30-أبريل-2017

عمل نحتي لـ خالد ضوا/ سوريا

فيما لو لم أكن شاعرًا، أو بما أدّعي، فإنَّ المجاز الذي في العنوان، ينفع لتفخيخ نص شعري، وليس لحرقِ شجرة، وأي شجرة كانت، بغض الطرف عن أنها شجرة النخيل، معمرةُ الواحات وواهبة الظل والخضرة للصحاري. قبلَ يومين تحديدًا، تحدثتُ في نص لي عن شجرةٍ بريئة، في الوقت الذي أظهرت فيهِ شيطنتي، لأقول إنَّ الشعراء ليسوا أنبياء، واتهامهم التاريخي بالزندقة وغير ذلك، فيهِ من الحقيقة ما يسندهُ، فالشجرة تأوي العصافير، بينما أنا آكلها، هي تحاور عاشقين يستظلان ويستتران بها، وأنا أنصب الكمائن لهم، هي تشيعُ الخضرة والظلال وأنا أهوي بالفأس عليها، وإشعال الحرائق، في الشتاء أعير خشبها كثير أهمية، في الربيعِ أراقب أزهارها، في الصيف أمنحُ أوراقها وثمرها إن كانت مثمرة المحبة والامتنان، غير أنَّ هذه الحاجةَ لها، تنتهي بزوالِ ممكناتها في إسعادي.

الشجرة تأوي العصافير، بينما أنا آكلها، هي تحاور عاشقين يستظلان ويستتران بها، وأنا أنصب الكمائن لهم

قبلَ سنوات، قبلَ بدءِ القيامةِ السورية، أقولُ "القيامةَ" لأتجنبَ تسمياتٍ ما زالت "القبائل" تتقاتلُ عليها، وينقسمُ الأهل حولَها إلى قابيل وهابيل، وغربان بليدة، معطلة عن فعلها، فهي لا تداري سوءةً، ولا تدفنُ جثةً، ويبقى سوادُها المجازُ الذي يَسمُ السماءَ والأرض، ويجعلُ كل فكرةٍ أو حقيقةٍ أشبَهُ باللامنطقِ الذي ينتهجهُ القصيدُ وترومهُ الكتابةُ في مخيالِ كاتبٍ، يدللُ في بدء كتابتهِ بعبارةٍ، تتفلتُ من الرقابةِ والقصاص: "ما يأتي هنا، لا يمتُ للحقيقة بصلة، والأسماء التي تردُ، كتبت بشكل اعتباطي"، وهو تمامًا ما أفعلهُ هنا باستخدامِ المجاز والاستفادة من الإشارات الصوفية في كتبِ المتصوفة وسلوكات مريديهم، الشجرةُ التي أعنيها، لم أطفئها، لأنَّ منطقَ الأمر، يجعلني أصبُّ الزيت عليها، وأحركَ الريح إليها من كلّ الجهات، فيما لو أنَّ ملكَ الريح طاوعني، وهو سيطاوعني، فالملك مثلي من لحم ودم، وليس من نور، وقد يكسرُ هذا الخللَ أو التحول المجازَ الذي اتفقتُ فيهِ مع حالي شفاهًا وليسَ نَصًا، لأنَّ المكتوب وثيقةٌ عادة، والوثيقةُ تحفظُ في سجلِ أعمالك لو كنتَ مؤمنًا بآخرةٍ ستذهبُ إليها، وملكانِ يأتيانكَ من اليمينِ والشمال، ويسألانكَ عما فعلتَ، أمّا إذا كنت ممن إيمانهم "نص كم"، ويتقلبونَ من أقصىَ العلمانيةِ إلى غياهبِ الكهنوت واللاهوت والفقهِ والتفاسير والتآويلِ ومارتن لوثر، وأبي حنيفةَ، وأبي ذر، والسيد المسيحِ، فأنتَ هنا، ستدير خدّك الأيسرِ قبل الأيمنِ لكلّ صفعةٍ، لا لأنكَ متسامح وفياضُ محبة على القومِ، إنّما السلاحُ الذي في يدك، لا يلوي على سلاحِهم. 

اقرأ/ي أيضًا: في ذكرى وفاته.. ماذا قال الأبنودي عن ابن عروس؟

المجازُ نعمةٌ والتصريحُ نقمةٌ وفي هذه الجملةُ بعضُ الهناءة إلى حينِ مجيءِ جهابذةِ النقد، فيؤولون نصكَ بما لم تقلهُ، وهو بالضرورةِ خنقتهُ رغبةٌ داخليةٌ لأنْ يلبثَ في العتمةِ، ويتشوّف الضوء الذي في النفسِ وليس في الواقعِ!

أقولُ قولي هذا، وأعتذر عن كثير قتلتهُ في روحي خوفًا ومداراةً ومجاملةً، حتىَ رأيتني، أمدُّ رأسي بينَ الرؤوسِ وأقولُ "يا قطّاع الرؤوس"، فأرىَ النارَ حولي، أضحكُ في سري: "هي ليسَ في بيتي"، أسمعُ عويلَ جيراني، أمنعُ عن نفسي فرحةَ أنَّ القذيفةَ أو السكينَ لم تحزّ أعناق أطفالي، وأكملُ مسيرةَ الحياةَ، أتحدثُ عن نارٍ في الحارةِ وأطفالَ وجدوهم مخنوقينَ، التضامنُ هنا يعني تبني موقفٍ، يتعارضُ مع موقف أحد آخرَ، وهو ما يبرر أننا نقترب من البهيمةِ أكثر من قربنا من الإنسان، بل إنَّ بشرًا مرتاحين، يراقبونَ خلسةً وبكاميرات حساسةٍ حالَ بعضِ الحيواناتِ، فيجدونها كم هي حريصةٌ على أقرانها، ومؤثرة على نفسها، رغم أنّها لم تقرأ "ويؤثرونَ على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة"، إن كلمةُ خصاصة في المقبوسِ الذي أخذتهُ من نصٍ مقدس، يمكن مماثلتهُ بمدنسٍ، يمنحُ التركيبةَ اللغويةِ للكلمة شحنًا جديدًا "الخصاء"، خصاءٌ عن قولٍ ينتصرُ للصدق أولًا، خصاءٌ في الأقوالِ والأفعالِ، خصاءٌ مفتوحٌ على الحياةِ برمتها، بحيثَ صار من الممكنِ والممكن كثيرًا، أنْ تتخيلَ بشرًا يحترقونَ أمامك، وبيدكَ لو تحركتَ أن تنقذ ما يمكنُ إنقاذه، غيرَ أن الاعتيادَ على المشهد، لا يأخذكَ لتنقذَ بوصفِ هذا العمل فعلًا أخلاقيًا، تعاضديًا، يرتبطُ أساسًا بثيمتك كإنسان، ولكَ شراكةً مع من يماثلك في الجنس، ولربّما جلَّ ما ستفعلهُ هو المفاضلةُ، مقابلةُ فعل بفعل، دونَ إدانةٍ للفعلِ من كونهِ صادمًا وجديدًا ومخترقًا للعُرف والعادة ومتجاوزًا التاريخ والحقيقة والواقع، ومقتربًا من الأسطورةِ!

نحن مقدمونَ على نارٍ، ستشتعلُ في كل مكان، وقلةٌ هم الذين سيسعونَ لأنْ تخمد

اقرأ/ي أيضًا: "الثورة بلا قيادات".. كيف يصل العامّة إلى سدة الحكم؟

قبلَ سنوات، جئتُ لأذكر، فأخذني الاستطرادُ، قبلَ الثورةِ اليتيمةِ والمسروقةِ، قبلَ فتحِ بابِ "الديوثية" على مصراعيه، وحينَ كانَ الحياء الاجتماعي بيننا حيًا، ويشكل قانونًا ناظمًا في غيابٍ للقانونِ والعدالةِ، كنا عائدينِ أنا وصديقٍ لي من رحلةٍ، عندما رأينا النار تشتعل في شجرة نخيل نادرةٍ في مدينتنا، كانَ الأمر عاديًا، لولا أنَّ عشراتِ الناس، كانوا يفترشونَ العشبَ، ويأكلونَ ويشربونَ، وينظرونَ في المشهد، كما لو أنّهم في قاعة سينما، بل أكثر من ذلك فوجوههم كانت حيادية، وكذلك تصرفاتهم، أوقفنا السيارةَ وبما توفر لدينا من ماءٍ ومن ثم الاستعانةِ بالتراب "الذي سنعودُ إليهِ جميعًا" وقد أكلناهُ ونحن أحياء، فما عادَ هناكَ كذبةٌ عظيمة "أخوةُ التراب"، أطفأنا الشجرةَ، غير أني شعرتُ أنَّ نارًا كبيرةً، شبّت في داخلي، وقلتُ وقتها: "نحن مقدمونَ على نارٍ، ستشتعلُ في كل مكان، وقلةٌ هم الذين سيسعونَ لأنْ تخمد".

مجازُ الشجرةِ، في التوصيف، أو لأقل في الشرحِ الذي يفسرُ قصيدةً فيقتلها: تلكَ الشجرةُ كانت بلدًا لا أكثرَ، وعشراتُ الناسِ المشاهدينِ، هم عالمٌ مترامي الأطراف، ينتظرُ مستمتعًا انحدار النار إليهِ، سيتلمسُ رأسهُ ويتحسسُ بيتهُ وقد وصلتهُ و"زنكته" في زاوية، حيثُ لا فكاكَ وما من اثنينِ، سيوقفانِ سيارتهما، ويرشان الماء، ويهيلانِ الترابَ.

 

اقرأ/ي أيضًا:

محمد أبي سمرا.. السيرة ووجوهها

لا أحد يؤجر منزلًا يحتوي مكتبة