11-يوليو-2018

يدفع سوروس مئات الملايين لإنجاز توجهاته الفكرية على الأرض (Getty)

أثار الملياردير والمفكر من أصول مجرية، جورج سوروس كثيرًا من الجدل طوال السنوات الماضية، ليس بسبب صراعه مع النظام في المجر، والاتهامات المتبادلة بينهما، ولكن لأنه من الأغنياء القلة في العالم، الذين يتبنون وينظّرون لموقف فكري صارم من العالم والرأسمالية والحريات، ويدفعون نسبة غير قليلة من ثرواتهم في السعي إلى تحقيق ما يتوقون، نظريًا، إليه. ويتخلل تطلع جورج سوروس لتحقيق فكرة المجتمع المفتوح، التي أسس لها معلمه الشهير في كلية لندن للاقتصاد، الفيلسوف النمساوي الإنجليزي كارل بوبر، مجموعة من التناقضات التي يبدو أنها لا تعتمد فقط على حياة جورج سوروس الشخصية وثرائه فقط، ولكن على أفكاره نفسها أيضًا.

خلافًا لمعظم طبقة أصحاب المليارات، لا يعتبر جورج سوروس بلوتوقراطيًا منعزلًا عن العالم، ولكنه مفكر مثير للجدل وملتزمٌ بالمثل التقدمية؛ وهو ما يجعل إخفاقاته واضحة للجميع

يعتمد تصور جورج سوروس حول المجتمع المفتوح، على نظرة وردية بشكل متطرف للمجتمع الرأسمالي، إذ إنه من الأوتوبيا المفرطة، الحديث عن سوق حر يحطم كل الحدود، ويسمح ببناء عالم واسع للجميع، بدون النظر إلى المشاكل البنيوية التي قد تحيل هذا العالم، إلى سيطرة مجموعة صغيرة من رؤوس الأموال العابرة للقوميات. والأهم، فقد أثبتت الأحداث الأخيرة في العالم، وأبرزها عودة النزعات الشعبوية وصعود اليمين البديل إلى السلطة في أوروبا وأمريكا، أن ثمة تناقضات لا بد من إعطائها شيئًا من الاهتمام، سواء بين السوق الحر والديمقراطية، أو بين الديمقراطية والليبرالية نفسها.

اقرأ/ي أيضًا: مستقبل الديمقراطية والرأسمالية.. بربرية التضليل

قد لا يكون إنجاز المجتمع المفتوح فكرة مثالية بحد ذاته، لكن الدعوة له مع تجاهل الامتيازات التي يقوم عليها السوق الحر، ومنها ذلك الامتياز الذي جعل الملياردير المجري يجني كل هذه الثروة، قد تكون مثالية بشكل حاسم. وقد دأب "المفكر الخيِّر" في طريقه الطويل والشاق للتنظير لهذا المجتمع المفترض، على انتقاد طرائق متعلقة بمارسة السوق الحر، مثل "أصولية السوق" وهو واحد من مفاهيمه الرئيسية، لكنه يبتعد غالبًا عن نقد السوق الحر نفسه، باعتباره حائلًا أمام تحقيق المجتمع "العادل" المنشود.

وتوضح هذه المقالة المترجمة من صحيفة "الغارديان" البريطانية، هذه النزعة عند جورج سوروس، التي بقيت ثابتة رغم كل الصدمات الديناميكية التي تعرض لها، ورغم خيبة أمله بكثير من التجمعات والأنظمة، التي عول عليها لتحقيق نموذجه المنشود، دون أن يميل إلى التفكير أن ثمة مشكلة منهجية بين ربط هذا النموذج بالسوق الحر.


في أواخر شهر أيار/مايو وفي نفس اليوم الذي طردت فيه شبكة "أيه بي سي" الأمريكية الممثلة روزان بار بسبب تغريدة عنصرية شبهت فيها مساعدة للرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما، "فاليري جاريت" التي  تنحدر من أصول أفريقية، بـ"القرد". زعمت بار في إحدى التغريدات أن تشيلسي كلينتون، ابنة الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون، تزوجت من ابن شقيق المستثمر الشهير جورج سوروس. كتبت بار "تشيلسي سوروس كلينتون"، وهي تعلم أن دمج هذه الأسماء كفيل بإثارة البلبلة. أعقب ذلك موجة من التعليقات، جاء من ضمنها تعليق ابنة كلينتون حيث أشادت بالعمل الخيري لجورج سوروس من خلال مؤسسات المجتمع المفتوح التابعة له. ردت بار بأسوأ العبارات الممكنة، من خلال تكرار ادعاءات كاذبة سبق أن أشاعها رموز وسائل الإعلام اليمينية، حيث كتبت "أعتذر عن نشر معلومات غير صحيحة عنك! سامحيني! بالمناسبة، جورج سوروس نازي تخلى عن اليهود في معسكرات الاعتقال الألمانية وسرق ثرواتهم. هل كنتِ على علمٍ بذلك؟ لكن، كلنا نرتكب الأخطاء، أليس كذلك تشيلسي؟".

اقرأ/ي أيضًا: الديمقراطية..على حافة الهاوية

 سارع أنصار اليمين المحافظ بتداول تغريدة بار، ومنهم ابن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب. لم يكن هذا مفاجئًا. حيث يعاني جورج سوروس من كراهية اليمين المتطرف كما هو الحال مع عائلة كلينتون. وقد أصبح مثل متلازمة لفظية تناسب الجميع. يثير اسم جورج سوروس "حفيظة محبي اللحوم الحمراء"، كما قال أحد أعضاء الكونغرس السابقين عن الحزب الجمهوري لصحيفة واشنطن بوست. ينظرون إليه على أنه "ذاك الشخص الخبيث الذي يقبع في الظل". وقد عانى جورج سوروس، رجل الأعمال الخيِّر، لعقود طويلة من الصورة الكاريكاتورية النمطية عن الأشخاص المعادين للسامية. لكن في السنوات الأخيرة تطورت هذه الصورة الكاريكاتورية إلى شيء يشبه إلى حد كبير دور الشرير في أفلام جيمس بوند. حتى بالنسبة للمحافظين الذين يرفضون اليمين المتطرف، فإن وصف بريتبارت لسوروس "بالملياردير العولمي" الذي كرس حياته لجعل أمريكا أرضًا ليبرالية قاحلة، هو أمر طبيعي لا جدال فيه.   

على الرغم من هذا الهوس بسوروس، فإنه يكاد ينعدم الاهتمام بما يفكر فيه الرجل حقيقة

 وعلى الرغم من هذا الهوس بجورج سوروس، فإنه يكاد ينعدم الاهتمام بما يفكر فيه الرجل حقيقة. ويبدو سوروس مختلفًا عن طبقة أصحاب المليارات، الذين يتحدثون بطريقة تافهة ويتهربون من المشاركة الجدية في الحياة المدنية، فهو شخص مثقف. حيث إن الشخص الذي يظهر لنا من خلال كتبه ومقالاته ليس بلوتوقراطيًا منعزلًا عن العالم، ولكنه مفكر مثير للجدل ومتسق مع ذاته، يسعى لدفع العالم نحو اتجاهٍ كوزموبوليتانى مناهض للعنصرية، وعدم المساواة في الدخل، وجعل الإمبراطورية الأمريكية والعزل الذي تفرضه الرأسمالية المعاصرة أشياء من الماضي. ويعرف جيدًا حدود الأسواق وقوة الولايات المتحدة في السياقات المحلية والدولية. إنه باختصار من أفضل من أنتجتهم الجديروقراطية (الحكم بالاستحقاق).

ولهذا السبب فإن إخفاقات جورج سوروس واضحة للجميع؛ إنها ليست إخفاقات رجل واحد، بل فئة كاملة، وطريقة كاملة لفهم العالم. منذ أيامه الأولى باعتباره مصرفيًا في لندن بعد الحرب، آمن سوروس بضرورة الربط بين الرأسمالية والكوسموبوليتية. بالنسبة له وبالنسبة لمعظم أعضاء جماعته وغالبية قيادة الحزب الديمقراطي، يعتمد المجتمع الحر على الأسواق الحرة (وإن كانت محكومة بنظام). لكن هذه العلاقة المفترضة أثبتت أنها خاطئة. فقد بينت العقود التي انقضت منذ انتهاء الحرب الباردة أنه من دون عدو وجودي وهمي، تميل الرأسمالية إلى تقويض صميم ثقافة الثقة والشفقة والتعاطف التي يعتمد عليها "المجتمع المفتوح" عند جورج سوروس، من خلال تركيز الثروة في أيدي أقلية من الأفراد.

 وبدلاً من الأوتوبيا الرأسمالية العالمية التي تنبأ بها أولئك الذين أعلنوا نهاية التاريخ في تسعينات القرن العشرين، فإن الولايات المتحدة تُدار الآن من قبل وريث أبله يعمل على زيادة ثروات عائلته، بينما يفكك "النظام الدولي الليبرالي" الذي كان من المفترض أن يحكم عالمًا سلميًا مزدهرًا وموحدًا. لقد تمكن جورج سوروس قبل غيره من تعريف الرأسمالية المفرطة، لكن وضعة الاجتماعي والمالي جعله غير قادر على الدعوة إلى الإصلاحات الجذرية والفرعية اللازمة لتحقيق العالم الذي يريده. لقد أثبت النظام الذي سمح لجورج سوروس بجني الثروة التي يمتلكها، أنه النظام الذي لن تجد فيه الكوزموبوليتية مكانًا أبدًا.

نجا سوروس وعائلته من الحرب بأعجوبة، وفروا من المصير الذي عانى منه أكثر من ثلثي يهود المجر

إن المعالم البارزة لسيرة جورج سوروس معروفة جيدًا. وُلد لأبوين يهوديين من الطبقة الوسطى في بودابست عام 1930. كان اسمه جيورجي شوارتز، لكن سوروس - الذي قام والده بتغيير اسم العائلة في عام 1936 لتجنب التمييز ضد السامية - كانت لديه طفولة هادئة حتى الحرب العالمية الثانية، وعندما اجتاح النازيون المجر، أُجبرت العائلة على انتحال هويات مسيحية والعيش بأسماء مزورة.

نجا جورج سوروس وعائلته من الحرب بأعجوبة، وفروا من المصير الذي عانى منه أكثر من ثلثي يهود المجر. ونتيجة للحياة القاسية في المجر الجديدة تحت الحكم الشيوعي، هاجر جورج سوروس إلى المملكة المتحدة في عام 1947، حيث درس في مدرسة لندن للاقتصاد وتعرف على الفيلسوف المولود في النمسا كارل بوبر، الذي أصبح أكثر المقربين له وأشدهم تأثيرًا على فكره.

اقرأ/ي أيضًا: القفز عن الديمقراطية بالاستثنائية الاقتصادية.. كيف يغذي رجال البنوك الشعبوية؟

في عام 1956، انتقل جورج سوروس إلى نيويورك للعمل في مجال الأسواق المالية/المضاربات. وبعد أن أمضى أكثر من عقد من الزمن في عدة وظائف في منطقة وول ستريت، أسس في أواخر الستينات صندوق كوانتوم، الذي أصبح واحدًا من أكثر صناديق التحوط نجاحًا على الإطلاق. ظهر جورج سوروس كمتاجر أسطوري عندما جمع صندوقه أرباحًا مذهلة. كانت الحادثة الأكثر شهرة، في تشرين الثاني/ نوفمبر عام 1992 عندما حصل على أكثر من مليار دولار وتسبب في "إفلاس بنك إنجلترا"، بالمراهنة على أن سعر الجنيه كان مرتفعًا للغاية مقابل المارك الألماني.

واليوم، يعتبر جورج سوروس أحد أغنى رجال العالم، إلى جانب بيل غيتس ومارك زوكربيرغ، وهو أحد أكثر فاعلي الخير المؤثرين سياسيًا في الولايات المتحدة، لكنه على عكس غيتس وزوكربيرغ، يعتقد منذ فترة طويلة أن الفلسفة الأكاديمية هي مصدر الإلهام، كما يؤمن بنظرية "المجتمع المفتوح" وهو مصطلح ظهر على يد كارل بوبر في كتابه الشهير "المجتمع المفتوح وأعداؤه".

ووفقًا لبوبر، فإن المجتمعات المفتوحة تضمن وتحمي التبادل العقلاني، بينما تجبر المجتمعات المغلقة الناس على الخضوع للسلطة، سواء كانت تلك السلطة دينية أو سياسية أو اقتصادية.  

ومنذ عام 1987، ألف جورج سوروس 14 كتابًا ونشر عددًا من المقالات في مجلة "نيويورك ريفيو أوف بوكس" و"نيويورك تايمز" وغيرها من الصحف، ويتضح بشكل جلي من خلال هذه النصوص، أنه على غرار العديد من نظرائه في يسار الوسط، الذين برزوا في حقبة التسعينيات، تشكل الأممية الدولية  المبدأ الفكري الذي يحدد توجهه. وبالنسبة لسوروس، يتمثل هدف الوجود البشري المعاصر في إقامة عالمٍ لا تحدده الدول القومية ذات السيادة، بل يتشكل عالمه من خلال مجتمعٍ عالميٍ، يدرك عناصرُه أن لِجميع مكوناته مصلحة مشتركة في الحرية والمساواة والازدهار. ومن وجهة نظره، فإن إنشاء مثل هذا المجتمع العالمي المفتوح هو السبيل الوحيد لضمان تغلب البشرية على التحديات الوجودية، مثل قضايا تغير المناخ وانتشار الأسلحة النووية.

على العكس من بيل غيتس، الذي يركز عمله الخيري في الغالب على مشاريع تحسينية مثل القضاء على وباء الملاريا، يريد جورج سوروس بحق تحويل السياسات والمجتمع، على المستويين الوطني والدولي، لكن لم يتضح بعدُ، ما إذا  كانت رؤيته تستطيع الصمود في وجه موجة معاداة السامية والإسلاموفوبيا والقومية اليمينية المعادية للأجانب المتفاقمة في الولايات المتحدة وأوروبا. والمؤكد هو أن جورج سوروس سيمضي ما تبقى من حياته في محاولته للتأكد من تحقيق رؤيته.

بدأ جورج سوروس أنشطته الخيرية في عام 1979، عندما "قررتُ بعد  شيء من التفكير أن لدي ما يكفي من المال" على حد قوله، وبالتالي يمكن أن يكرس نفسه للمساهمة في جعل العالم مكانًا أفضل. وتحقيقًا لذلك، أنشأ مؤسسة المجتمع المفتوح Open Society Fund، الذي سرعان ما أصبح عبارة عن شبكة عابرة للحدود من المؤسسات. ورغم ما بذله من جهود في تمويل المنح الدراسية للطلاب السود في جنوب إفريقيا إبان نظام التمييز العنصري/الأبارتهايد، إلا أن اهتمام جورج سوروس الأساسي كان منصبًا على الكتلة الشيوعية في أوروبا الشرقية. وبحلول نهاية الثمانينيات من القرن الماضي، كان قد افتتح مكاتب مؤسسية في المجر وبولندا وتشيكوسلوفاكيا وبلغاريا والاتحاد السوفييتي نفسه.

عانى سوروس من تسلط الاستبداد العنصري الذي لم يهدد الاتحاد الأوروبي فحسب، بل كان يهدد الديمقراطية في أوروبا

ومثله مثل بوبر من قبله، اعتبر جورج سوروس أن بلدان أوروبا الشرقية الشيوعية هي النماذج النهائية للمجتمعات المغلقة، ومن ثم إذا تمكن من فتح هذه الأنظمة، يمكنه أن يثبت للعالم أن المال، في بعض الحالات على الأقل، يمكنه أن يتغلب بشكل سلمي على الاستبداد دون الحاجة إلى التدخل العسكري أو التخريب السياسي، التي كانت بمثابة الأدوات المفضلة لزعماء الحرب الباردة.

أسس جورج سوروس أول مؤسسة أجنبية تابعة له في المجر عام 1984، وشكلت جهوده هناك نموذجًا لأنشطته خلال تلك الفترة. وعلى مدار عقدٍ من الزمان ، قدم منحًا دراسية للمثقفين المجريين وأحضرهم إلى الولايات المتحدة؛ وأمد المكتبات والجامعات بأجهزة زيروكس؛ وقدم مساعدات للمسارح والمكتبات والمثقفين والفنانين والمدارس التجريبية. وفي كتابه "فتح النظام السوفيتي" (Opening the Soviet System) في عام 1990، قال إنه يعتقد أن مؤسسته ساعدت في "هدم احتكار العقيدة (في المجر) من خلال توفير مصدر تمويلٍ بديلٍ، للأنشطة الثقافية والاجتماعية"، الذي لعب حسب تقديره، دورًا حاسمًا في إحداث الانهيار الداخلي للشيوعية.

يشير استخدام جورج سوروس لمفردة "عقيدة" إلى عنصرين حاسمين في فكره: أولًا، اعتقاده الشرس بأن الأفكار هي التي تشكل الحياة أكثر مما يفعله الاقتصاد، وثانيًا، ثقته في قدرة البشرية على التقدم. ووفقًا له، فإن نمط التفكير العقائدي الذي ميز المجتمعات المغلقة جعل من المستحيل عليها التكيف مع تقلبات التاريخ المتغيرة، وبدلاً من ذلك، "حين تتغير الظروف الفعلية"، كان الناس في المجتمعات المغلقة يُضطرون إلى الامتثال لأيديولوجية بالية غير مقنعة بشكلٍ متزايدٍ. وعندما أصبحت هذه العقيدة في نهاية المطاف، تبدو منعزلة عن الواقع بشكل واضح، يقول جورج سوروس، وقعت عادة الثورة التي قلبت المجتمع المغلق، وعلى النقيض من ذلك، كانت المجتمعات المفتوحة تنبض بالديناميكية والقدرة على تصحيح مسارها كلما ابتعدت عقائدها عن الواقع.

مثله مثل بوبر من قبله، اعتبر سوروس أن بلدان أوروبا الشرقية الشيوعية هي النماذج النهائية للمجتمعات المغلقة

وبينما شهد انهيار الإمبراطورية السوفييتية بين عامي 1989 و1991، كان على جورج سوروس أن يجيب على سؤالٍ استراتيجيٍ حاسمٍ: الآن وقد وانفتحت المجتمعات المغلقة في أوروبا الشرقية، ماذا بقي أمام مؤسسته أن تفعله؟ عشية تفكيك الاتحاد السوفيتي، نشر سوروس نسخة محدّثة من كتابه فتح النظام السوفييتي، بعنوان "ديمقراطية الاكتتاب"، كشف فيه عن استراتيجيته الجديدة: سوف يكرس جهوده  لبناء مؤسسات دائمة من شأنها دعم وتعزيز الأفكار التي حفزت الثورات المضادة للشيوعية، والقيام في الوقت نفسه بِنمْذجة ممارسات المجتمع المفتوح للشعوب المحررة في أوروبا الشرقية، وكانت من أهم هذه النماذج الجامعة الأوروبية المركزية (CEU)، التي افتتحت في بودابست في عام 1991. مُولت جامعة (CEU) من قبل جورج سوروس، وكان الهدف منها أن تُستخدم كمنبعٍ لعالمٍ أوروبيٍ جديدٍ عابر للحدود، وميدان تدريب لنخبة أوروبية جديدة عابرة للحدود.

اقرأ/ي أيضًا: "أوروبا الجديدة" التي تكره اللاجئين

كيف كان يمكن لجورج سوروس التأكد من بقاء المجتمعات المفتوحة حديثًا حرة؟ كان الملياردير المجري قد بلغ سن الرشد في عصر خطة مارشال، وشهد بشكلٍ مباشرٍ سخاءً أمريكيًا  في لندن ما بعد الحرب. وبالنسبة له، أظهرت هذه التجربة أنه لا يمكن إعادة تأهيل المجتمعات الضعيفة والمنهكة من دون استثمارٍ كبيرٍ في المساعدات الخارجية، والتي من شأنها أن تخفف من الظروف القاسية وتوفر القاعدة المادية الدنيا التي تمكن الأفكار الصحيحة حول الديمقراطية والرأسمالية من الازدهار.

لهذا السبب، أكد جورج سوروس مرارًا وتكرارًا، في أواخر الثمانينيات وبداية التسعينيات، بأن "فقط مساعدة الغرب الخارقة" يمكنها أن تحوّل الكتلة الشرقية إلى النهج الديمقراطي بشكلٍ دائمٍ، مضيفًا بأن "الذين عاشوا في نظام استبدادي طوال حياتهم، في حاجة إلى مساعدة خارجية لتحويل طموحاتهم إلى حقيقة". وأصرّ سوروس على ضرورة تقديم الولايات المتحدة وغرب أوروبا  إلى بلدان أوروبا الشرقية كميات كبيرة من المساعدات المالية، وتمكينهم من ولوج السوق الأوروبية المشتركة، وتعزيز الروابط الثقافية والتعليمية بين الغرب والشرق "التي تناسب المجتمع التعدُدي". وبمجرد إنجاز ذلك، أعلن سوروس، أنه على أوروبا الغربية أن ترحب بأوروبا الشرقية في المجتمع الأوروبي، مما سيجنب إعادة تقسيم القارة في المستقبل.

غير أنه لم يُلتفت إلى نداءات جورج سوروس الاستشرافية، وابتداءً من التسعينات، عزا جورج سوروس بروز أنظمة الحكم التي تسيطر عليها مجموعات اللصوص ويهيمن عليها شعور القومية المفرطة في دول الكتلة الشرقية السابقة، إلى افتقار الغرب إلى الرؤية والإرادة السياسية اللازمتين في تلك اللحظة الفارقة. وعبّر عن أسفه في عام 1995 بشأن "الديمقراطيات" التي قال إنها تبدوا أنها "تعاني من انهيار القيم... (وإنها) غير راغبة بشكلٍ ملحوظٍ في تحمل أي قدرٍ من العناء، طالما لا تتعرض مصالحها الحيوية للخطر بشكلٍ مباشرٍ". بالنسبة لسوروس، فشل الغرب في مهمة حاسمة، وبهذا السلوك أبان الغرب عن قصر نظره وعجزه.

لكن الأمر الذي أعاق مسار الغرب في تلك اللحظة الحاسمة يتجاوز في الواقع مجرد الافتقار إلى الإرادة السياسية. وفي عصر "العلاج بالصدمة"، شهد العالم تدفق رأس المال الغربي نحو أوروبا الشرقية، لكن، فقد تم استثمار تلك الأموال في الغالب في الصناعة الخاصة، وليس لصالح المؤسسات الديمقراطية أو في تعميق بناء المجتمع المحلي، مما ساعد اللصوص والمناهضين للديمقراطية على الاستيلاء على السلطة والاحتفاظ بها.  لقد حدد جورج سوروس مشكلة رئيسية، لكنه لم يتمكن من تفسير كيف أن منطق الرأسمالية ذاته، الذي يؤكد على الربح في المقام الأول، سيقوض حتمًا مشروعه الديمقراطي. واستمر متشبثًا للغاية بالنظام الذي اعتنقه.

في أعقاب الحرب الباردة، كرس جورج سوروس جهوده لاستكشاف المشاكل الدولية التي حالت دون تحقيق مجتمع عالمي مفتوح. وبعد الأزمة المالية الآسيوية عام 1997، والتي أدت إلى انهيار العملة في جنوب شرق آسيا وتسببت في انكماش اقتصادي عالمي، ألف سوروس كتبًا تناول فيها التهديدين الرئيسيين اللذان يعتقد أنهما يحاصران المجتمع المفتوح: فرط العولمة والأصولية السوقية، اللتان أصبحتا مهيمنتين بعد انهيار الشيوعية.

يعتقد جورج سوروس بأن تاريخ عالم ما بعد الحرب الباردة، بالإضافة إلى تجاربه الشخصية بصفته أحد أكثر المتعاملين نجاحًا في مجال التمويل الدولي، أظهر أن الرأسمالية العالمية غير المنظمة تقوّض المجتمع المفتوح بثلاث طرق مختلفة. أولاً، نظرًا لإمكانية تنقل رأس المال إلى أي مكانٍ في العالم لتجنب الضرائب، فقد حُرمت الدول الغربية من التمويل الذي تحتاجه لتزويد المواطنين بالمنافع العامة، وثانياً، بسبب عدم إخضاع المقرضين الدوليين إلى ما يكفي من آليات التنظيم، انساقوا في الغالب إلى "ممارسات إقراض غير سليمة" تهدد الاستقرار المالي. وأخيرًا، لأن هذه الوقائع عمقت حالة عدم المساواة المحلية والدولية، خشي سوروس من أن يشجع مثل هذا الوضع الناس على ارتكاب "أعمال يائسة" غير محددة يمكن أن تضر بقدرة النظام العالمي على البقاء.

تفطن جورج سوروس، في وقت جد مبكرٍ، أكثر من معظم زملائه من يسار الوسط، للمشاكل الكامنة في قلب "الاقتصاد الجديد" غير المنظم الذي تهيمن عليه العمليات المالية، في تسعينيات القرن الماضي وبداية الألفية الثالثة. وأكثر من جميع نظرائه الليبراليين، أدرك سوروس أن تبني الأشكال الأكثر تطرفًا لإيديولوجيتها الرأسمالية قد تدفع الولايات المتحدة إلى تعزيز السياسات والممارسات التي ستقوض ديمقراطيتها وتهدد الاستقرار في الداخل والخارج على حد سواء.

في أعقاب الحرب الباردة، كرس سوروس جهوده لاستكشاف المشاكل الدولية التي حالت دون تحقيق مجتمع عالمي مفتوح

من وجهة نظر جورج سوروس، فإن السبيل الأوحد لإنقاذ الرأسمالية من نفسها هو إنشاء "نظام عالمي لصنع القرار السياسي" ينظم التمويل الدولي بشكل كبير. لكنه اعترف في وقتٍ مبكرٍ من عام 1998، بأن الولايات المتحدة هي الخصم الرئيسي للمؤسسات العالمية. في ذلك الوقت، رفضت أمريكا الانضمام إلى محكمة العدل الدولية، ورفضت التوقيع على معاهدة أوتاوا لحظر الألغام الأرضية؛ وفرضت  إجراءات اقتصادية من جانبٍ واحدٍ، متى وأينما اعتبرت ذلك مناسبًا لها. ومع ذلك، كان سوروس يأمل أن يقبل صانعو السياسة الأمريكيون بطريقةٍ ما، تحقيقًا لمصالحهم الخاصة، الفكرة بأنهم في حاجة إلى قيادة ائتلاف يتشكل من الديمقراطيات التي تكرس نفسها لـ "تعزيز تنمية المجتمعات المفتوحة (و) تعزيز القانون الدولي والمؤسسات اللازمة من أجل تحقيق مجتمع عالمي مفتوح". لكنه لم يكن يملك برنامجًا يحل معضلة كيفية تحويل العداء المتزايد الذي تكنه النخبة الأمريكية للأشكال الأممية التي لا تخدم قوتها العسكرية، أو توفر لها منافع اقتصادية واضحة ومباشرة. وكان ذلك يشكل ثغرة كبيرة في فكر سوروس، لاسيما بالنظر إلى إصراره على أولوية الأفكار في إحداث التغيير التاريخي، لكنه بدلاً من التفكير في هذه المشكلة، أعلن ببساطة أن "التغيير يجب أن يبدأ بتغيير المواقف والسلوكيات، التي ستترجم تدريجيًا إلى تغيير في السياسات". إن وضع سوروس كعضو في قمة النخبة، واعتقاده بأن التاريخ، على الرغم من كل هفواته، كان يسير في الاتجاه الصحيح، جعله غير قادرٍ على النظر بشكلٍ شامل في العقبات الأيديولوجية التي تقف في طريق أمَمِيته.

اقرأ/ي أيضًا: تاريخ تدخّل الـ "CIA" في انتخابات الآخرين.. تكتيك واشنطن ضد خيارات الشعوب

أجبرت شراسة ردّ إدارة جورج دبليو بوش العسكري على هجمات 11 أيلول/ سبتمبر، جورج سوروس على تحويل اهتمامه من الاقتصاد إلى السياسة. كل ما يتعلق بأيديولوجية إدارة بوش كان بمثابة لعنة بالنسبة لسوروس.

ومثلما أعلن جورج سوروس في كتابه "فقاعة التفوق الأمريكي" عام 2004، تبنى بوش وفريقه "شكلاً فظًا من أشكال الداروينية الاجتماعية" تفترض أن "الحياة عبارة عن صراعٍ من أجل البقاء، ويجب أن نعتمد بشكلٍ أساسيٍ على استخدام القوة للبقاء". وإذا تم قبل 11 أيلول/ سبتمبر، "حصر (هذه)  التجاوزات الأيديولوجية الخاطئة في حدود معينة، من خلال الأداء الطبيعي لديمقراطيتنا"، تعمد بوش بعد 11 أيلول/ سبتمبر "زرع مشاعر الخوف التي انتشرت في أرجاء البلاد واستحوذت عليها"، وذلك بهدف إسكات المعارضة وكسب التأييد لسياسة غير مجدية ممثلة للأحادية العسكرية. وبالنسبة لسوروس، فإن المزاعم من قبيل "إما أنك معنا، أو مع الإرهابيين" تكرر بشكل مخيف صدى الخطاب النازي والسوفييتي، الذي كان يأمل ألا يسمعه من جديد وظن أنه تركه خلفه في أوروبا.

كان جورج سوروس يشعر بقلق، وعن دراية وحكمة، أن بوش سيقود الأمة إلى "حالة حرب دائمة" تتميز بالتدخل الخارجي والقمع الداخلي، وبذلك لم يكن الرئيس تهديدًا للسلام العالمي فحسب، بل شكل أيضًا خطرًا على فكرة المجتمع المفتوح. ومع ذلك، كان سوروس واثقًا من أن "الإيديولوجية المتطرفة" التي يتبناها بوش لا تتطابق مع "معتقدات وقيم غالبية الأمريكيين"، وتوقع أن يفوز جون كيري في الانتخابات الرئاسية عام 2004، وأن يؤدي انتصار كيري إلى "إعادة النظر بشكلٍ عميقٍ في دور أمريكا في العالم"، الأمر الذي من شأنه أن يدفع المواطنين إلى رفض الأحادية وتبني التعاون الدولي.

لكن كيري لم يفز، الأمر الذي أجبر الثري محب الخير للبشرية، على التشكيك لأول مرة في الفطنة السياسية لدى الأمريكيين العاديين. بعد انتخابات 2004 مر سوروس بأزمة ثقة.

في كتابه "عصر الفشل" (The Age of Fallibility) لعام 2006، عزا سبب إعادة انتخاب بوش إلى أن الولايات المتحدة أضحت "مجتمعًا (يبحث عن الشعور بالراحة) وغير مستعد لمواجهة الواقع المزعج". ووفقاً لسوروس، كان الأمريكيون يفضلون "أن تضللهم إدارة بوش بشكل كامل، بدلًا من مواجهة إخفاقات أفغانستان والعراق والحرب على الإرهاب. ويرى أن إيمان الأمريكيين بمعصومية السوق وهاجس النجاح جعلهم مستعدين لقبول إدعاءات السياسيين بأن الدولة يمكنها أن تفوز في صراع عبثي، مثل الحرب على الإرهاب. وأقنع فوز بوش سوروس بأن الولايات المتحدة يمكنها أن تصبح مجتمعًا منفتحًا عندما يعترفون "أن الحقيقة مهمةٌ ولا مفر منها"، وإلا سوف يستمرون في دعم الحرب على الإرهاب وما يصاحبها من أهوال. لكن كيف يمكن لسوروس أن يغير العقول الأمريكية، يظل هذا الأمر غير واضحٍ.

شجعت الأزمة المالية في 2007-2008 جورج سوروس على إعادة التركيز على الاقتصاد. لم يفاجئه الانهيار الذي حدث، واعتبر ذلك نتيجة متوقعة بسبب أصولية السوق. ودفعته هذه الأزمة للاقتناع بأن العالم على وشك أن يشهد، حسبما قال في كتابه "النموذج الجديد للأسواق المالية" في 2008، نهاية فترة طويلة من الاستقرار النسبي المستند على الولايات المتحدة باعتبارها القوة المهيمنة والدولار بصفته عملة الاحتياطيات الدولية الرئيسية".

وفي ظل توقع جورج سوروس لحدوث تراجع أمريكي، بدأ يضع آماله على الاتحاد الأوروبي في تحقيق مجتمع عالمي مفتوح، على الرغم من استنكاره القديم لأعضاء الاتحاد بسبب عدم ضم أوروبا الشرقية في تسعينيات القرن الماضي. ورغم اعترافه بما يعانيه الاتحاد الأوروبي من مشاكل خطيرة، إلا أن الاتحاد يشكل منظومة "توافق الدول الأعضاء فيها طواعية على تفويض السلطوية" من أجل المصلحة الأوروبية المشتركة، وبالتالي، يقدم الاتحاد نموذجًا إقليميًا لنظام عالمي قائم على مبادئ المجتمع المفتوح.

إلا أن آمال جورج سوروس في الاتحاد الأوروبي سرعان ما تلاشت بسبب ثلاث أزمات أدت إلى تقويض استقرار الاتحاد: الركود الدولي المطرد، وأزمة اللاجئين، وانتهاك فلاديمير بوتين الصارخ للأعراف والقانون الدولي. وبينما كان سوروس يعتقد أن الدول الغربية يمكنها أن تخفف نظريًا من حدة هذه الأزمات، خلُص إلى أنه مع تكرار هذه الدول أنماط الفشل في فترة ما بعد الاتحاد السوفيتي، فمن غير المرجح أن تقف صفًا واحدًا لتحقيق ذلك الهدف. في السنوات العشر الماضية، أصيب سوروس بخيبة أمل نتيجة أحداث متتالية مثل رفض الغرب إسقاط ديون اليونان، وإخفاقه في تطوير سياسة مشتركة للاجئين، وعدم النظر في زيادة العقوبات على روسيا، وتوفير الدعم المادي والمالي الذي تحتاج إليه أوكرانيا للدفاع عن نفسها بعد ضم بوتين لشبه جزيرة القرم عام 2014. وانزعج سوروس كثيرًا بعد عودة موجة النزعات القومية العرقية اليمينية التي كان يعتقد أنها أصبحت من الماضي السحيق في العديد من دول الاتحاد الأوروبي، بداية من المملكة المتحدة وصولًا إلى بولندا. وبعد تصويت بريطانيا لصالح  الخروج من الاتحاد الأوروبي في 2016، أصبح سوروس مقتنعًا بأن "تفكك الاتحاد الأوروبي (صار واقعًا) لا رجعة فيه". ولم يقدم الاتحاد الأوروبي النموذج الذي تمناه سوروس.

لقد عانى جورج سوروس بشكلٍ مباشر من تسلط الاستبداد العنصري الذي لم يهدد الاتحاد الأوروبي في العقد الأخير فحسب، بل كان يهدد الديمقراطية في أوروبا بشكلٍ عام. ومنذ 2010، تكررت معارك  سوروس "المحب للخير" مع فيكتور أوربان، رئيس الوزراء المجري الاستبدادي المعادي للمهاجرين. وفي الآونة الأخيرة، اتهم سوروس أوربان "بمحاولة إعادة تأسيس ذلك النوع من الديمقراطية الزائفة التي سادت (في المجر) في الفترة بين الحربين العالميتين الأولى والثانية".

اقرأ/ي أيضًا: الشعبوية في أوروبا.. تيار يجرف حتى الأحزاب "المعتدلة"

ففي حملته الناجحة لإعادة انتخابه في وقتٍ سابقٍ من هذا العام، استخدم أوربان معظم وقته في الحملة الانتخابية، في شيطنة سوروس، واللعب على وتر معاداة السامية، مدعيًا بأن جورج سوروس كان يتآمر سرًا لإرسال ملايين المهاجرين إلى المجر. وهدد أوربان أيضًا بإغلاق الجامعة الأوروبية المركزية، التي تصفها حكومته بسخرية بأنها "جامعة سوروس". وفي الشهر الماضي أقر البرلمان تشريعًا جديدًا لمكافحة الهجرة يُعرف بقوانين "إيقاف سوروس".

وإذا كان أوربان يهدد فرصة بناء مجتمع مجري منفتح، فإن دونالد ترامب يهدد انفتاح المجتمع العالمي برمته. وقد عزا جورج سوروس انتصار ترامب إلى الآثار الضارة لأصولية السوق، وحالة الركود الكبير الذي يعاني منه المجتمع الأمريكي. وفي مقال رأي نشُر في كانون الأول/ ديسمبر 2016، صرح سوروس بأن الأمريكيين صوتوا لصالح ترامب "المحتال والديكتاتور القادم" لأن "القادة المنتخبين أخفقوا في تلبية توقعات وتطلعات الناخبين المشروعة (و) هذا الفشل جعل الناخبين يشعرون بخيبة أمل من الأشكال السائدة من الديمقراطية والرأسمالية".

لن يتحقق المجتمع المفتوح إلا في عالمٍ لا يسمح لسوروس أن يصبح غنيًا للدرجة التي وصل إليها حاليًا

يقول جورج سوروس إنه بدلاً من التوزيع العادل للثروة الناتجة عن العولمة، أخفق الرأسماليون "المستفيدون" في "تعويض الخاسرين"، مما أدى إلى تعميق حالة عدم المساواة على المستوى المحلي، وإنتاج موجة من الغضب. ورغم أن سوروس كان يعتقد أن "الدستور والمؤسسات الأمريكية قوية بما يكفي لمقاومة تجاوزات السلطة التنفيذية"، إلا أنه أعرب عن قلقه من إمكانية تشكيل ترامب تحالفات مع بوتين وأوربان وغيره من القادة المستبدين، الأمر الذي سيجعل من شبه المستحيل تأسيس مجتمع عالمي مفتوح. وقد بات واضحًا أن دول مثل المجر والولايات المتحدة والعديد من أجزاء العالم، التي جذبت اهتمام واستثمارات سوروس، قد ساهمت في تعطيل مشروعه.

لا زال مسار جورج سوروس في المستقبل غير واضحِ. فمن ناحية، تشير بعض أعماله الأخيرة إلى أنه تحوّل إلى اتجاهٍ يساريٍ، خاصة في مجالات إصلاح العدالة الجنائية ومساعدة اللاجئين، وأنشأ مؤخرًا صندوقًا  للمساعدة في حملة لاري كراسنر، المدعي العام الثوري في مقاطعة فيلادلفيا، ودعم ثلاثة من المرشحين لمنصب المدعي العام في ولاية كاليفورنيا، الداعمين على نحوٍ مماثلٍ لعملية إصلاح المؤسسات الجنائية والادعاء العام، واستثمر أيضًا 500 مليون دولار للتخفيف من أزمة اللاجئين العالمية.

من ناحية أخرى، تشير بعض سلوكيات جورج سوروس أنه لا يزال مؤمنًا بالحزب الديمقراطي التقليدي ضعيف الإمكانيات والاستعداد للتعامل مع التحديات التي تتسم بها الأزمة الحالية. كان سوروس مؤيدًا صريحًا للمرشحة هيلاري كلينتون خلال مرحلة الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي في عام 2016. ومؤخرًا، انتقد بشدة المرشح الديمقراطي المحتمل للرئاسة كيرستن جيليبراند، لمطالبته آل فرانكن بالاستقالة بسبب تحرشه الجنسي بمذيعة الراديو لينين تويدن. وإذا استمر سوروس في تمويل المشاريع التقدمية، فسوف يساهم بشكل كبير في بناء المجتمع المفتوح، لكنه إذا قرر الدفاع عن الديمقراطيين المبتذلين، فسوف يساهم في استمرار تدهور الحياة العامة الأمريكية.

طوال مسيرته المهنية، قدم جورج سوروس حلولًا حكيمة ومثيرة، لكن يمكننا القول من منظور ديمقراطي، إن هذه الشخصية الثرية لها قدرة كارثية على رسم طبيعة العلاقات العامة. وقد أدرك سوروس أن "العلاقة بين الرأسمالية والديمقراطية هشة حتى في أحسن الأحوال. مشكلة الأثرياء من أصحاب المليارات مثله، تكمن فيما سيفعلونَه بهذه المعلومة. إن نظرية المجتمع المفتوح تضع تصورًا لعالم يعترف فيه الجميع بإنسانية بعضهم البعض ويتفاعلون داخله في ظل حالة من المساواة، لكن إذا كان معظم الناس يتهافتون لاقتناص القطع الأخيرة من الكعكة الآخذة في التناقص، فمن الصعب أن نتخيل كيف يمكننا بناء العالم الذي يرغب أن يعيش فيه سوروس.

في الوقت الحاضر، تظل أحلام جورج سوروس العالمية كما هي. والسؤال هو لماذا، أما الجواب فقد يكون أن المجتمع المفتوح لن يتحقق إلا في عالمٍ لا يسمح لأحد - سواء كان جورج سوروس أو غيتس أو ديفوس أو زوكربيرج أو بافيت أو مسك أو بيزوس- أن يصبح غنيًا للدرجة التي وصل إليها حاليًا.

 

اقرأ/ي أيضًا:

كيف أصبح فيكتور أوربان أكبر التهديدات للاتحاد الأوروبي؟

ماردٌ يسرق شبح ماركس: تدمير العالم من أجل إنقاذه