26-ديسمبر-2016

مقطع من لوحة لـ بطرس المعري/ سوريا

كعادتها الأفكار والمفاهيم في ميادين حقل التجربة. أقول حقل لأنه مُفرد تُعايَن فيه الأفكار من قبل البشرية جمعاء، كلٌّ في أرضهِ وبين جمهوره على مسار التاريخ. كعادتها تتلاقَح فيما بينها، تلد أفكارًا أخرى، تَبتلع ما هو دونها، وتُبتَلع من قبل أُخريات، وتُهدَم أحيانًا ملامح صروحِها، فيأكلُ عليها الدهرُ ويَشرب، وأحيانًا أُخرى تَسلُبها التجربةُ واقعيتَها، فَتُمسي بين ليلة وضحاها خاليةً من أيّ معنى.

على القدريّة أن تتنحى جانبًا، لأنه من المخجل أن تكون وظيفة الإنسان محددة مُسبقًا

أكثرُ من نصف الصرح الماركسي المتمثّل بالفهم العام للمادّية التاريخية وتفسيرها، وبفهم حدود علم الاجتماع النظري بوجه عام كذلك، وبدراستها لأعم قوانين التشكيلات الاجتماعية ومجملها أيضًا، وبتعريفها للإنسان ككائن عضوي اجتماعي محدَّد تاريخيًا، وبصبّها جل اهتمامها على العلاقة بين وعي الإنسان الاجتماعي ووجوده الاجتماعي، وعن العلاقة بين البناء التحتي والأبنية الفوقية، وما إلى ذلك، تهشَّمَ بعبارةٍ ذكية للغاية تقول: "إن كانَ پول ڤاليري (الشاعر والفيلسوف الفرنسي) هو پول ڤاليري لأنه برجوازي (ومُحدد تاريخيًا)، فلماذا لا يكون كل برجوازيٍّ پول ڤاليري (شاعرًا وفيلسوفًا)؟".

اقرأ/ي أيضًا: ماذا قرأ المصريون في 2016؟

الحق يُقال في أن هذه العبارة ضمن هذا الشكل، وهذا التعبير، وفي هذا النطاق، هي صائبة إلى حد مُطلَق، وعليها فالإنسان -كذات حرة وجديرة بالحرية- يُولد ثم يَختار لنفسه ما يُريد، فيُثْبِت، ويَنفي، ويُبرم، ويَقطع، ويصل، ويؤمن، ويُلحد، بكامل الحرية والمسؤولية عن النتائج، والمبرراتُ غير المادّية جميعها مرفوضةٌ شكلًا وتفصيلًا؛ ودونها تَسقطُ بالمقابل كلُّ الأفكار والمفاهيم التي من شأنها أن تضع حدًا للوجود البشري، ولطاقات الإنسان في الكشف عن وجوده الأصيل الفرداني مهما بلغت تلك الأفكار والمفاهيم من التواضع أو الرفعة؛ وأقول تسقط لأننا مُطالبون في هذا الوقت مثلما كان الحال في أوروبا إبان الحرب العالمية الثانية، باستخدام هذه اللغة، وإعادة بناء الذات مجددًا، في الوقت الذي بات فيه وجود الإنسان بلا أية غاية.

على القدريّة أن تتنحى جانبًا في هذه المرحلة على أقل تقدير، لأنه من المخجل أن تكون وظيفة الإنسان محددة مُسبقًا، من المخجل التبرير بالقول: قدَّر الله وماشاء فعل، لأنه لو كان الأمر كذلك (مُحددًا) لضاعَ معنى الإنسان، ولَفقد أدنى صفاته وامتيازاته المتمثلة بالحرية.. كيفَ يمكن للإنسان أن يكون حرًا في الوقت الذي تكون فيه نتائج أفعاله مُرجأة إلى نطاق آخر، والإجابات جميعها متساوية؟ ما معنى أن يَحمل سيزيف صخرته طلوعًا ونزولًا طيلة أيام حياته؟

على النقيض من ذلك، عرّفَ البعضُ الكائنَ البشري بتعريف أقرب ما يكون إلى نبتة منهُ إلى الإنسان؛ قالوا بمحدوديته، وبخلوّه من أي معنى أو مضمون، وبافتقاره الدائم لحس الغاية المرجوَّة منه، وأنه يعيش حياته مدفوعًا بالشك والفضول لا أكثر، أي أنه كائن (فضولي) يعيش حسب المؤشرات التي يستنتجها من أن الواقع سيكون أفضل حالًا، يريد أن يُراقِب فقط، دون أن يَلحظ أن لأفعال الآخرين جميعِها نتيجة مناسبة ومنطقية، وعليه يُقْدِم هذا الإنسان على الانتحار حالَ قالت مؤشراته إن (لا جدوى، ولا أمل من جدوى)، كل ما نراه ونعايشه في هذا العالم اليوم، هو نتيجة لفشل الإنسان أولًا، وفشل الأنظمة ثانيًا في إعادة العمل على تحسين وضع الوجود البشري (ماهَويًّا قبل توفير الطعام والشراب).

عرّفَ البعضُ الكائنَ البشري بتعريف أقرب ما يكون إلى نبتة منهُ إلى الإنسان

في الوسط لا بشكلٍ وسطي، تَلعب الأديان دورًا موتورًا في ميدان يقف على النقيض من العدميّة والوجودية في الآن معًا، وترى في نفسها أنها مُقَدَّمة للعالَم بشكل حذق ومُتقن، إذ إنها تلعب على أوتار ما هو مجهول وغير مُدرَك أولًا، إضافة إلى كونها تتحدث عن موضوع آخَر يختلف عن معنى أن يصنع الإنسان لنفسه شيئًا، وهو الخلود البشري بصور تختلف هي أيضًا بشكل كلي عن خلود غلغامش على جدران بابل؛ كما ترى الأديان أنها تُبرِّر هذا العالَم، في حين تبدو بحاجة على الدوام إلى من يُبررها.. أكرمَت فئة من الناس على حساب أُخرى، ثم دعت إلى المحبة بين الجميع والتساوي فيما بينهم، ثم قالت إن الغاية والمعنى يكمنان في العبادة، ثم دعت بعد ذلك إلى أن يستمر الإنسان بالدعاء والرجاء والتقرّب والتضحية، وبذلك تكون قد أحكمت (الأديان) قبضتها على عنق الإنسان، ففي الوقت الذي يُبرَّر وجودُه بالعبادة، يُبرَّر حاضرهُ ومستقبله بالدعاء، فيعود لا يملك من أمره شيئًا، وتبدو العودة إلى فرج الأم أمرًا أيسر من كل هذا العبث.

اقرأ/ي أيضًا: رسائل إدوارد سعيد إلى صادق جلال العظم

وتابعت الأديان تبريراتها بالعودة إلى الحب الإلهي لدى أهل التصوف والزهد، وهذا أيضًا شكل من أشكال التبرير الديني، وانعدام قيمة الأشياء والأفعال في إطار هذا المفهوم ماديًا، والعبث كمحصِّلة.. ثم العودة إلى الأصولية.. وهكذا دواليك، حيث الكل يخوض في ميدان غير واقعي، والنتائج عصيّة على الضبط مطلقًا؛ ما يحدث في سوريا كمثال تتم معاينتهُ يوميًا، خير شاهد على مانقول، وكل ذلك "محكوم بالأمل".

كتب المسرحي السوري الراحل سعد الله ونوس -كما هو معلوم- "رسالة يوم المسرح العالمي" التي كلَّفه بها عام 1996 آنذاك المعهدُ الدولي للمسرح التابع لليونيسكو؛ جاءَ في الرسالة شكلٌ جميل من أشكال الدعوة إلى بلورة مواقف الإنسان، وجعلهِ أكثر حرية ووعيًا وجمالًا لاستعادة إنسانيته عن طريق الثقافة -حسب ونوس- إلا أن ما استوقفني حقًا هو الطريقة التي تمت من خلالها عملية التعاطي (عمليًا) مع قوله: "لأنه لا يوجد أي تصور عن المستقبل، ولأن البشر وربما لأول مرة في العالم لم يعودوا يجرؤون على الحلم، فإن الشرط الإنساني في نهايات هذا القرن يبدو قاتمًا ومحبطًا"، والفقرة التي تلت ذلك حين قال: "إننا محكومون بالأمل، وما يحدث اليوم لا يمكن أن يكون نهاية التاريخ".

أود الاعتراف هنا أنني لم أكتب هذا المقال للحديث عن مسرحي سوري كبير بحجم ونوس، ولا للحديث عن رسالة يوم المسرح العالمي؛ ما يهمّني هو (انعدام تصوّر الإنسان وحُلمه ورجائه وأمله بما سيحدث في المستقبل) وتعويل هذا الإنسان على ردّة فعله من حيث مناسبتها لأفعال الآخرين، لا التعويل على فعله، وأثر هذه المفاهيم (الأمل، الفضول، التفاؤل، الرجاء، الدعاء، الاستكانة إلى قوى خارجية..) على دوافع الإنسان، وحرية إرادته، وتشكيكها بقدراته، وتعزيتها لكارثية تصرفاته.

الأمل عزاء من لا يملكون تحديد نتائج تصرفاتهم حسب المعطيات المأخوذة بالحسبان

اقرأ/ي أيضًا: سفيتلانا أليكسييفيتش: ليس للحرب وجه أنثوي

الأمل أيها السادة، اصطلاحًا: "مشاعر الترقّب والرغبة لحدوث شيء معين"، وهو أن ترجو أن يكون المنطق منطقًا، وترجو ألا يكون المنطق منطقًا في الوقت ذاته، وهذا مرهون بالرغبة؛ ولتوضيح ذلك ببساطة أكثر أقول، إذا ما أفلتَّ بالونًا من يدك بحريةٍ وإدراكٍ لكل حيثيات هذا الفعل ونتائجه، وانتابتكَ رغبة خلال لحظة ما أن يعود إليك مجددًا، فإنك سترفع رأسك نحو الأعلى وتنتظره ليعود، مدفوعًا بالأمل أن يكون نيوتن صادقًا في تلك اللحظة، إذ -حسب قولك آنئذٍ- جَرَت العادة أن يعود البالون؛ والعكس ببساطة صحيح إذا ما رجوتَ أن يَدفع به الريح إلى مكان بعيد.

إذًا.. الأمل فضول، ورغبة تستند إلى العادة في شقها الطبيعي، وتستند إلى قدرة خارجية في شقها الماورائي.. والأمل عزاء من لا يملكون تحديد نتائج تصرفاتهم حسب المعطيات المأخوذة بالحسبان.. والأمل شكلٌ من أشكال الاتكاليّة للمستقبل استنادًا على مقّدمات ماهو فائت.. والأمل هو اللجوء إلى ما هو ما ورائي لتغيير ماهو طارئ، والأمل هو نأي الإنسان بنفسه جانبًا.. إننا محكومون بالعمل، والسماء لا تُمطر ذهبًا ولا فضة، والعاجزُ من تمنّى الأماني، والمشكِّكُ من استخدمَ الاسم الناسخ "لعلَّ"، وفي النهاية لا بد من التذكير: "يداكَ أَوكَتا.. وفوكَ نَفَخ"، وسيبقيان كذلك.

اقرأ/ي أيضًا:

"سنة أولى سجن".. وقائع سجن صحفي مصري

حسين الحاج.. الشعر كأشغال يدوية