21-سبتمبر-2019

استمر الجدل حول أموال ابن سلمان في محاكمة البشير (تويتر)

كانت السيارة التي نقلت الرئيس السوداني المخلوع عمر البشير صباح السبت من سجن كوبر إلى مقر المحكمة، قد تجاوزت صفوف الوقود والخبز في شارع عبيد ختم بصعوبة. ينظر المخلوع إلى تعابير الأزمة وهي لم تغادر مكانها، بينما الطائرات تهبط وتغادر مطار الخرطوم، وشمس السُلطة المدنية تحاول التسلل من نافذة القصر الضيقة. ثمة أزمة حول خرق الوثيقة الدستورية، بينما النور الكثيف هبط على المباني المحيطة بالمحكمة، شيئًا فشيئًا.

كانت السيارة التي نقلت الرئيس السوداني المخلوع عمر البشير صباح السبت من سجن كوبر إلى مقر المحكمة، قد تجاوزت صفوف الوقود والخبز في شارع عبيد ختم بصعوبة

القاعة التي اتسعت لاتهامات رأس الدولة السابق بالفساد، غمرها نور كاميرات التلفزة. شغب لطيف من الابنة الصغرى للسيدة الأولى السابقة وداد بابكر وهي تحدق في مرايا الزمن المتحول؛ الأضواء المزعجة الآن تجاوزت الزوج بكل رمزيته إلى حرمه، التي كانت قد تحولت إلى أشهر أغاني الرفض إبان الثورة "موش كده يا وداد"، يرددها الشارع كنغمة جديدة، لكن جامعة الخرطوم صرفت عن زوجة البشير التي تلاحقها بلاغات منظمة (زيرو فساد) تهمة الحصول على قطعة أرض تخص الجامعة.

اقرأ/ي أيضًا: مواصلة محاكمة البشير تفتح سلسلة جرائم الأموال المهدرة

معركة الدفاع والنيابة

حضر الجلسة شقيق البشير علي الذي لم يغب أبدًا، وإلى جانبه هذه المرة حمدي سليمان أشهر الأصوات التي كانت تنافح عن النظام السابق، أما البشير فقد جاء وعلى وجهه الحليق بعناية تبدو مظاهر الانتظار الواثق، وبات كذلك الخلاف الحميم في وجهات النظر بين هيئة الاتهام والدفاع يتسع على رتق الشهود، ومحاولات القاضي الدؤوبة توجيه دفة المحاكمة. بات الاتهام أكثر شراسة في مواجهة الشهود، والدفاع في مواجهة الاتهام، كأنها معركة تجاوزت غبينة الواجب المهني، إلى التعبير عن خصومة سياسية.

في الأول وصلت الحقيبة الفضية الفارغة، كواحدة من بينات الاتهام، ولحقت بها خزينة بنك السودان، هذه المرة، بشكل باعث للجلبة، منظر الدولارات الهائلة التي أرسلها محمد بن سلمان، في بلاد تعاني شظف العملة الأجنبية، وقد نمت طبقة ثرية من أرباح التجارة في فارق أسعار العملة الأجنبية مقابل الجنيه، بشكل يهدد الاقتصاد الوطني بالانهيار، إن لم يكن قد انهار بالفعل.

ضبط هدية بن سلمان

بدأت الجلسة بمضاهاة أصول المستندات التي قدمتها هيئة الدفاع في الجلسات السابقة بالنسخة الأولى المودعة لدى المحكمة، وتأكد أنها صحيحة. إلى جانب الأخذ في الاعتبار الإقرار الذي ورد في خطبة الادعاء بأن الأموال التي ضبطت في بيت الضيافة هي هدية ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، ردًا على الطلب بأن خطبة الادعاء كانت جزءًا أصيلًا من المحكمة، وفقًا للدفاع، بيما أشار القاضي إلى أن خطبة الادعاء تمثل جزءًا من الاتهام، وبدا أن الدفاع يريد الحفاظ على شخصية مهمة، وهي ابن سلمان، في محضر المحكمة، والإعلام أيضًا، كون أي إدانة لا ينبغي أن تقتصر على البشير لوحده.

تبرعات البشير

يدخل الشاهد الأول أبوبكر عوض حسنين إلى ردهات الجلسة، ويعرف نفسه بأنه وزير دولة برئاسة الجمهورية، وبالتالي مطلوب منه شرح مكونات مؤسسة الرئاسة، وشرح العلاقة بين رئاسة الجمهورية وقصر الضيافة. وقد أشار الشاهد إلى أن مكتب الرئيس في بيت الضيافة يدار منه 70% من العمل الرئاسي، وقال إن ميزانية رئاسة الجمهورية معتمدة من وزارة المالية، وعندما عرض الدفاع مستندات الدعم الذي خرج من رئيس الجمهورية لبعض الجهات من بينها جامعة أفريقيا ووزارة الدفاع، هبت النيابة وطعنت في ذلك، بحجة أن الشاهد ليس له علاقة، لكن الشاهد اكتفى بعبارة أن هذا الدعم لم يخرج من رئاسة الجمهورية، وشدد على أن وزارة رئاسة الجمهورية لا يمكن أن تدعم مؤسسة بهذا المبلغ الضخم، لأن الموزانة المعتمدة ليس فيها دعم للمؤسسات خارج بند الصرف بالعملة المحلية دعك من العملة الأجنبية، التي جزم بأنهم لا يتعاملون بها في التبرعات، وأرجع التبرع للأفراد خارج الميزانية المصدقة إلى تقديرات رئيس الجمهورية.

وعندما سأله ممثل الدفاع أبوبكر الجعلي عن مبلغ 4 مليون دولار منحت لوزارة الدفاع وجامعة أفريقيا، قال الشاهد إن مثل هذه المبالغ لا يمكن أن تخرج من وزارة رئاسة الجمهورية. وهنا انبرى الاتهام وسأل الشاهد: ألا تتفق معي أن مكتب بيت الضيافة وما يخضع له من إجراءات ينطبق عليه ما ينطبق على كافة مكاتب الدولة؟ قال الشاهد لا أعرف. فسأله مجددًا من أين طلع هذا الدعم؟ قال الشاهد: "أنا معني بميزانية رئاسة الجمهورية". ومضت الأسئلة على هذه الشاكلة: كيف هو تقدير الرئيس؟ الشاهد: هو يوجه وزير شؤون الرئاسة، ومن ثم يذهب التوجيه إلى وزارة المالية، وبعدها يتم التنفيذ. هل للمتهم، أي البشير، حساب خاص يصرف منه شخصيًا؟ الشاهد: بالنقد الأجنبي هنالك تسيير لكافة مكاتب الرئاسة.

الرئاسة لا الرئيس

هنا تدخل القاضي وطفق يجابه الشاهد المعذب بالأسئلة الصعبة: المخالصة بالمستندات من أين صدرت؟ الشاهد: من مدير مكتب الرئيس. القاضي: باسم أي جهة؟ الشاهد: رئاسة الجمهورية. القاضي: ماذا تعني رئاسة الجمهورية؟ الشاهد: الرئيس عندما يدعم أي جهة فهو يكتب رئاسة الجمهورية. القاضي: الدعم للجهات عادة ماهو مصدره؟ الشاهد: عندما يحصل دعم يتم تحريكه لوزارة المالية. وهنا سأل القاضي سؤاله الكبير، أو عقدة الحبل الملتف حول رقبة المتهم: أنت مسؤول في القصر فهل ثمة أموال وردت لرئيس الجمهورية من أي جهة؟ الشاهد: لم تأتنا مبالغ لرئيس الجمهورية. بدأ القاضي يعبر عن المشكلة بوضوح في معرض سؤاله الأخير: لو قلت لك يا أبوبكر في 25 مليون دولار وصلت لرئيس الجمهورية ماذا تعرف عنها؟ فأجاب الشاهد باختصار "لا أعلم عنها شيئًا". وقد كان أبوبكر عوض حسنين يتحدث عن فترة وجوده في القصر، جازمًا بأن الأمر لم يحدث البتة، فالقاضي يقصد هدية ابن سلمان، والشاهد يعني فك الارتباط بين الرئاسة والرئيس بالإجابة تلميحًا وتصريحًا. 

دعابات القاضي

للتو وصلت الأموال التي عثر عليها في منزل البشير، وهي مخبأة داخل حقيبة محكمة بإغلاق تام، تم عرضها على أريكة القاضي الصادق عبد الرحمن الذي أشاع في المكان جوًا من المرح، من خلال الأسئلة الذكية وتصويب الدفاع والاتهام، إلى درجة أنه في الجلسة السابقة عندما أبدى مدير مكتب البشير حاتم حسين بخيت استغرابه من عدم استدعائه للمثول في المحكمة، رد عليه القاضي "فعلًا نحن غلطانين". كما أبدى القاضي اليوم أيضًا استغرابه من إصرار هيئة الدفاع على فتح حقيبة الأموال وبعثرتها على مرأى من الحضور، فقال لهم "انتوا عاوزين بيها شنو"، فرد عليه ممثل الدفاع "عندنا فيها فهم". فقال القاضي: "خلاص ورونا فهمكم".

في هذه اللحظة دخل الشاهد الثاني طارق عبد القادر، وهو ضابط برتبة لواء في الأمن الاقتصادي، قبل أن يتحول جهاز الأمن إلى جهاز المخابرات بعد الثورة، وقد طلب منه ممثل الدفاع الحديث عن تفاصيل الإشراف على المطاحن تحديدًا، وقال الشاهد إن الاهتمام منصب بسلعة الدقيق، لأنها سلعة استراتيجية، تتعلق بها أزمة اقتصادية، ولذلك يقومون بمتابعة القمح منذ لحظة وصووله إلى مرحلة الطحن والتوزيع، لضمان عدم  التسرب والتلاعب بحصص الدقيق،  وكشف عن خمسة شركات تقوم بالتعاون معها وهي: "سين، سيقا، ويتا، الحمامة، روتانا". وعندما حاول ممثل الدفاع لفت نظره بالنداء "الأخ طارق" انتبه الشاهد فجأة وقال "طارق منو؟"، ربما لأن اسم طارق سر الختم المتهم في القضية يماثل اسمه، وانفجرت القاعة كذلك بالضحك.

اتفاق مطاحن الدقيق

قال الشاهد إن هذه المطاحن تتلقى الدعم من رئاسة الجمهورية، وهي شركات خاصة، فأراد الدفاع عرض ورقة اتفاق تم بين الشركات وجهاز الأمن تقريبًا، أو بينها والحكومة، لكن القاضي رفض عرض المستند على الشاهد قبل إيداعه المحكمة، فأصر الدفاع. وبعد اطلاع الشاهد على المستند ذكر أنه بموجب الاتفاق التزمات سين بتوزيع 44 ألف جوال دقيق يوميًا، بينما سيقا التزمت بـ 20 ألف، وتباعًا بقية الشركات، بمجمل التزام كامل مائة ألف جوال، على أن تدفع وزارة المالية لهذه الشركات قيمة (270) دولار للطن الواحد من القمح. وأجاب الشاهد على سؤال إمكانية المطاحن على توفير النقد الأجنبي لشراء القمح، بأن الاتفاق تم بالأساس لأن هذه الشركات عاجزة عن توفير العملة الأجنبية للقيام بعملية الاستيراد.

وأضاف أن مدير جهاز الأمن والمخابرات السابق صلاح قوش وجه بعد الأزمة الاقتصادية الأخيرة بالتدخل وشراء القمح من الشركات، وهنا سأله الدفاع: بالنسبة لشركة سين، بماذا تم دعمها من قبلكم؟ فأجاب الشاهد "سين لم ندعمها". وقال إنهم اشتروا من شركة سيقا التي يملكها رجل الأعمال أسامة داؤود ما قيمته 5 مليون دولار، وبسعر الطعن 280 دولار، وأردف الشاهد أن "الاتفاق تم بين مدير الجهاز السابق صلاح قوش والشركات"، وأجاب أيضًا على سؤال يبدو أنه مهم في مسار مرافعة الدفاع: بالنسبة لسين ما هي علاقتكم بها، وكيف توفر العملة الأجنبية؟ فقال "لم نشتر منها، ولا أعرف كيف توفر العملة الأجنبية" .

علاقة جهاز الأمن بالأزمة

بدأت نقطة الخلاف تكبر حول دور الشاهد الذي التحق بإدارة الأمن الاقتصادي عقب توقيع الاتفاق مع الشركات الخمسة، لكنه رد بأنه يعرف وثيقة الاتفاق، وقد تلقاها من أهل الشأن، كما وصفهم، وعقب الاتهام على تسلسل إفادات القاضي بأسئلة تطعن في شهادته على الاتفاق، وعلاقة الأمن الاقتصادي بشراء الدقيق، فأخبرهم أن مدير الجهاز وجه بالتدخل وشراء كميات من القمح المطحون لتعويض النقص فيه.

 وحول علاقة المتهم البشير بالآلية الخاصة بأزمة الدقيق، قال الشاهد إن المتهم يتلقى تقاريره من مدير جهاز الأمن الذي يتبع للرئاسة، وهنا حاولت هيئة الاتهام استغلال نقطة أثارها الشاهد، وهي أن تاريخ المستند فقط غير صحيح، بينما الاتفاق صحيح، أي ثمة جزئية تصلح للطعن، سرعان ما قام الشاهد بالتصويب عليها بأن المحتوى صحيح. إلى جانب سؤال حول دور الجهة التي يجب أن تتدخل عندما تجد المطاحن مشقة في توفير العملة الأجنبية، فقال الشاهد "طبعًا وزارة المالية وبنك السودان"، كما لو أن الاتهام قرر سوق القضية إلى المنطقة الأكثر أهمية، وهي الدافع الذي جعل البشير يتدخل في شأن يخص بنك السودان ووزارة المالية، أما أغرب ما في الأمر هو أن الاتهام سأل الشاهد: مطاحن سين تتبع لمن؟ فقال إنه لا يعرف.

من يملك شركة سين؟

جاءت أسئلة المحكمة كالعادة محددة ومصوبة على القضية مثار الاتهام، إذ كيف تحصل سيقا على الدعم الأكبر وهي تنتج من الدقيق أقل من سين، فقال الشاهد إن ما حدث مع سين ليس دعمًا، وإنما عملية شراء، لكن سين مع ذلك التزمت بتغطية العجز، فسأل القاضي الشاهد، من يملك سين؟ فقال "أسرة إبراهيم..." وبدا يتذكر، كما لو أنه التقط اسم العضو المنتدب، وردد بصوت مسموع "نحن فقط نتعامل مع العضو المنتدب طارق سر الختم". وتساءل القاضي : كيف تتعاملون مع شركة لا تعرفون ملاكها؟ رد الشاهد: لأنها التزمت بتغطية العجز.

حل الصمت على المكان بعد تقدم عضو هيئة الدفاع محمد الحسن الأمين صوب الحقيبة، وعرفه زميله هاشم الجعلي بأنه خبير في فحص الأموال. بدا الحسن يقلب حزم الأوراق الأجنبية اللامعة من فئة الدولار واليورو، ومن ثم ينتقل بأسئلة خافتة للمتهم في قفصه الحديدي الذي لم يعزل الصوت. سأله: هل هي فئات الأموال نفسها التي كانت موجودة في بيت الضيافة؟ فقال البشير بأنه غير متأكد، وبدأ القاضي يرفع صوته بعد فاصل من التداول بين هيئة الدفاع وموكله: "يا جماعة المشكلة وين، هل العملة مزورة، أما أنها ليست التي ضبطت؟"، لكن أحدًا لم يجب!

اقرأ/ي أيضًا: مواصلة محاكمة البشير تفتح سلسلة جرائم الأموال المهدرة

شاهد بنك السودان

هنا اقترب الشاهد الثالث بعد أن منح القاضي هيئة الدفاع التي يبدو أن الرهق أصابها. تسلل بدر الدين حمد الموظف ببنك السودان إلى القاعة وأقسم على أن يقول الحق، ولا شيء غير الحق، وتحدث عن لائحة تنظيم تداول العملة الأجنبية، وكيف أن اللائحة تسمح بحيازة الأموال الأجنبية، لكن تداول وبيع العملة غير مسوح به، ولعل أهم عبارة وردت في حديث الشاهد الأخير أنه "ليس لديه ضوابط موجهة لرئيس الجمهورية فيما يتعلق بالعملة الأجنبية". وثار جدل كبير حول إدخال النقد الأجنبي وهل هو مسموح به أم غير مسموح به؟ أحيانًا يردد الشاهد بأن التعامل بالنقد بالأجنبي مسموح فقط للجهات المصرح لها بذلك، وأحيانًا بأن دخول العملة الأجنبية من جهة غير معتمدة لديهم يعتبر مخالفة لجهة أنه يعيق عملهم في تقويم السياسات الخاصة بالنقد الأجنبي، ومرة ثالثة يرد بأن إدخال النقد الأجنبي للبلاد مسموح به، ويبدو وفقًا للشاهد بأن هنالك فرق بين حيازة العملة الأجنبية والتعامل بها، وعلى ذلك يمكن قياس حالة الرئيس البشير، الذي قال في وقت سابق إنه لا يعمل في بيع وشراء العملة. واكتفى القاضي بسؤال محدد؟ استبدال نقد أجنبي بنقد محلي، هل يعتبر تعامل أم غير تعامل؟ رد الشاهد "تعامل".

وصلت الأموال التي عثر عليها في منزل البشير، وهي مخبأة داخل حقيبة محكمة بإغلاق تام، تم عرضها على أريكة القاضي الصادق عبد الرحمن الذي أشاع في المكان جوًا من المرح، من خلال الأسئلة الذكية وتصويب الدفاع والاتهام

انتهت الجلسة ولم ينته العرض المدهش المثير، حيث إن هيئة الدفاع قررت التخلص من أحد الشهود الذين طلبتهم في الأول، وهو الدعم السريع، قائلة بأنها لا تحتاجه، ربما لأنه بمثابة الخصم في حلبة النزاع السياسي مع هيئة الدفاع التي تنتمي للنظام القديم، والتي تشعر، بل جاهرت أكثر من مرة بأن الذي حدث هو انقلاب على شرعية البشير، شاركت فيها قوات الدعم السريع، مع الجيش، لكن ممثل الاتهام تدخل بشكل لافت وطلب شهادة الدعم السريع، فاعتذر لهم القاضي بأن ملف شهود الدفاع أغلق، وهذا تقديره هو الآن فقط.

 

اقرأ/ي أيضًا:

 محاكمة البشير.. ملهاة فض الاعتصام وإخفاء وجه السلطة العسكرية