14-أبريل-2016

متى ننتقل إلى لعب التانجو؟ (ميقال منداث/أ.ف.ب)

الفوضى، كلمةُ بمجرد أن نسمعها يتبادر إلى أذهاننا أنها تعني كل شيء يسعى المجتمع إلى تجنبه، مثل الاضطراب والتشوش والبلبلة والاختلال، كما تعني الخروج عن القوانين السائدة والمألوفة وانتشار المفاهيم غير المفهومة والملتبسة، وقد اعتبرها العلماء شرًا لابد منه، والفوضى لدى البعض مجرد شوشرة هدفها زعزعة استقرار المجتمع وتهديد كيانه المتآلف، لكن مفهوم الكلمة بدأ في التغير عندما اكتشف العلماء الدور المهم الذي تلعبه الفوضى في إنتاج ما نراه حولنا من نظام، مما دعاهم إلى أن يشبهوا العلاقة بين الفوضى والنظام بالرقصة الأرجنتينية الشهيرة "التانجو".

للفوضى دور مهم في إنتاج ما نراه حولنا من نظام

وقد شهدت أحياء مدينة "بيونيس أيريس" ميلاد رقصة التانجو وذلك في أواخر القرن التاسع عشر، وقالوا إنها "خليط فريد بين النظام والارتجال، فالنظام يعني القواعد التي يتعلمها الراقص، أما الارتجالات فما هي إلا حركات يبتدعها الراقص أثناء الرقص على موسيقى التانجو. وهذا يلفت الانتباه إلى أن الامتزاج المدهش ما بين القواعد والارتجال، هو السبب في كم جمال وإبداع رقصة التانجو، لأن لكل راقص لحنًا يختلفُ تمامَ الاختلاف عن لحن الآخر، وإذا كانت القواعد هي ما تميز هذه الرقصة عن غيرها من الرقصات، فإن هامش الارتجال يشكل الإبداع، ويمثل المستحدث وينتج الجديد.

اقرأ/ي أيضًا: ما وراء صفقة الجزر المصرية

وبإسقاط المثال على الواقع فإن التفاعل بين القواعد والارتجال هو سر التغير والتجديد داخل المؤسسات. فلو تخيلنا مؤسسة ما يسود فيها النظام المطلق، وتحكمها مجموعة من القواعد المطلقة الجامدة التي لا تتغير، فهذه المؤسسة مع الوقت لن تتقدم ولن يكون للأفكار الحديثة والجديدة مكان فيها، لأن كل شيء بداخلها مقرر سلفًا، ويمكن التنبؤ بسهولة بما سيحدث لها في المستقبل، وهو ما يصل بها في النهاية إلى التجمد لأنها استعصت على التكيف والتطور بما يواكب العصر، وفي المقابل لو تخيلنا مؤسسة ما لا تحكمها أية قواعد أو قوانين أي أنها تسود فيها الفوضى المطلقة دون ضابط، فبقاء هذه المؤسسة سيكون صعبًا نظرًا لافتقادها لأهم عناصر البقاء وهي القواعد والقوانين التي تسيرها وتحكمها.

وهكذا فإن المزيج المتوازن بين الفوضى والنظام يضمنُ البقاء للدول أو المؤسسات، فوجود النظام وما ينطوي عليه من قواعد وقوانين يتيح لها التنبؤ بأحوالها في المستقبل، والفوضى وما تحتويه من خروج عن المألوف وتجاوز لحدود القواعد ستتيح لها التكيف والتطور حتى لا تبقى جامدة. لكن رغم ذلك، فإن مقدار الفوضى يختلف من منظومة إلى أخرى، ومن وقت إلى آخر، فمثلاً في أوقات الثورات يزداد حجم الفوضى حتى يصل إلى ما يسمى "منظومة الفوضى المطلقة"، وتتميز الدول في هذه المرحلة بقابليتها للتغير وقدرتها على إنتاج الجديد سواء كان ذلك في أفكار مستحدثة أو في سلوكيات غير مسبوقة.

وعندما تصل الدول إلى مرحلة الفوضى المطلقة، يكون أمامها أربع مسارات وهي تؤدي إلى طرق مختلفة، المسار الأول هو المسار الذي تتوقف فيه الدول في وضع ثابت ولا تتغير، والمسار الثاني تقع الدولة فيه في "مصيدة التكرار المنضبط"، أي أن الدولة تكرر أنماط سلوكها دون تجديد وتكون فيه مثل الآلة، أما المسار الثالث فهو لا يختلف كثيرًا عن المسار السابق فالدولة فيه تكرر ذات السلوك مع تغيرات طفيفة تكاد تكون غير ظاهرة وغير ملحوظة، وأما المسار الرابع فتكون فيه الدولة في حالة تغير مستمر وتطور مستدام، فالدولة هنا دائمة الانتقال من حالة إلى أخرى.

النظام أم الفوضى أو النظام والفوضى؟

تعد هذه الإشكالية من أشد القضايا التي اهتمت بها الفلسفة الحديثة وهي إمكانية نشوء النظام من الفوضى، فالفريق الأول يؤمن بـ"أن الأقل يمكن أن يولّد الأكثر"، والفريق الثاني كان يؤمن بأن "الأقل لا يمكن أن يولد الأكثر". فهيغل الذي يعد من أتباع الفريق الأول يقول إن "الأفعال الإنسانية تنشأ عن الفوضى، وأن البشر يتصرفون وفق أهوائهم ورغباتهم، وأن ذلك كله يقود مع ذلك إلى تقدم الفكر والمنطق مع الزمن"، ووافقه أيضًا سبنسر، الذي أكد ضرورة وجود تمايز واختلاف بين العناصر فيقول إنه "من الأفضل لكي تشكل العناصر نظامًا ما أن يتوفر داخل كل نظام تنوع رياضي أساسي بين المركبات"، أما ديكارت فهو من أتباع المذهب الثاني وهو أن الأقل لا يمكن أن يولد الأكثر، فقال إن "العدم لا يمكن أن يعطي شيئًا، بل إن ما هو أكمل، أي ما يتضمن في ذاته حقيقة أكثر، لا يمكن أن يكون ناتجًا أو متعلقًا بما هو أقل كمالًا".

لكن الرأي الأول الذي يؤمن بأن من الأقل يولد الأكثر، ومن الفوضى يأتي النظام، هو أكثر الآراء مطابقة للواقع، لأن مرحلة النظام لابد وأن تسبقها مرحلة الفوضى وهي المرحلة التي تدخل فيها الدولة حروبًا مع دولٍ أخرى حتى تضمنَ لنفسها البقاء والزعامة، أو حتى تدخل حربًا داخلية مع مؤسساتها في محاولة منها لاقتلاع جذور الفساد وتطهير المؤسسات من عناصره، وبين الحربين تقوم الدولة.

اقرأ/ي أيضًا: 8 عجائب من الحرب اليمنية

أمريكا ووهم الفوضى الخلاقة

لابد لمرحلة النظام أن تسبقها الفوضى وهي المرحلة التي تدخل فيها الدولة حروبًا مع دولٍ أخرى أو حروبًا داخلية وبين الحربين تقوم الدولة

كما قلت في البداية إن الفوضى هي الحالة التي يسود فيها الاختلال والتشوش والخروج عن القانون والمألوف، وتختل فيها موازين القوى لصالح قوة استطاعت أن تفرض نظامها على القوة الأقل منها، من هذا التعريف نستطيع أن نقول بأن ما تفعله أمريكا بالشعوب، الأقل قوة منها، ليست فوضى خلاقة، لأن الفوضى الخلاقة هي التي تكون من صنع قوة قادرة على التحكم والسيطرة، وهذا يُعدُّ محض استلاب فكري للمصطلحات بأنه ما دامت تلك المصطلحات قادمة من أمريكا فلابد وأن تكون خلاقة. وهذا ما عبر عنه الكاتب والمفكر الفلسطيني منير شفيق، قائلاً: "وهذا الاستلاب سار جنبًا إلى جنب مع انتشار مصطلح "الربيع العربي" على ما قام من ثورات شعبية، وكان قد أطلقه بغباء أو دهاء، باراك أوباما تملقًا لثورات أطاحت بأهم حلفائه: حسني مبارك وزين العابدين بن علي".

ويضيف شفيق: "فوصف الثورات بالربيع وصف وهمي مؤدلج غير مطابق، ولا علاقة له بالفهم العلمي أو التاريخي لما يسمى بالثورات كما لا علاقة له بما يصطحب الثورات من اضطرابات ويتلوها من عواصف وارتدادات، وفي الغالب حروب أهلية أو إقليمية أو تدخلات دولية، ولهذا يمكن القول إن نظرية الفوضى الخلاقة من سلالة نظرية المؤامرة ولكن بصورة أكثر ابتذالاً، لأن نظرية المؤامرة تعتمد على دسائس وتخطيطات القوى الكبرى التي سيطرت على العالم في أزمنة الاستعمار والإمبريالية، فيما نحن في زمن تراجعت فيه تلك القوى".

ويبقى السؤال الذي يلح على الأذهان هو: "متى تنتقل الشعوب العربية من مرحلة الفوضى أو الارتجال، إلى مرحلة النظام أو القواعد؟ ربما تكون الإجابة الأقرب انطلاقًا من التعريف الذى ذكرناه عن الفوضى، وهو عندما تصبحُ القوى العربية هي القوى القادرة على التحكم والسيطرة، وعندما تتحول من مجرد تابع متابع للأحداث إلى صانع لها، عندها فقط نستطيع أن نقول إننا دخلنا مسرح الأحداث لنؤدي لعبة التانجو كما نشاء دون وصاية من أحد، ويبقى الدور في إدارة الفوضى عن طريق الحفاظ على خلطة متوازنة من القواعد والارتجال.

اقرأ/ي أيضًا:

الأصولية العسكرية في قضية ريجيني

فيدراليتي وفيدراليتك وفيدراليتهم