10-يناير-2025
يعتبر جان مارين لوبان الزعيم الروحي لليمين المتطرف في فرنسا (AFP)

يعتبر جان مارين لوبان الزعيم الروحي لليمين المتطرف في فرنسا (AFP)

شهدت ساحة الجمهورية وسط باريس، مساء الثلاثاء، تجمهر المئات من الأشخاص، غالبيتهم من أحزاب وجمعيات وحركات يسارية؛ ليس للاحتجاج عن شيء معيّن، كما جرت عادة تواجدهم بتلك الساحة، بل احتفالًا بوفاة أبرز وجوه العنصرية والإجرام الاستعماري في تاريخ البلاد، مؤسس حزب "الجبهة الوطنية" اليميني المتطرف جان ماري لوبان، الذي وافته المنية عن سن ناهز الـ 96 عامًا.

"لقد فارق الحياة محاطًا  بعائلته وباله مع الله"، قالت عائلة لوبان في بيان. بيد أن الخبر سقط على معارضي الرجل بمثابة بشارة سعيدة، وفي خضم التعليقات على الحادثة، كتب زعيم "فرنسا الأبيّة" اليساري جان لوك ميلانشون: "لقد انتهى نضالنا ضد الرجل، لكن حربنا على الكراهية والعنصرية والإسلاموفوبيا ومعادة السامية التي كان ينشر، لا تزال مستمرة".

وغرّد رئيس "الحزب الجديد المناهض للرأسمالية" اليساري المتطرف، فيليب بوتو، ساخرًا: "إنه أمر جنوني، أمنياتنا للسنة الجديدة تتحقق! سنة 2025 بدأت بشكل جيد، مع وفاة لوبان، العنصري، الاستعماري، الفاشي، السفاح وجلاد التعذيب، والمعادي للأقليات الجنسية.. لكن هذا لا يغير شيئًا في نضالنا ضد الفاشية الذي أصبح أكثر استعجالًا (من ذي قبل)". 

كتب زعيم "فرنسا الأبيّة" اليساري جان لوك ميلانشون: "لقد انتهى نضالنا ضد الرجل، لكن حربنا على الكراهية والعنصرية والإسلاموفوبيا ومعادة السامية التي كان ينشر، لا تزال مستمرة

 وفي السنوات الأخيرة، تشهد فرنسا صعودًا كبيرًا لليمين المتطرف، حيث نجحت ابنة المتوفى ووريثته، مارين، في الوصول إلى الدور الثاني من رئاسيات البلاد خلال الدورتين الأخيرتين، كما أصبح حزبها أكبر قوة تحت قبة البرلمان، وهو -ربما- ما لم يكن يتوقعه حتى جان ماري لوبان عند تأسيسه الحزب في سبعينات القرن الماضي. بينما تعد وفاته اليوم مناسبة للإشارة مجددًا لخطر هذا الصعود، للتذكير بتاريخ الرجل الدموي كمجرم حرب إبان الفترة الاستعمارية للجزائر والهند الصينية، وأفكاره الفاشية والعنصرية ضد المسلمين والمهاجرين واليهود والأقليات الجنسية.

من الهند الصينية، إلى الجزائر وقناة السويس.. صعود مجرم الحرب!

تخرّج جان ماري لوبان من معهد المشاة العسكرية في عام 1953، ليتم إلحاقه بسلاح المظليين، الذي يعد أحد فرق النخبة بالجيش الفرنسي. غير أن أول مشاركة عسكرية حقيقة له انتظرت بضعة شهور، إلى حدود الأسابيع القليلة التي تلت الهزيمة المدوية التي منيت بها فرنسا أمام المقاومة الفيتنامية في ديان بيان فو (7 أيار/ مايو 1954)، حيث سيتم إرساله إلى الهند الصينية كملازم بكتيبة المظليين التابعة للفيلق الأجنبي.  

وفي تشرين الأول/ أكتوبر 1956، شارك لوبان في العدوان الثلاثي على مصر، حيث قاد عملية إنزال للقوات الفرنسية في بور فؤاد. لكن مغامرته بقناة السويس لم تدم سوى أيامًا معدودة، بعد أن فرض مجلس الأمن الدولي وقفًا لإطلاق نار بضغط أميركي-سوفياتي. 

وقتها، كانت الثورة الجزائرية قد بلغت أوجها، وأطلقت المقاومة "معركة الجزائر"، التي واجهتها السلطات الاستعمارية الفرنسية بقمع دموي، وهو ما يفسر اعتمادها على مظليي الفيلق الأجنبي في عمليات التحقيق مع المعتقلين الجزائريين، التي كان يتم فيها تعذيبهم بطرق شتى، متطابقة مع التقنيات التي كانت تعتمدها النازية في مراكز احتجازها. وهنا تبرز علّة التطابق تلك، إذ أن الفيلق الفرنسي المذكور كان يحوي نحو 30 ألفاً من جنود هتلر السابقين، حوالي 4 آلاف منهم كانوا في نخبة الـ SS (قوات الأمن الخاصة النازية) سيئة الذِّكر وهم الذين مثّلوا عماد كتائب المظليين التابعة للفيلق. 

وبصحبة زملائه النازيين، قام جان ماري لوبان، الذي كان وقتها الملازم الأول "ماركو" (وهو اسم مستعار تم منحه له لإخفاء هويته) بتعذيب العشرات من الجزائريين وقتلهم، مرتكبًا أحد أبشع جرائم الحرب التي طبعت الاستعمار الفرنسي لهذا البلد العربي. وبحسب تحقيق لصحيفة لوموند، نشر عام 2002، كان لوبان يقود فرقة من 20 عسكريًا، مهمتهم، بالإضافة إلى إجراء عمليات التحقيق في مخافر الشرطة والمعتقلات، مداهمة بيوت الذين يشتبه في ارتباطهم بجبهة التحرير الوطني الجزائرية، وتعذيبهم أمام أنظار عوائلهم.

ونقل تحقيق الصحيفة الفرنسية، شهادة عبد القادر عمور، الذي اقتحم لوبان وجنوده بيته بحي القصبة، ليلة الـ 2-3 شباط/ فبراير 1957، التي تحدث فيها عن تجربته المريرة قائلًا: "كنت في الـ 19 من عمري، ولم تكن لدي أي مسؤوليات داخل جبهة التحرير الوطني. ليلتها، داهم بيتنا  نحو عشرين رجلًا بقيادة لوبان، لقد كانوا يبحثون عن أسلحة". 

وأضاف عمور بأن الجنود عروه بالكامل، وألقوا به على الأرض على ظهره ويداه مقيدتان من تحته، و"بعد ذلك قاموا بتوصيل الأسلاك الكهربائية مباشرة بالمقبس، ومرروها على جميع أنحاء جسدي، بما في ذلك أعضائي التناسلية. كنت أصرخ. ثم أخذوا المياه القذرة من المرحاض، ووضعوا فوطة قذرة على وجهي وأجبروني على ابتلاعها بالقوة. كان لوبان يجلس فوقي ممسكًا بقطعة القماش، بينما كان آخر يسكب المياه علي".

وفي الصباح تم إطلاق سراح عبد القادر عمور والرجال الثلاثة الذين عذبوا معه، بينما أخبر الجنود أحدهم بأنه تم اغتصاب زوجته في الطابق العلوي، ساخرين: "إن امرأتك كانت رائعة!". 

وبدوره، يسرد محمد مولاي، الذي كان طفلًا يوم داهمت فرقة لوبان بيتهم، وعذبوا والده، أحمد، أمام عيني زوجته وأبنائه الستة، حيث تطابقت الطرق المستخدمة في تعذيب الأب مع تلك التي عذب بها عمور وغيره، مع إضافة أن لوبان استخدام سكينه الخاص في تقطيع شفتي الرجل. ومع صمود أحمد، يقول ابنه: "فقد لوبان صبره فأمسك رشاشًا وأردى والدي قتيلًا بزخّة من الرصاص". 

قصة مولاي لن تنتهي عند هذا الحد، ذلك إذ عثر الابن محمد على السكين الخاص بلوبان في رواق المنزل بعد أن أسقطه سهوًا وهو يهم بالمغادرة. هذا السكين، الذي حفرت عليه الأحرف الأولى من اسم السفاح واسم كتيبته"J.M. Le Pen, 1er R.E.P." ، سيمثل فيما بعد الدليل المادي الوحيد لإدانة لوبان بممارسة التعذيب وارتكاب جرائم حرب، بعد أن سعت السلطات الفرنسية إلى طمس كل التقارير التي رصدت جرائمه.

بالمقابل، تشبث لوبان مرارًا بنفي هذه الجرائم المنسوبة إليه، بل وذهب إلى مقاضاة الصحف والمؤرخين الذين كتبوا عنها بتهم التشهير. لكنه، وبعد مواجهته بالأدلة المادية، اعترف قائلًا في مقابلة صحفية: "ليس لدي ما أخفيه. لقد مارسنا التعذيب لأن ذلك مان يجب علينا القيام به" (وثائقي "لوبان والتعذيب"). 

عراب العنصرية في فرنسا

في عام 1972، أسس لوبان حزب "الجبهة الوطنية"، الذي أصبح التكتل الأبرز لتيارات اليمين المتطرف الفرنسي، وجمع نشطاء وسياسيين من ملكيي حركة "Action Française" إلى النازيين المتعاطفين مع حكومة فيشي، مرورًا بأفراد سابقين في "منظمة الجيش السري" (OAS) الإرهابية التي كانت تقاتل ضد تحرير الجزائر وتآمرت لاغتيال الرئيس الفرنسي السابق شارل ديغول. وبذلك أصبح لوبان عراب العنصرية في فرنسا، وهو ما عبر عنه في عدد من التصريحات

وعدا قتاله جنبًا إلى جنب مع عناصر سابقين في الـ "SS"، كان لوبان معاديًا للسامية منكرًا  للمحرقة ومتعاطفًا مع الشخصيات الفرنسية التي خدمت النازية إبان غزو هتلر لفرنسا. وفي مقابلة صحفية أجراها عام 1987 مع قناة "RTL"، قلل لوبان من شأن الهولوكوست، واعتبر أفران الغاز التي استخدمت في الإعدامات الجماعية "مجرّد تفصيلة تاريخية". وأردف مستنكرًا سؤال المذيعة: "هل تريدين أن تخبريني بأن هذه (أي المحرقة) حقيقة يجب على الجميع الإيمان بها؟ هل هي التزام أخلاقي؟". وكرر لوبان هذه التصريحات بعدها  ثلاث مرات على الأقل، إحداها في لقاء خطابي عام 1997، وآخرها في مقابلة تلفزيونية مع قناة "BFMTV" عام 2015.

بل وأكثر من ذلك، في 2005 صرح لوبان في مقابلة مع مجلة "Rivarol" اليمينية المتطرفة، بأنه الاحتلال النازي لفرنسا "لم يكن غير إنساني". وعاد في عام 2015 ليصرح لنفس المجلة، بأنه لا يعتبر الماريشال بيتان، الذي تعاون مع الاحتلال النازي وقدم ولاءه الكامل لهتلر، خائنًا. 

وفي لقاء صحفي مع قناة "M6" عام 2002، حاول مؤسس "الجبهة الوطنية" الدفاع عن نفسه أمام الاتهامات بالعنصرية، لينتهي بالتعبير عن عنصرية حقيقية، حين قال: "خدمي في البيت سود، وطباخي أسود… ماذا تريدون مني أن أفعل أكثر من ذلك؟ أن أتزوج مثليًا أسودًا مصابًا بالإيدز؟". وفي عام 2014، وأثناء لقاء خطابي في مارسيليا، صرّح متحدثًا عن النمو الديموغرافي في إفريقيا: "سيدنا إيبولا يمكنه أن يحل المشكلة في ثلاثة أشهر".

أسس لوبان حزب "الجبهة الوطنية"، الذي أصبح التكتل الأبرز لتيارات اليمين المتطرف الفرنسي، وجمع نشطاء وسياسيين من ملكيي حركة "Action Française" إلى النازيين المتعاطفين مع حكومة فيشي، مرورًا بأفراد سابقين في "منظمة الجيش السري" (OAS) الإرهابية

أما بالنسبة لكراهيته للعرب والمسلمين، ففي فيلم وثائقي عام 2010، قال لوبان: "اشتريت منزلًا في الريف حتى أسمح لأطفالي، الذين يعيشون في الدائرة الخامسة عشرة (في باريس)، برؤية الأبقار بدلًا من رؤية العرب". وقبل ذلك، في تصريحات لصحيفة "لوموند" عام 2003، قال: "مستقبلًا، في اليوم الذي سيكون فيه، ليس 5 ملايين فحسب، بل 25 مليون مسلم في فرنسا، سيصبحون سادة البلاد، وسيمشي الفرنسيون بمحاذاة الجدران، مطأطئي الرؤوس وعيونهم في الأرض".

هذا، وتُعدّ أكبر النجاحات السياسية الشخصية لجان ماري لوبان وصوله إلى الدور الثاني في رئاسيات عام 2002، حيث خسر أمام المرشح الجمهوري جاك شيراك بعد أن دعت كل فعاليات الساحة السياسية الفرنسية إلى إقامة سد انتخابي لمنعه من الفوز بالرئاسة. ومع ذلك، فإن نجاحه الأكبر كان في تأسيس حزب اليمين المتطرف، الذي أصبح اليوم على أعتاب الحكم في فرنسا بعد تحقيقه نجاحات انتخابية متتالية، بدءًا من الانتخابات الأوروبية، ثم الانتخابات البرلمانية في العام الماضي.