12-أغسطس-2016

ينظر الجزائريون غلى المجنون نظرة تجمع بين الشفقة والتهيّب(دي أغوستيني/Getty)

يُطلق الجزائريون تسمياتٍ مختلفة على المجنون أشهرها "المهبول"، وينظرون إليه نظرة تجمع بين الشفقة والتهيّب، فهو في نظر الكثيرين مسكون بالجن ويملك القدرة على إلحاق الأذى بمن يؤذيه بكلماتٍ في غير محلّها، كما نجد من يتبرك بكلماته ويتخذ منها "فالًا" يقرّر معه هل يمضي في أمر كان عازمًا عليه أم لا. ورغم حساسية الجزائريين من الكلمات البذيئة في الأماكن العامة، إلا أن ما يصدر منها على أفواه المجانين يُقابل بالضحك والتسامح.

يقدر عدد المجانين في الجزائر حسب مصادر حكومية بمليون ونصف المليون، وقد لعبت الظروف الأمنية في تسعينيات القرن العشرين دورًا في تكاثرهم

هذه النظرة الشعبية للمجانين، الذين تقدّر مصادرُ حكومية عددهم بمليون ونصف المليون، وقد لعبت الظروف الأمنية العنيفة في تسعينيات القرن العشرين دورًا في تكاثرهم، جعلت وجودهم في الفضاء العام أمرًا مألوفًا، فهم شركاءُ في القطار والحديقة والسوق والشارع والساحات العمومية، ولهم من صدقات المحسنين نصيب، وقلّة منهم ترغم على النزول في مؤسسات للأمراض العقلية، بالنظر إلى مزاجها السيئ وخطورتها على سلامة الناس.

اقرأ/ي أيضًا:  عالم مجنون جدًا

وتتوفر مملكة المجانين في الجزائر، على نجوم استطاعوا أن يلفتوا الانتباه إليهم ويفرضوا وجودهم، بمواهبهم في التعامل والنكتة والرقص والكلام، ويصبحوا بذلك "ملح" الشارع، بما يجعلهم أقلَّ المجانين تعبًا في الحصول على الهبات والصدقات والهدايا.

الرئيس المخلّص

العيّاشي واحد من هؤلاء، شيخ في حدود السبعين، ملتحٍ يلبس لباسًا تقليديًا جزائريًا، لا يمكن أن تستعمل قطار الجزائر العاصمة أو حافلاتها، من غير أن تلتقيه مرة في الأسبوع على الأقل. يصعد إلى عربة القطار أو الحافلة ملتزمًا الصمت في البداية، ثم ينطلق في خطبته السياسية بانطلاقها، يقول إنه ترشّح لكل الانتخابات الرئاسية منذ عام 1995، لكن رجال الأمن عرقلوا عملية جمع التوقيعات التي تؤهله لذلك، والسبب أنهم متأكدون من كونه سيحصد معظم الأصوات، لأنه يملك برنامجًا حقيقيًا قادرًا على إخراج البلاد من أزماتها.

تبدأ موجة الضحك، منذ شروع "الرئيس العياشي" في عرض برنامجه، "سأزوّج كل شاب وفتاة يحبّان بعضهما من غير اشتراط حضور أبويهما، وسأعطي مالًا لكل من يرغب في الشراب والترويح عن نفسه، على الدولة الحقيقية أن تصرف على راحة مواطنيها، كما سأجعل الرقص والغناء في الشارع حقًا من حقوق الإنسان، هل تدرون لماذا يمنعون الناس من الرقص والغناء؟ إنهم يريدون أن يجنّنوهم حتى يسهل عليهم التحكم فيهم".

اقرأ/ي أيضًا: تجمعُنا فُكاهةٌ سوداء

المحقق الخارق

ولئن كان خطاب العياشي في القطارات والحافلات ساخرًا وهزليًا، فإن خطابات مجانين آخرين تضرب في الصميم. عادة ما يكثر ظهور هؤلاء في المفاصل السياسية الحرجة في البلاد، بما يوحي أنهم ليسوا مجانين فعلًا، وإنما لبسوا قناع الجنون حتى يقيسوا المزاج السياسي العام، من خلال رصد ردود أفعال الناس.

في الثلاثينات من العمر، يقدّم سليم نفسه على أنه شاب موهوب في تعقّب ملفات الفساد والمفسدين، وقد تمّ طرده من وظيفته حتى لا يفضح "الأوزان الثقيلة في النظام"، يذكرهم بالأسماء، ويدعو الشعب إلى الثورة عليهم لاسترجاع حقوقه المهضومة. "هل لاحظتم أنهم يكرّرون عبارة "عجلة التنمية" في أحاديثهم، مقرونة بعبارة "المخطط الرباعي"؟ هذا يعني أن عجلة التنمية في الجزائر مربّعة وليست دائرية، وهو السبب الذي جعلها لا تتقدّم".

تتوفر مملكة المجانين في الجزائر، على نجوم استطاعوا أن يلفتوا الانتباه إليهم ويفرضوا وجودهم، بمواهبهم في التعامل والنكتة والرقص والكلام

الراقص الموهوب

مبروك هو أحبّ المجانين إلى المسرحيين الجزائريين، فقد تعوّدوا على حضوره المتميز في ساحة المسرح الوطني في قلب الجزائر العاصمة خلال فعاليات "المهرجان الوطني للمسرح المحترف". بقدميه المتشققتين وسرواله الموغل في الاتساخ وصدره العاري ولحيته ورأسه المغبرّين، يقتحم ساحة المهرجان وينخرط في رقص متوحش قد يدوم ساعتين من غير انقطاع.

لا يكلّم أحدًا أو يؤذيه، لكنه لا يُمانع من التقاط صور معه، وهو يُطلق ابتساماتٍ مدروسة، على غرار ما يفعله نجوم الفن والرياضة والسياسة. يقول المخرج ربيع قشي لـ"الترا صوت" إنه لا يُفوّت رقصات الرجل، لأنه يجد فيها طاقة خارقة، لا تتوفر لدى الممثلين المحترفين أنفسهم. "لطالما ألهمني رقصه وحضوره الاستثنائيان، وأنا بصدد التفكير في عمل مسرحي يجمع نخبة من المهابيل، قد ينجح الأمر.. من يدري؟". يضيف قشي، الذي يُعدّ سبّاقًا إلى إدخال مسرح الشارع إلى الجزائر: "الجنون حقل ثري بالرسائل الإنسانية والوجودية والسياسية، وعلى الفنون، في مقدمتها المسرح والسينما والرواية والقصة، ألا تتأخر عن الاستثمار فيها جماليًا".

دمية الشك

في "محطة تافورة" ثاني أشهر محطة للنقل البري في الجزائر العاصمة بعد "محطة خروبة"، يمكنك أن تلتقي امرأة شبيهة بالشحرورة صباح، سنًّا وشَعرًا وطولًا وماكياجًا صارخًا، يسمّونها "البوبية" أي الدمية. تقصد المحطة يوميًا وقد تبقى فيها طيلة اليوم، لأن كثيرين من سائقي الحافلات يمنعونها من الركوب. يقول السائق شمسو: "ليس بسبب أنها لا تدفع ثمن ركوبها، بل لأنها تستمتع باختلاق شجارات مع رجل ما، تتخيل فيه زوجها الذي طلّقها، بما يشوّش على الركاب ويخلق حالة من الارتباك، فهي لا تتورّع عن إطلاق كلمات بذيئة مفرقة للجماعة".

تقدّمت من "البوبية" ونقلت لها رغبتي في الزواج منها، فنظرت إلي طويلًا ثم قالت: "أملك القدرة على أن أتزوّج بكل شباب الجزائر، لكنني لن أفعلها لسبب واحد، هو أن الرجل الجزائري لا يثق في امرأته، وإلا كيف تفسّر أنه يتدخل في خصوصياتها ويراقبها من الصباح إلى المصباح"؟ هل تتوقع أن رجلًا لا يخون يمكن أن يشكّ في زوجته؟ أنا جنّني شك زوجي في إخلاصي له". فجأةً قامت وغادرت المكان، لأبقى حائرًا في هويتها، هل هي "عاقلة" أم "مهبولة"؟.

اقرأ/ي أيضًا:

في الفارق بين شياطين الجزائر وملائكته..

هل فقد الجزائريون الحس الجمالي؟