حالة المصالحة الوطنية التي دخلت فيها الجزائر منذ مطلع القرن الواحد والعشرين، وأفضت إلى توقف حالة العنف والإرهاب، التي دامت عقدًا من الزمن وخلّفت عشرات الآلاف من الجرحى والقتلى والمعطوبين والمفقودين؛ لم تُؤدِّ إلى توازن في العلاقات الاجتماعية والثقافية العامّة، بل فتحت المجال، بعيدًا عن الانتباه، إلى انتشار خطابٍ ديني متشدد بدرجةٍ ما، يصادر الحريات الفكرية والشخصية ويحاكم أصحابها، إلى درجة أن بعض المثقفين كُفّروا من طرف بعض النشطاء المحسوبين على التيارات الإسلامية.
لم تُؤد المصالحة في الجزائر لتوازن العلاقات الاجتماعية والثقافية العامة بل فتحت المجال من جهة لانتشار خطابٍ ديني متشدد بل تكفيري
قبل أيام، أقدم الباحث وأستاذ الفلسفة المعاصرة في جامعة قسنطينة، إسماعيل مهنانة، على القول إنّ "سورة النور رديئة شعريًا"، ما دفع الشاعر والأستاذ الجامعي عيسى لحيلح، الذي كان مفتيًا لـ"الجيش الإسلامي للإنقاذ" الجناح المسلّح لـ"الجبهة الإسلامية للإنقاذ" المحظورة في الجزائر، إلى نشر رسالة شكّك فيها في وطنية ودين وذوق وفكر الحداثيين، ووصفهم بالضفادع والخنازير والزّواحف.
اقرأ/ي أيضًا: الإلحاد في الجزائر.. "جريمة" لا تحتاج إلى شهود!
وما جعل من صدمة الرسالة مضاعفة، إقدام الصّفحة الرّسمية لـ"جمعية العلماء المسلمين الجزائريين"، كبرى الجمعيات الدّينية في البلاد، على نشر خطاب عيسى لحيلح واصفة إياه بـ"الصّفعة المزلزلة على قفا الحداثيين والعلمانيين"، بما عُدّ تزكية منها له.
في ظلّ هذا الوضع، الذي يذكّر الجزائريين بتسعنييات القرن العشرين، بادرت نخبة من المثقفين، منهم الشاعر والباحث عاشور فنّي والباحث أحمد الدلباني وعمر بوساحة رئيس "الجمعية الجزائرية للدّراسات الفلسفية" والروائي والكاتب الصحفي إحميدة عياشي والشاعر عبد الله الهامل والإعلامي أنيس بن هدوقة والروائي والجامعي فيصل الأحمر، إلى إصدار بيان، ورد فيه أن البلاد "تشهد، منذ فترة، عودة للحملات العدائية والعدوانية المتوالية التي تشنها وسائل إعلام ومواقع تقف وراءها جهاتٌ وجمعياتٌ ضدَّ بعض الكتاب والمثقفين الجزائريين بغرض إسكات صوت العقل وتسفيه فاعلية النقد وإخماد جذوة الحرية".
"إن الإبداع بمفهومه الشامل العميق –باعتباره هجسًا بعالم أجمل وأليق بالإنسان– أصبح الهدفَ المفضل"، يقول البيان لتلك الجهات الرَّامية إلى تعطيل كل ما من شأنه أن ينهض بالجزائر الجديدة التي كانت ولا تزال حلمَ الأجيال المتعاقبة الرافضة للزمن الثقافي الرَّاكد والارتهان لقوى الماضي والتبعية العمياء لسلطة الجمود.
وأضاف البيان: "إن النخب الطليعية الجزائرية الحاملة لمشروع الحداثة والتنوير والمدافعة عن حقوق المستقبل -المُجهض والمتواري وراء ممارسات الوصاية والحجر على الفكر- أصبحت في عرف هؤلاء حصان طروادة آخر يهدفُ بحسبها، إلى اختراق الذات الحضارية الجزائرية والتمهيد لشكل جديد من تبعيتها للاستعمار القديم في سياق لهجة تخوين ماكرة يتم من خلالها نسيانُ وشائج الاستمرارية العميقة بين هذه النخب وبين التاريخ الوطني الحيّ القائم أصلًا على أعمق الرغائب في التحرر والتقدم".
ويختم البيان، الذي يأتي أيامًا بعد إقدام الشاعر والجامعي عيسى لحيلح المفتي العام للجيش الإسلامي للإنقاذ بداية التّسعينيات، على وصف الحداثيين بالخونة والضفادع والمائعين والرّاغبين في بيع قيم الأمّة، بقوله إنّ "الطريق إلى المُستقبل الواعد لا يصنعه الانغلاقُ والتخوين والتكفير وإنما الإيمان بالحرية واحترامُ الإنسان وحقوقه الأساسية وفي طليعتها حرية التفكير والتعبير والمعتقد".
ندد مثقفون جزائريون بـ"حملة التكفير والتخوين والقذف" التي طالت الباحث إسماعيل مهنانة لانتقاده نصًا قرآنيًا
ردّة الفعل القوية التي أحدثها البيان، والخطوات المشابهة له في مواقع التواصل الاجتماعي، دفعت بجمعية العلماء المسلمين الجزائريين، إلى حذف المنشور، ونشر اعتذار للمثقفين الجزائريين "غير المتنكرين لأصالتهم" بتعبيرها، وهو الموقف الذي رحب به قطاع واسع من المثقفين الجزائريين، ورأوا فيه خطوة متوازنة من جمعية يُفترض أن تنشر التنوير لا الأحقاد.
اقرأ/ي أيضًا: