05-مارس-2025
تحوّلت ليبيا إلى ساحة حرب بالوكالة (منصة إكس)

تحوّلت ليبيا إلى ساحة حرب بالوكالة (منصة إكس)

في الوقت الذي يُفترض فيه أن يكون مجلس الأمن الدولي حارسًا للأمن والسلم العالميين، تجد الأزمة الليبية نفسها رهينةً لانقسامات عميقة بين القوى الكبرى داخل المجلس، حيث تحوّلت ليبيا، في نظر كثيرين، إلى ساحة حرب بالوكالة تتصارع فيها الدول الكبرى على النفوذ، بدلًا من أن تتكاتف لحل أحد أكثر الصراعات تعقيدًا في العقد الأخير.

ومع دخول الأزمة عامها الرابع عشر منذ سقوط نظام معمر القذافي، يتساءل كثيرون: هل أصبح مجلس الأمن الدولي جزءًا من المشكلة في ليبيا بدلًا من أن يكون جزءًا من الحل؟

انقسام مجلس الأمن وتأثيره على النزاع الليبي

منذ اندلاع الحرب الأهلية الثانية في ليبيا عام 2014، بدا واضحًا أن الانقسام داخل مجلس الأمن انعكس على مسار النزاع. ففي حين اعترفت الأمم المتحدة بحكومة الوفاق الوطني في طرابلس عام 2016، دعمت قوى دولية أخرى الطرف المناوئ في الشرق اللواء المتقاعد خليفة حفتر، الذي يقود ما يعرف باسم القوات المسلحة الليبية. وبلغ التناقض ذروته عام 2019 حين شنّت قواته هجومًا واسعًا على العاصمة طرابلس.

منذ اندلاع الحرب الأهلية الثانية في ليبيا عام 2014، بدا واضحًا أن الانقسام داخل مجلس الأمن انعكس على مسار النزاع

آنذاك، عجز مجلس الأمن حتى عن إصدار بيان يدعو إلى وقف القتال بشكل حازم؛ إذ عرقلت قوى كبرى مسودة قرار لوقف إطلاق النار وإدانة الاعتداء، حيث اعترضت روسيا وفرنسا والولايات المتحدة على مشروع القرار، مما كشف عن انقسام حاد بين الدول دائمة العضوية. وقد ترافق هذا التعطيل الدبلوماسي مع تغير مفاجئ في المواقف، أبرزها اتصال هاتفي في نيسان/أبريل 2019 بين الرئيس الأميركي آنذاك دونالد ترامب وحفتر، وهو ما اعتُبر بمثابة ضوء أخضر ضمني لاستمرار الهجوم، في نظر الكثير من المتابعين للشأن الليبي.

ازدواجية المواقف: دعم سياسي أم تدخل مباشر؟

الانقسام داخل مجلس الأمن لم يكن نظريًا فقط، بل تجسّد في سجل حافل من الوقائع، حيث منعت روسيا تبني قرار أممي يدين هجوم قوات حفتر على طرابلس، بينما قدمت له دعمًا عسكريًا سريًا على الأرض. ولم تكن موسكو وحدها، بل فرنسا أيضًا وُجّهت إليها اتهامات مماثلة، إذ كشفت تقارير أنها وفرت دعمًا استخباراتيًا ميدانيًا لقوات حفتر، رغم إعلانها العلني دعم حكومة الوفاق الوطني.

هذا التناقض جعل مبعوثي الأمم المتحدة في موقف صعب، إذ كانوا يتوسطون بين الأطراف الليبية في العلن، بينما تدعم بعض الدول الكبرى أطراف النزاع سرًا. وقد عبّر عن هذا الواقع المرير الممثل الأممي السابق غسان سلامة الذي استقال عام 2020، مشيرًا إلى أنه شعر بأنه "طُعن في الظهر" من معظم أعضاء مجلس الأمن، لأنهم في العلن يتحدثون عن السلام، بينما على الأرض يدعمون أحد الأطراف.

فشل فرض حظر السلاح وتدفق المرتزقة

رغم أن مجلس الأمن أقرّ حظرًا دوليًا على تصدير الأسلحة إلى ليبيا منذ 2011، إلا أن هذا الحظر تحول إلى حبر على ورق. وحتى تقارير خبراء الأمم المتحدة وصفت الحظر بأنه "غير فعّال على الإطلاق"، حيث تم توثيق 18 عملية نقل أسلحة غير مشروعة وأربع حالات تدريب عسكري لقوات ليبية بين أذار/مارس 2021 ونيسان/أبريل 2022، في انتهاك مباشر للقرارات الأممية.

في المقابل، شهدت ليبيا تدفقًا غير مسبوق للمرتزقة والمقاتلين الأجانب، حيث قدّرت الأمم المتحدة في أواخر 2020 وجود حوالي 20 ألف مقاتل أجنبي على الأراضي الليبية، ينتمون إلى عدة دول، أبرزها سوريا وروسيا والسودان وتشاد، وكلهم دخلوا بدعم مباشر من قوى خارجية.

ورغم أن اتفاق وقف إطلاق النار الليبي نصّ بوضوح على رحيل المرتزقة خلال 90 يومًا، إلا أن هذا البند لم يُنفّذ حتى اليوم، مما يعكس ضعف قدرة المجتمع الدولي على فرض قراراته حتى على الدول التي صاغتها.

مؤتمر برلين.. وعود في العلن وانتهاكات في الخفاء

في كانون الثاني/يناير 2020، اجتمع قادة وممثلون عن عشرات الدول، بما في ذلك الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن، خلال مؤتمر برلين الدولي، وأصدروا تعهدات رسمية باحترام حظر السلاح وعدم التدخل في الشأن الليبي دعمًا لجهود الأمم المتحدة.

لكن لم يكد حبر البيان يجف حتى بدأت الانتهاكات مجددًا خلال أيام، إذ رصدت الأمم المتحدة رحلات شحن جوية تنقل أسلحة ومقاتلين إلى طرفي النزاع بشكل سري وفاضح. بل إن بعض الدول التي شاركت في مؤتمر برلين نفسه واصلت تزويد حلفائها بالسلاح بعد المؤتمر، مما كشف الهوة بين الخطاب الرسمي والممارسات الفعلية.

حرب بالوكالة تُطيل أمد الصراع

هذا النمط من الوعود المخلفة لم يسلم منه أحد، إذ واصلت الإمارات ومصر دعمهما العسكري لقوات حفتر في المنطقة الشرقية، فيما استمرت تركيا في دعم حكومة طرابلس عسكريًا. وبينما كان المجتمع الدولي يدعو للحوار، كانت الأطراف الخارجية تغذي الصراع بالسلاح والمقاتلين.

وفي نيسان/أبريل 2020، جاء توصيف أممي صريح للوضع: "تحولت الأزمة الليبية إلى حرب بالوكالة بلا نهاية، تؤججها قوى خارجية وقودها الليبيون الذين يدفعون الثمن الأغلى".

ورغم إدراك الأمم المتحدة لهذا الواقع، فإن مجلس الأمن لم يتمكن حتى اليوم من تسمية الجهات المنتهكة أو فرض عقوبات فعلية ضدها، نظرًا لنفوذ تلك الدول داخل المجلس.

تناقضات المجتمع الدولي: من 2011 إلى اليوم

في 2011، أصدر مجلس الأمن قرارات قوية سمحت بالتدخل العسكري في ليبيا، تحت ذريعة حماية المدنيين في إطار مبدأ مسؤولية الحماية. لكن بعد سقوط النظام وانزلاق البلاد في الفوضى، تراجع الزخم الدولي، وتحولت الالتزامات الأخلاقية إلى شعارات جوفاء.

صحيح أن الأمم المتحدة نشرت بعثة سياسية للدعم في ليبيا لمتابعة الوضع، لكن إرادة فرض القرارات الدولية غائبة تمامًا. ويشير محللون إلى غياب آلية تنفيذ فعّالة عندما يتعلق الأمر بمحاسبة الدول الكبرى أو حلفائها، حيث يبقى الفيتو سلاحًا يعطّل أي تحرك جدي إذا تعارض مع مصالح تلك القوى.

ارتدادات الصراع الدولي على الواقع الليبي

نتيجة لهذا المشهد الدولي المرتبك، كان الوضع داخل ليبيا الضحية الأولى. سياسيًا، أدت التدخلات المتضاربة إلى تكريس حالة الانقسام المؤسسي، وظلّت ليبيا لسنوات تحت سلطتين متنافستين في الشرق والغرب، لكل منهما داعمون خارجيون، مما عرقل جهود المصالحة الوطنية.

ورغم توحيد الحكومة مؤقتًا عام 2021 تحت اسم حكومة الوحدة الوطنية إثر اتفاق أممي، فإن التجاذبات عادت من جديد مع تأجيل الانتخابات التي كانت مقررة في ديسمبر من ذلك العام، بسبب فشل الفرقاء الليبيين في التوافق على قواعدها. وهو فشل له جذور في تدخلات القوى الخارجية التي سعت إلى ضمان نتائج تصب في صالحها. وهكذا تجد ليبيا نفسها اليوم مجددًا أمام حكومتين متوازيتين بحكم الأمر الواقع، في طرابلس وبنغازي، وسط جمود سياسي يقلق الداخل والخارج معًا.

أمنيًا، أدى تنافس الدول على الأراضي الليبية إلى إطالة أمد الحرب وتعظيم كلفتها البشرية. فخلال الهجوم على طرابلس (2019-2020) وحده، وثقت الأمم المتحدة سقوط 685 ضحية مدنية (356 قتيلًا و329 جريحًا) خلال عام واحد، إضافة إلى نزوح ما لا يقل عن 149 ألف شخص من منازلهم في محيط العاصمة. كما عانى نحو 893 ألف ليبي من حاجات إنسانية ماسة تحت نيران المعارك.

هذه الأرقام تعكس الكلفة الإنسانية الباهظة عندما تتحول ليبيا إلى حلبة صراع غير مباشر بين قوى إقليمية ودولية. والأخطر أن استمرار تدفق السلاح ووجود المرتزقة عزز عسكرة الأزمة وصعّب العودة إلى المسار السلمي. ووفقًا للأمم المتحدة، لا يزال آلاف المقاتلين الأجانب وكمّ هائل من الأسلحة الحديثة مرابطين في ليبيا، مما يشكّل تهديدًا جسيمًا لاستقرار البلاد والمنطقة بأكملها.

ولم تقتصر التداعيات الأمنية على الاقتتال المباشر، بل ساهم انتشار السلاح بين أيدي جماعات خارجة عن الدولة، إضافة إلى وصول تقنيات متطورة عبر الدعم الخارجي، في خلق أرض خصبة لنشاط التنظيمات الإرهابية وتجار البشر، الذين وجدوا في الفوضى مرتعًا لتحقيق مآربهم. وقد حذّرت بريطانيا، مثلًا، في مجلس الأمن من أن "إغراق ليبيا بالسلاح يؤجج التصعيد، والمستفيد الأكبر هم الإرهابيون". وبالفعل، تشير التقارير إلى عودة نشاط خلايا لتنظيم الدولة في بعض المناطق، خاصة الجنوبية، مستغلة الفراغ الأمني، مما يهدد بنشر العنف خارج حدود ليبيا نحو دول الجوار.

التداعيات الاقتصادية للصراع الدولي

اقتصاديًا، عمّق الصراع الدولي معاناة الاقتصاد الليبي، الذي يعتمد أساسًا على النفط. فقد شهدت ليبيا عمليات إغلاق متكررة للمنشآت النفطية ضمن لعبة الضغط بين الأطراف المحلية وداعميها الخارجيين، مما كبّد البلاد خسائر بمليارات الدولارات من العائدات. وتشير بيانات المصرف المركزي إلى تضخم الدين العام الداخلي ليصل إلى أكثر من 100 مليار دينار ليبي بحلول 2020، بينما تسبب الحصار النفطي أوائل ذلك العام وحده في خسارة تفوق 4 مليارات دولار خلال أشهر.

وبدلاً من استثمار الموارد في إعادة الإعمار وتحسين معيشة المواطنين، توجه جزء كبير من الإنفاق إلى تمويل الحرب وشراء الولاءات. وترافق هذا الاستنزاف المالي مع انقسام المؤسسات المالية، حيث بات هناك مصرفان مركزيان متوازيان، ما أدى إلى سياسات نقدية متضاربة زادت من إضعاف الاقتصاد. والنتيجة كانت ارتفاع معدلات الفقر والبطالة، وانهيار الخدمات الأساسية مثل الكهرباء والرعاية الصحية في العديد من المناطق، رغم الثروة النفطية الهائلة التي تمتلكها ليبيا.

نحو دور أممي أكثر فاعلية في ليبيا

أمام هذا الواقع، تبدو إعادة تقييم دور الأمم المتحدة والمجتمع الدولي في ليبيا ضرورة ملحّة، إذ لا يمكن لأي تسوية دائمة أن تنجح ما لم يتجاوز مجلس الأمن حالة الشلل الناجمة عن تناقض مصالح أعضائه الكبار. فغياب موقف دولي موحّد سمح بتفاقم الأزمة، وجعل البلاد ساحة مفتوحة للتدخلات الخارجية التي زادت من تعقيد المشهد السياسي والعسكري. ولعل الخطوة الأولى نحو حل أكثر فاعلية تكمن في التزام القوى الكبرى نفسها بما تعلنه من مبادئ، وتحويل تعهداتها من مجرد تصريحات دبلوماسية إلى خطوات ملموسة تؤدي إلى استعادة السيادة الليبية ووضع حد لحالة الفوضى التي تعيشها البلاد.

إنهاء حرب الوكالة المستمرة في ليبيا يتطلب وقفًا حقيقيًا لتدخلات الدول الخارجية، وهو أمر لن يتحقق دون تنفيذ صارم لحظر الأسلحة من خلال آلية رقابة أممية فعالة، تضمن منع تدفق المزيد من العتاد العسكري إلى الأطراف المتنازعة، فضلًا عن ضرورة ربط أي خرق للعقوبات بإجراءات عقابية فورية، بغض النظر عن الجهة المنتهكة. إذ لا جدوى من إصدار قرارات لا تتبعها آليات حقيقية للتنفيذ، كما أن استمرار مجلس الأمن في الاكتفاء بالإدانة اللفظية دون إجراءات رادعة جعل قراراته أقرب إلى بيانات شكلية لا تغير من الواقع شيئًا.

وفي ظل هذه التعقيدات، يصبح من الضروري أن تعمل الأمم المتحدة على توحيد جهود الوسطاء ومنع تعدد المسارات التفاوضية التي تقودها دول مختلفة وفق أجنداتها الخاصة، وهو ما أسهم في تشتيت الجهود وأضعف فرص الحل السياسي. المطلوب اليوم هو مظلة أممية واحدة تجمع اللاعبين الإقليميين والدوليين على طاولة واحدة، بحيث يتم فرض احترام مخرجات الحوار الليبي، سواء فيما يتعلق بترتيبات الانتخابات المؤجلة أو بتوحيد المؤسسات العسكرية والاقتصادية. ومن هنا، تبرز أهمية إشراك الاتحاد الأفريقي والاتحاد الأوروبي وجامعة الدول العربية في آلية تنسيق دولية، تدعمها قرارات ملزمة من مجلس الأمن، لضمان عدم انقلاب أي طرف محلي أو خارجي على ما يتم الاتفاق عليه.

أما على المستوى المحلي، فمن الضروري توفير ضمانات لليبيين بأن بلادهم لن تبقى رهينة لتصفية الحسابات الدولية، وأن أي جهود دبلوماسية يجب أن تصب في تحقيق مصالح الشعب الليبي أولًا. وربما يكون الوقت قد حان للنظر في إمكانية نشر بعثة مراقبين دوليين تتولى الإشراف على تنفيذ ترتيبات انسحاب المرتزقة وتوحيد القوات الأمنية والعسكرية، وفق ما دعت إليه اتفاقات وقف إطلاق النار.

نحو تسوية ليبية شاملة ومستدامة

في النهاية، يُدرك الجميع أن مفتاح الاستقرار الدائم في ليبيا هو اتفاق الليبيين أنفسهم عبر تسوية شاملة لا غالب فيها ولا مغلوب، غير أن التجربة أظهرت أن هذا الاتفاق الداخلي صعب المنال في ظل استقواء كل طرفٍ بدعم خارجي متعارض، ومن هنا، فإن كبح التدخلات الخارجية ليس ترفًا، بل شرطٌ لازمٌ لتهيئة المناخ لتسوية ليبية-ليبية حقيقية.

إنهاء حرب الوكالة المستمرة في ليبيا يتطلب وقفًا حقيقيًا لتدخلات الدول الخارجية، وهو أمر لن يتحقق دون تنفيذ صارم لحظر الأسلحة من خلال آلية رقابة أممية فعالة

وإذا استطاع مجلس الأمن كسر حالة الجمود وتوحيد كلمته، ولو في حدها الأدنى، فربما نشهد انتشال ليبيا من مستنقع الفوضى. أما استمرار الحال على ما هو عليه، من شعارات أممية طموحة يقابلها تراجع على الأرض، فلا يعني سوى إطالة أمد معاناة الشعب الليبي وإبقاء مستقبل البلاد رهينةً للتجاذبات الدولية. ومهما طال أمد الصراع، ستظل آمال الليبيين معلقةً على صحوة ضمير دولية تضع معاناتهم فوق حسابات المصالح الضيقة.

الأزمة الليبية هي أيضًا اختبار لمصداقية منظومة الأمن الجماعي الدولي، فإما أن يثبت مجلس الأمن قدرته على تجاوز خلافات أعضائه الكبار لخدمة السلام، أو سيظل مثالًا آخر على عجز المجتمع الدولي حين تتصادم مصالح القوى. والمطلوب حاليًا أن تتوافق القوى الخارجية على هذه الحقيقة، وأن تكف عن تأجيج الحرب بالوكالة، حتى يستطيع الليبيون تقرير مصيرهم بأنفسهم، بعيدًا عن الضغوط والإملاءات. وهكذا فقط يمكن للأمم المتحدة أن تستعيد دورها البناء في ليبيا، وهكذا فقط يمكن إغلاق فصل معاناة طال أمده، وفتح صفحة جديدة من الاستقرار والبناء في هذا البلد العربي الغني بموارده والمحوري لأمن إقليمه ومحيطه.