08-أغسطس-2016

عبد الوهاب عيساوي (فيسبوك)

لأسباب تتعلّق بأمزجة الكتّاب وطبيعة منظومات النشر والنقد والقراءة، لم نعد نقرأ مجاميعَ قصصية كثيرة في الجزائر، وهو ما سيؤسس بالتراكم لقطيعة سلبية مع المدونة القصصية الجزائرية التي حققتها نخبة متميزة من الأجيال المختلفة، وما يُغفل ذكرُه كثيرًا أن القصة القصيرة هي أكثر الأجناس الأدبية التي تجسدت فيها الهوية الجمالية الجزائرية، بالمقارنة مع الشعر والرواية، في تأرجحهما بين الروحين المشرقية والفرنسية بحسب اللغة المستعملة.

شخوص "مجاز السرو" إما قادمون من تاريخ الفن، وإما خارجون من واقع يشبه زمنًا غير مقبوض عليه،

قصة بمواصفات صفصافة

في ظلّ هذا اليتم القصصي، نشرت قبل أيام قليلة "دار بغدادي" مجموعة "مجاز السرو" لـ عبد الوهاب عيساوي (1985) بعد روايتين نال عن الثانية "سييرا دي مويرتي: جبل الموت" جائزة آسيا جبار عام 2015، وهو بهذا عكس التيار السائد الذي يجعل القصة القصيرة مدخلًا تمهيديًا للرواية، وعادة ما لا يعود الكاتب إلى القصة بعد روايته الأولى، وقد تمنّيت لو أن القاص وضع تواريخ كتابة هذه النصوص في نهاياتها، فقد تكون سابقة على متنيه الروائيين زمنيًا، فقط تأخر زمن نشرها.

اقرأ/ي أيضًا: الطاهر وطار.. الحياة داخل الأسئلة الحارقة

الفائدة الأولى من ذلك، معرفة هل كانت هذه النصوص القصصية تمارينَ تسخينيةً قبل الانخراط في الرواية، أم أنها كانت ثمرة لنفس الروائي في بعض خصائصه؟ ذلك أن النصوص التسعة المشكلة للمجموعة تظهر كلها، بمجرد الشروع في القراءة، مشاريعَ رواياتٍ مجهضة، أو لنقل إنها روايات مكثفة أو مضغوطة، إما أن كاتبها لم يجد المزاج والوقت الكافيين لكتابتها وفق خصائص وشروط الرواية، وإما أنه خيار سردي علينا احترامه، خاصة أنه لم يخلّ بخصائص القصة القصيرة وملامحها.

لئن كان نيكولاي غوغول يقول إنه يحبّ أن يكتب قصة في حجم منقار حمامة، فإن عبد الوهاب عيساوي وجد متعته في كتابة قصة في طول صفصافة، وظهر وعيه بنصه من خلال عمله على توفير توابلَ سرديةٍ من مهامها نقل هذه المتعة إلى القارئ، وتحويل طول النص القصصي إلى عامل من عوامل تشبّثه به وإكماله.

من هذه التوابل استجماع فضول القارئ في بؤرة معينة، قد تتعلّق بشخص أو حدث أو ذكرى أو مكان أو موقف، ثم إلهاؤه بتتبّع التفاصيل التي لا تؤدّي إلى إزالة الغموض بالضرورة، فيصبح التفصيل نفسه بؤرة اهتمام، بما يجعل النص شبيهًا بالعنقود الذي نأكله حبّة.. حبة، لنكتشف عند الحبة الأخيرة أن العنقود ليس ما أكلناه، بل ما بقي عالقًا في الأذهان.

استكناه النفس البشرية

شخوص "مجاز السرو" إما قادمون من تاريخ الفن، وإما خارجون من واقع يشبه زمنًا غير مقبوض عليه، ويطغى على نبراتهم الإحساس بالوحدة القاتلة، حتى إننا نستطيع القول إن الوحدة هي الثيمة الكبرى لهذه التجربة القصصية التي تعالت على رصد العابر، أي الصور السلوكية، كما نجد في بعض التجارب القصصية الجزائرية، واختارت أن ترصد العميق في النفس البشرية.

لأن الوصول إلى العمق يقتضي الحديث مع النفس، فقد كان ضمير المتكلّم هو المهيمن على بقية الضمائر في "مجاز السرو"

ولأن الوصول إلى العمق يقتضي الحديث مع النفس، فقد كان ضمير المتكلّم هو المهيمن على بقية الضمائر، البوح الذي هو ثمرة للرغبة في التطهر لا ثمرة لتضخم الذات، وهو مقام يقتضي الصراحة المطلقة التي تصل إلى حد القذارة، كما يفرض تشبيه الذات بموجودات أخرى حتى يسهل فهمها في ظل حالة التخبّط. من هنا لعب الوصف الدقيق للحالة -وما يحيط بها من أشياء وظلال وأصوات وإشارات- دورَه في تعميق العلاقة بين النفس والموجودات المادية، حتى صارت لها روح وذاكرة وأمزجة.

اقرأ/ي أيضًا: الأدب الأفريقي ومسألة اللغة

كان وعي الكاتب بطبيعة اللغة الصالحة لنقل هذه المناخات الحسّاسة عميقًا، إذ عرف كيف يمزج بين الشعر والسرد والغموض والوضوح والبوح والتعتيم والإسهاب والإيجاز، تمامًا كما يمزج رسّام ناضج بين ألوان معينة، ليستخرج منها لونًا محدّدًا يملك القدرة على التعبير بالضبط عن حالة مقصودة، ذلك أن هناك فرقًا صارخًا بين أن نقولَ الشيءَ وأن نقول عن الشيء، أي بين أن نستَكْنِهَهُ وأن نصفه، وهذه واحدة من تجليات عمق القصة القصيرة عند عبد الوهاب عيساوي.

افتحوا آذانكم.. فان جوخ يروي

كثيرًا ما يكون الإلمام بتفاصيل حياة الرسام الهولندي فينسنت فان جوخ، 1853، من قبيل أنه كان ينوي أن يكون قسًا، ففشل في ذلك وتوجه إلى الرسم في سن السابعة والعشرين، راسمًا 900 لوحة في عشر سنوات فقط، لم يبع منها إلا لوحة واحدة في بروكسل، وأنه رسم أشهر لوحاته "ليلة النجوم" في المصحة النفسية "سان ريمي" بفرنسا، وأنه قطع أذنه أو شطرًا منها، بسبب مشاحنة وقعت مع صديقه التشكيلي بول غوغان، مقرونًا بجهل الاعتمالات النفسية التي كانت تتقاذف يومياته.

نص "مجاز السرو" الذي حملت المجموعة عنوانه، وكنت أفضّل أن تحمل عنوانًا خاصًّا بها، لا عنوان نص منها، استحضر وحدة فان جوخ وغربته وحيرته ورغبته في الانتحار وصراعه مع نفسه ومحيطه وهلوساته وحواراته مع لوحته، بما يشبه سيرة ذاتية تعطيك انطباعًا بأنها ترجمة لنص كتبه فان جوخ نفسه. "الناس في آرل لا يفهمون أن الجنون في بعض الأحيان يكون مبررًا، كما يكون خيارًا، ولكنهم ظلوا يرقبونني خائفين ومستهجنين، لذا بقيت حبيس البيت الأصفر، أفكر في مصير الأذن الصغيرة التي أهديتها".

اقرأ/ي أيضًا:

رواية مولى الحيرة.. إسماعيل يبرير يرسم وحش الفراغ

صباح سنهوري: ستغمر المحبة العالم