30-يونيو-2019

الصحافية السودانية يسرى الباقر

هل فكرتم من قبل بالجانب الثقافي لعالم الموضة والأزياء؟ هل يمكن أن تحمل عارضة أزياء رسالة إلى العالم تعبّر من خلالها عن أمرٍ في غاية الأهمية يحدث في مكانٍ ما؟ هل من الطبيعي أن تلتفت مجلة متخصّصة في شؤون الموضة وأسلوب الحياة إلى قضية إنسانية؟

استطاعت مجلة "فوغ" أن تغيّر شكل عالم الموضة وتدفع ببعض القضايا إلى المقدمة

كلنا يعرف مجلة "فوغ" (Vogue) البريطانية، مجلة الموضة وأسلوب الحياة، حتى لو لم نكن مهتمين في شؤون الموضة والأزياء، لأن فوغ ليست فقط لعارضات الأزياء ومواسم الموضة، فالمجلة إلى حدٍ ما تهتم بقضايا إشكالية، تبحث في مسائل ثقافية عبر أدواتها الخاصة، المتمثلة في الملابس والجسد، تبحث في ما يمكن أن يحمله هذان المكونان من صور ثقافية اجتماعية، تتعدى بذلك الحدود الجندريّة وتذهب غالبًا إلى النظر في تموضع المفارقات والنقائض، وكل ما يحفّز على التفكير وتقبّل كل ما هو غير اعتيادي. تعرض فوغ أفكارها على جمهورها المتنوع الواسع، بلغات مختلفة: إنجليزية، فرنسية، إيطالية، ألمانية، وأخيرًا عربية، ولكن مع بعض الاستعارات من اللغة الأشهر والأكثر استخدامًا، ربما لم يفكر القائمون على النسخة العربية من قبل بأثر الموضة على اللغة العربية أو العكس.

اقرأ/ي أيضًا: "صوت المرأة ثورة".. زغاريد انتفاضة السودان

التفتت مجلة فوغ في عددها الأخير إلى ثلاث نساء سودانيات كان لهنّ دور مؤثر في الحراك السوداني، خصوصًا خلال أيام اعتصام القيادة العامة. شاعرة ورسامة وصحافية. ثلاث نساء وثلاثة اختصاصات من شأنها أن تحدث فارقًا كبيرًا في الثورة السودانية، مع تسليط الضوء على الوجه الثقافي التحرري للمرأة السودانية باعتبارها صارت أيقونة للثورة.

الرائدات الثوريّات كما وصفت المجلة، لم يكنّ عارضات أزياء أو المشاهير، ولم يرتدينَ ملابس غريبة تلفت الأنظار، بل كنّ سودانيات فقط، وهل هناك أهم من تلك الجزئية لصنع فارق في ثورة السودان؟ سلّطت المجلة في مقالاتها الضوء على دور المرأة السودانية ودور الفن في قيادة احتجاج سلمي الطابع، وأكملت تغطيتها لأحداث الثورة بعد فض الاعتصام، وأجرت مقابلة تحولت فيها المرأة السودانيّة إلى شاهدة ومراقبة وناقل خبر موثوق عن الجرائم البشعة التي مارسها العسكر في فض الاعتصام، ليتحول الاهتمام من جمال وتناسق الجسد إلى جمال وشجاعة الثورة والروح النسويّة التي تقف وراءه. كذلك نقلت أخبار تضامن المشاهير مع القضية السودانيّة، وكانت ربما أول صحيفة ثقافية بعيدة عن الشؤون السياسية ترفع هاشتاغ BlueForSudan.

من أعمال الفنانة السودانية آلاء ساتر

الأخبار السياسية بالنسبة لفوغ ليست مجرد أخبار بعيدة وغير هامة، بل تحولت لتصبح دافعًا للكثير من الأفكار عن تصميم الملابس وجلسات التصوير، ومن ورائها معاني عيش المرأة البيضاء النحيلة ذات الملامح المحددة في اللحظة الراهنة. فبين آخر صيحات الموضة والقضايا الإنسانية روابط كثيرة، استطاعت من خلالها المجلة أن تغيّر شكل عالم الموضة وتدفع ببعض القضايا إلى المقدمة.

تحتفي مجلة فوغ بعالم المرأة بأشكاله كلها، من الرفاهية وحتى الفقر، من التحرر إلى القمع، من المركز إلى الهامش، وهذا ربما ما جعل من أسماء العاملات في فوغ من محررات، وحتى عارضات، أسماء مثبتة في الثقافة المعاصرة تقدّم محتوى يلفت الأنظار في بعض الأحيان. وهو ما جعل من اسم فرانكا سوزاني (1950-2016)، المرأة الإيطالية، التي غيّرت ملامح مجلة فوغ بنسختها الإيطالية، عبر تأثرها بالثقافات الأمريكية والبريطانية والفرنسية، مع الحفاظ على خصوصيتها الإيطالية، لتجعل من عالم الموضة مساحة على مقياس أحلامها، وتعبّر من خلاله عن كل ما تريد قوله للعالم.

اعتبرها البعض أفكارًا ضحلة ومنحطة، والبعض الآخر مجّدها وصوّرها بأنها تقدم أعلى مستوى ممكن للجمع بين الموضة وأحداث العالم، وذلك عبر خلق علاقة فنية بين الجسد كحامل ثقافي وأداة اجتماعية يمكن أن يحمل رسائل وأفكار، والزي الذي يرتديه وما يمكن أن نقوله عبر الملابس. لذلك كان فهم فرانكا سوزاني، ومن ورائها مجلة فوغ للموضة، فهمًا حداثيًّا وثوريًّا، لا يشبهه شيئًا في عالم الأزياء، كونه جاء من الاهتمام بالمرأة أولًا، وبمعنى أصح بدأ من الاهتمام بالوجود الإنساني، ومن ثم الجسد وتتبعه الملابس، وكل ما يحمله هذا من أفكار ومشاريع تؤسس لفهم أوسع للفن ومعنى التعبير بصيغ فنية.

كتاب وفيلم ومواقف مؤثرة

"عندما توفيّ والدي عرفت بأنني لم أطرح عليه الأسئلة الكافية ولم أتعرف عليه، لذلك قرّرت أن أحمل كاميرا وأتبع أمي". هذا كان دافع ابن فرانكا سوزاني محررة صحيفة فوغ الإيطالية سابقًا، المصور والمخرج فرانشيسكو كاروزيني، لتصوير فيلم وثائقي عن والدته قبل موتها، يحمل نفس عنوان الكتاب الذي يضم سيرتها الذاتية والمهنية ومقتبسًا عنه.

كان فهم فرانكا سوزاني، ومن ورائها مجلة فوغ للموضة، فهمًا حداثيًّا وثوريّا، لا يشبهه شيئًا في عالم الأزياء

"فرانكا: الفوضى والابتكار" عنوان صار يمثّل كل توجّه مجلة فوغ، الذي قلبته سوزاني بعد عملها كمحررة في النسخة الإيطالية للمجلة في الثمانينيات من القرن الماضي، كما قلب الفيلم الوثائقي الذي صوّره ابنها مفهومنا عن عالم الموضة، وبالتالي قرّب أفكاره منا، ودفعنا للوقوف عند اهتمامات المجلة الثقافية وما الذي يجعلها تهتم بالمرأة ذات البشرة السوداء، وتحتفل بالعارضات ذات الأصول العربية، وختامًا تقف عند خصوصيّة المرأة السودانيّة، هذا ليس فقط لكسر القوالب النمطية وقبول الآخر، بل للاهتمام بكل من لديه ميزة أو علامة من شأنها أن تصنع فارقًا في فهم العالم.

اقرأ/ي أيضًا: المرأة كأيقونة للثورات العربية

يقدم الفيلم حكاية عن سوزاني، أحلامها ومشاريعها، وشخصيتها العنيدة التي حملتها إلى عالم الموضة، ودفعتها لتغيير أساساته، وجعله متأثرًا باللحظات الراهنة ومؤثرًا فيها بشكلٍ متوازي. معتنقةً لفكرة أن إنسان القرن العشرين إنسان مصدوم، ولذلك عليه أن يصرّح بما يفكر ويعلن عن وجهة نظره، كائنًا من كان، عارضة أزياء أو فيلسوفًا، ولم يتوقف الأمر هنا، بل خلقت سوزاني فلسفة خاصة للأجساد المنحوتة البيضاء ووضعتها في واجهة كل ما يحدث في العالم.

أحدث صيحة وموجة

لم تكن أفكار سوزاني مقبولة في العالم، كما لم يكن تلقيها في المجتمعات الغربية بالأمر السهل، جلسة تصوير في أحد الشواطئ الملوثة بالنفط، بعنوان ماء ونفط، لم تكن بالمطلق عن الأزياء، عارضة شقراء ترتدي زيًّا من الريش تنام على شاطئ أسود اللون. صورٌ وصفت بالهزليّة والانحطاط بالنسبة لأشهر مجلة في عالم الموضة والجمال، كان يتوجب عليها أن تضع الجسد في محيط تجاري الملائم له، إلاّ أن سوزاني وجدت المكان الأمثل للجسد الذي يعيش في أجواء إشكالية، كيف له أن يكون معزولًا وغير آبه بكل ما يحدث. ليصبح جسد العارضة جسدًا لكائن بحريّ تعرض للضرر جراء التلوث. من خلال أفكار فرانكا سوزاني عبّر عالم الأزياء عن موقفه الأخلاقي من كل ما يحدث.

كما كان لظهور إيف سان لوران في فرنسا تأثير كبير على فكر سوزاني ومن ثم على صورة المرأة في المجتمعات الأوروبية، فقد أعطاها الحق بأن ترتدي ملابس الرجال وغيّر في طريقة تلقي ملامح الجسد الأنثوي المتبدل على الدوام والقادر على التكيف مع أيّ قضية إنسانية تحدث في محيطه، لفت لوران الأنظار إلى عالم الموضة كما سوزاني من باب مختلف، كسروا قواعد عالم الموضة الجامد وحولوه إلى قراءة متجددة على الدوام.

من مشروع ماء ونفط

أعداد كثيرة حملت عناوين مستفزة للعالم، لم يكن متابعو عالم الأزياء بانتظارها، مثل الحرب، حالة الطوارئ، إعادة التأهيل، الاغتصاب، العنف الأسري، في أحد أعداد المجلة، خصصت فرانكا حيزًا كبيرًا لموضوع عمليات التجميل، وأنجزت مع مصوريها مجموعة صور تقول من خلالها أن أشهد على هذه الحقيقة، بطريقة ساخرة تصوّر حال النساء اللواتي يقدمنّ على المخاطرة من أجل المحافظة على الشباب، في الوقت عينه كانت تتمتع سوزاني بتقدمها في العمر محافظةً على عبقريتها وتجددها الفكريّ.

بالإضافة لعدد المجلة الاحتجاجي الذي وجّه الأنظار إلى عنصرية لم تكن مرئية في عالم الموضة، من خلال نسخة فيها عارضات أزياء سوداوات، خلق ذلك صدمة لأنه لم يكن للمرأة ذات البشرة السوداء مكان في هذا العالم. لوقت طويل بقي هذا العدد المحبّب عند المثقفين والأكاديميين، وتم طبع آلاف النسخ منه. وأعداد كثيرة إشكالية متمردة كانت تحمل مواقف فرانكا الشخصية مما يحدث في العالم، جاعلة من أشهر مجلة موضة في العالم، منصة إعلامية تتحدث عن حقائق وأحداث عالمية، وحملّت العارضة فكرة وقضية، وجعلتها تقف بمواجهة العنف والتهميش أو حتى الازدراء الذي تواجهه المرأة في العالم.

خير مثال عن ذلك كانت العارضة ناعومي كامبل، الابنة المخلصة لفوغ، التي لم تتردد بأن تطلق رسائلها للعالم عبر المجلة، وكان آخرها تضامنها مع الثورة السودانيّة.

من مشروع الطريق إلى دمشق

كان لفوغ إيطاليا رأي في انطلاق أول مركبة فضائية أمريكية، كما أنها كانت تعرف محمد علي كلاي، وتشي غيفارا، وعرفت الحلم الأمريكي، حينها كانت رئيسة تحريرها تريد أن تقول رأيها عن العالم وتحكي من خلال الصور عن كل قضاياه. هذا ما جعل منها مجلة شعبية، على الرغم من غرائبية صورها إلّا أنها بقيت مجلة شابة يتقبلها الناس، كما أنها قرّبت الفن من الناس. في إحدى الصور التي نشرتها المجلة كانت لسلفادور دالي مع وحيد القرن، عبرت من خلالها عن مفهوم الابتكار عبر الأفكار الفوضوية. وراء صور فوغ يقف راوي قصص حقيقي يرى بعينيه وينقل حكاياته عبر تثبيت اللحظة في صورة. وهذا ينطبق على كل طبعات المجلة بمختلف لغاتها، حيث يمكن أن نرى أن هذه الذهنية لم تقتصر على فرانكا سوزاني والنسخة الإيطالية، فالنسخة البريطانية، أطلقت مجموعة صور بعنوان "الطريق إلى دمشق" عام 2009، كانت استثنائية الفكرة في ذلك الوقت، من الذهاب نحو المكان المختلف، وكان الطريق عبارة عن فضاء مشرقي ومحيط غير اعتيادي وجدت فيه العارضة.

تمثّل مجلة "فوغ" همزة وصل بين عالم الأزياء والمجتمع، والموضة طريقة فنية يمكن أن نعبّر من خلالها عن عالمنا

يمكن أن نقول فوغ قبل فرانكا وبعدها، فهي التي جعلت مجلة متخصصة بالموضة مؤثرة وقوية، وتدفع الناس للتفكير، لم تحافظ على الشكل الممل والتجاري لمجلات الموضة، ولم تُظهر نساء جميلات رشيقات يقفزنّ ويضحكنّ فقط، بل عملت على تقديم مواقف تلك النساء عبر الإيحاءات الفنية، مع وجود الحس الجمالي الذي يدفع للتفكير في كل القضايا، إلى جانب التعامل مع الفن والشكل الفني للأجساد والتعبير من خلاله.

اقرأ/ي أيضًا: النوبة التونسية... أيقونة موسيقية ورسائل سياسية

هذا ما جعلها من أكثر المجلات المؤثرة ليس فقط في عالم الموضة، بل في الشق الثقافي لتلك العلاقة بين عالم الأزياء والمجتمع، والطريقة الفنية التي يمكن أن نعبّر من خلالها عن عالمنا.

 

اقرأ/ي أيضًا:

الموضة على السوشيال ميديا.. كيف يفسد الذوق العام بصورة؟!

برامج الـ"Make Over".. هوس الجمال والتنميط