذه القوة ميزانية مالية موحدة وعقيدة عسكرية جديدة.

كما أن تصريحات ماكرون الأخيرة التي وصف فيها حلف شمال الأطلسي (الناتو) بأنه "مصاب بموت دماغي"، تكشف عن جهوده في تصويب السياسة الخارجية الفرنسية على الساحة الأوروبية أكثر من العالمية، نظرًا لما يعتقده بأنه "على الأوروبيين الدفاع عن أنفسهم بمواجهة روسيا والصين وحتى الولايات المتحدة"، مدعمًا ذلك بقوله إن "أوروبا وأمنها سيكونان الضحية الرئيسية لتداعيات إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب انسحابه من معاهدة نزع الأسلحة المتوسطة المدى مع روسيا".

ويبدو أن ماكرون يحاول تعويض غياب برلين عن مطبخ القرار الأوروبي الذي كانت تقوده ميركل حتى وقت قريب، قبل أن تتراجع شعبيتها بسبب معارضة معظم دول الاتحاد الأوروبي لسياسة الحدود المفتوحة التي أبدتها أمام اللاجئين، وبسبب فشل الاتحاد الأوروبي في إيجاد حل جذري للصراعات العسكرية في مناطق النزاع، بسبب السياسة الأحادية لواشنطن، وأخيرًا بسبب عودة موسكو للساحة الدولية كقوة عظمى ذات تأثير، فضلًا عن نقاط خلافية أخرى:

  • أولًا: الخلاف مع واشنطن بسبب سياستها الأحادية

شكلت نتائج انتخابات الرئاسة الأمريكية التي أوصلت دونالد ترامب للبيت الأبيض، صدمةً لدى قادة الدول الحليفة لواشنطن، فبعد الجهود التي قادتها دول الاتحاد الأوروبي بالاشتراك مع إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما لتوقيع الاتفاق النووي التاريخي مع إيران؛ انسحبت إدارة ترامب من الاتفاق من جانب أحادي، في أيار/مايو 2018، ما ساهم في تفاقم التوتر بمنطقة الخليج والشرق الأوسط، وكاد أن يصل الأمر لمواجهة عسكرية في بعض الأوقات.

وبالجملة، يمكن وصف ولاية ترامب بأنها عهد انسحاب واشنطن من اتفاقياتها الخارجية، فقد سبقت انسحابها من الاتفاق النووي، بانسحاب من اتفاقية الشراكة التجارية عبر المحيط الهادي، وألحقتها بانسحاب من منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو)، فضلًا عن انسحابها من الاتفاق النووي الإيراني، ثم الانسحاب من معاهدة الحد من الصواريخ النووية المتوسطة مع موسكو، والموقعة خلال حقبة الحرب الباردة، وأخيرًا انسحابها من اتفاقية باريس للمناخ.

قمة الناتو في لندن 2019
من اجتماعات قمة الناتو الأخيرة بلندن

وقبل أيام، وجه الاتحاد الأوروبي تحذيرًا لواشنطن بأنه سيرد بشكل "موحد" على تهديدات واشنطن بفرض رسوم جمركية على منتجات فرنسية، وذلك على خلفية فرض باريس رسوم 3% على الخدمات الرقمية لعمالقة الإنترنت في وادي السليكون، ما دفع بواشنطن للتلويح بزيادة الرسوم الجمركية بنسبة 100% على سلع فرنسية بقيمة 24 مليار دولار.

وكان واضحًا حجم الانقسام في الرأي خلال قمة حلف الناتو التي استضافتها لندن قبل أيام، رغم اتفاقهم في البيان الختامي على الوحدة في مواجهة التهديد المشترك القادم من روسيا والاستعداد لصعود الصين. إلا أن القمة تخللها لحظات حرجة خلال المؤتمر الصحفي الذي عقد بين ترامب وماكرون، بعدما رد الرئيس الفرنسي بنبرة غاصبة على دعوة الرئيس الأمريكي لأخذ باريس "أي أحد تريده" من أسرى مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، بالقول إنه "لن يكون مفيدًا التركيز عليهم بدرجة أكبر من مشكلة الحدود".

  • ثانيًا: حلول غير نهائية للخلاف مع أنقرة

خلال الفترة القليلة الماضية، ظهرت بوادر خلاف جديد في الناتو، رافقه تصريحات حادة وجهها ماكرون لأنقرة التي تعتبر حليفًا أسياسيًا في الناتو بامتلاكها ثاني أكبر قوة عسكرية داخل الحلف أولًا، وموقعها الإستراتيجي المهم للدول الأعضاء في الحلف ثانيًا. 

وجاء تصريحات ماكرون بعد تنفيذ أنقرة لعملية "نبع السلام" في شمال شرق سوريا ضد مقاتلي قوات سوريا الديمقراطية (قسد) التي تقودها وحدات حماية الشعب الكردية، بدعم من التحالف الدولي المنضوية القوات الفرنسية ضمنه.

فعليًا توترت العلاقة بين أنقرة والدول الأوروبية الأعضاء في حلف الناتو بسبب مجموعة من القضايا، يأتي في مقدمتها عدم التزام دول الاتحاد الأوروبي بتقديمها ست مليارات يورو، على دفعتين، لدعم اللاجئين السوريين الذين تستضيفهم أنقرة. وعدم وجود أي تطور في ملف انضمام أنقرة لعضوية الاتحاد الأوروبي، وفي المقابل إبرام أنقرة لصفقة منظومة الدفاع الجوي الروسية "S-400" التي تعتبرها دول الناتو بمثابة تهديد لها.

مع هذا، بددت النتائج النهائية لقمة الناتو الأخيرة المخاوف التي أثيرت بعد الأجواء المشحونة التي استبقت انعقادها، فقد أُعلن في النهاية عن موافقة أنقرة على خطة الناتو الدفاعية لدول البلطيق، وبقي تصنيف وحدات حماية الشعب الكردية معلقًا دون أن يتوصل الحلفاء لتعريف موحد، مع تأكيد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، عدم مغادرة بلاده المناطق التي دخلت إليها قبل تأمين السلام فيها، ومواصلة مكافحة داعش وباقي "التنظيمات الإرهابية" في إشارة إلى وحدات الحماية التي تصنفها أنقرة على أنها "تنظيم إرهابي"، وإشارته إلى عقد القمة الرباعية الثانية (أنقرة ولندن وباريس وبرلين) بشأن سوريا بإسطنبول في شباط/فبراير القادم.

  • ثالثًا: محاولة للتقارب مع موسكو

رغم اتفاق الدول الأعضاء في الناتو على الوحدة في مواجهة التهديد المشترك القادم من روسيا، والاستعداد لصعود الصين؛ فإن الرئيس الفرنسي يحاول قيادة جهود للتقارب مع موسكو، بعد انتهاء قمة النورماندي لإيجاد حل للأزمة الأوكرانية الروسية، رغم أن معظم دول الاتحاد الأوروبي، بمن فيهم ألمانيا، لا تشاركه هذا التفاؤل المرتبط بتبدل في الموقف الروسي.

وبالتزامن مع انعقاد الجلسة الختامية لحلف الناتو، تساءل ماكرون في منشور عبر حسابه الرسمي على فيسبوك "من هو عدو للناتو؟"، قبل أن يضيف مجيبًا: "روسيا لم تعد عدوًا، رغم أنها لا تزال تمثل تهديدًا، لكنها أيضًا شريك في بعض الأمور. عدونا اليوم هو الإرهاب الدولي، وخاصة الإرهاب الإسلامي"، وهو ما يعكس تبدلًا واضحًا من موقف الإدارة الفرنسية الحالية إزاء سياسة الكرملين الخارجية، حيثُ يرى ماكرون أن روسيا قادرة على أن تصبح شريكًا في الإنفاق الدفاعي على المستوى الأوروبي.

وكما يتضح، تقوم سياسة ماكرون التي يحاول تدويلها بين دول الاتحاد الأوروبي، على أساس أن يتعامل الاتحاد مع نفسه كقوة عالمية، لأنه في حال لم يتعامل مع نفسه من هذا المنطلق، فإن وجوده سيكون مهددًا، وفقًا لرؤية ماكرون.

لذا، قد يبدو واضحًا لما يسعى الرئيس الفرنسي للتقليل من أهمية حلف الناتو، في مقابل تركيزه على السياسة الأوروبية بشكل عام، والاتحاد الأوروبي بشكل خاص.

وفي وقت سابق من الآن، نفى ماكرون أن يكون قد قبل اقتراحًا روسيًا بوقف نشر الصواريخ في أوروبا، مشددًا: "لم يُقبل (الاقتراح) مطلقًا"، معتبرًا أنه "أساس للنقاش ينبغي رفضه".

وفي الوقت نفسه، أشار ماكرون إلى أن إلغاء واشنطن معاهدة القوى النووية متوسطة المدى، يدل على أن "أمننا هو الذي أصبح على المحك، وكذلك أمن حلفائنا الأوروبيين"، مؤكدًا على "ضرورة أن يشارك الأوروبيون في المعاهدة القادمة" لأنه "لا يمكن لنا أن نترك أمننا رهن اتفاق ثنائي لا يكون فيه للأوربيين نصيب".

هل تستطيع باريس أن تسد فراغ برلين؟

خلال العقد الماضي، تمتعت برلين بميزة صياغة القرار الأخير بين دول الاتحاد الأوروبي. لكن إعلان أنجيلا ميركل اعتزالها الحياة السياسية عند انتهاء ولاياتها بعد أقل من عامين، سيترك فراغًا سياسيًا كبيرًا ليس على صعيد دول الاتحاد الأوروبي فقط، بل على صعيد القارة الأوروبية بشكل عام، وهو ما يحاول الرئيس ماكرون استثماره نظرًا لأنه التاريخ سيكون قريبًا من انتخابات الرئاسة الفرنسية الثانية.

إضافةً إلى ذلك، فإن ألمانيا تواجه حاليًا أزمة اقتصادية انعكست على صناعة السيارات الألمانية التي يستمد منها الاقتصاد الألماني قوته وازدهاره، إذ أشارت تقارير إلى أن أبرز العلامات التجارية لصناعة السيارات الألمانية، أعلنت عزمها تسريح آلاف العاملين لديها خلال السنوات القليلة القادمة. 

يضاف إلى ذلك ترجيح الأحزاب الألمانية انهيار الائتلاف الحكومي الحاكم بين حزب الاتحاد المسيحي الذي تقوده ميركل، والحزب الاشتراكي الديمقراطي الذي فاز بانتخاباته الداخلية مؤخرًا ممثلي اليسار نوربرت فالتر بوريانس وساسكيا اسكن.

لكن ليستطيع الرئيس الفرنسي أن يسد الفراغ الذي سيخلفه اعتزال المستشارة الألمانية الحياة السياسية، فإنه يتوجب عليه مواجهة العديد من العراقيل الأوروبية بعدما بدأ الشمال الأوروبي بتنظيم نفسه ضمن معسكر مناهض للإدارة الفرنسية، كما أن دول الكتلة الشرقية رغم الانقسام الذي تشهده فيما بينها، فإنها لا تزال قادرة على عرقلة المقترحات المقدمة من الإدارة الفرنسية، ناهيك عن المشاكل الداخلية التي يواجهها حلفاء باريس الطبيعين إيطاليا وفرنسا في الجنوب الأوروبي.

ليستطيع ماكرون سد الفراغ الذي سيخلفه اعتزال أنجيلا ميركل، كما يريد، يتوجب عليه مواجهة العديد من العراقيل أوروبيًا وعالميًا

كما أن تصريحات ماكرون الأخيرة المرتبطة بحلف الناتو دفعت بدول وسط وشرق أوروبا للشعور بالقلق من سياسة باريس في القارة الأوروبية لا بين الدول الأعضاء في الاتحاد الأوربي فقط، التي ترى أنه رغم كل شيء، لا يزال حلف الناتو، وخاصة واشنطن، تمثل لهم حمايةً من أي عدوان خارجي من الممكن أن يتعرضوا له، في حين لا يرون في فرنسا القدرة على حمايتهم، في ظل نظام عالمي متعدد الأقطاب.

 

أقرأ/ي ايضًا:

ماكرون والشرق الأوسط.. ماذا ترَك رجل الوسط لأهل اليمين؟

 الناتو يتأرجح.. خلافات عسكرية ومالية وسياسية تخيم على علاقات الحلفاء