10-يونيو-2020

مشهد معاصر عند باب العامود/بوابة دمشق في القدس المُحتلة (أحمد غرابلي/أ.ف.ب/Getty)

بدأت التنقيبات الآثارية الحديثة في فلسطين في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، وكان السبب الرئيسي للتنقيبات هو إثبات صحة التاريخ التوراتي بالبحث عن أدلة آثارية داعمة للتفاصيل التاريخية التي وردت في العهد القديم، فما حدث وقتها كان محاولة لاستنطاق الاكتشافات الآثارية لتشير إلى نتائج محسومة مسبقًا. 

دافع يوليوس فلهاوزن عن فكرة أن أسفار التناخ التوراتية لم يكتبها شخص واحد ولم تدون في نفس الفترة، بل أن كل منها له خلفيات وأهداف مختلفة

مع تقدم الزمن وإجراء الكثير من التنقيبات ظلت الهوة تتسع بين ما تنطق به الاكتشافات الآثارية وبين ما يريد الباحثون إجبارها على قوله، وأصبحت المهمة أصعب على المدرسة المحافظة بقيادة وليام فوكسويل أولبرايت وأتباعه في سد الفجوات التي بدأت في الظهور بقوة أمام منهجهم البحثي.

اقرأ/ي أيضًا: علم الجينات يوجه الضربة القاضية لإسرائيل

في سبعينات القرن العشرين بدأ الاتجاه الراديكالي باقتحام المشهد بنظرياته التي قلبت مسار البحث تمامًا، لتصبح الشواهد الآثارية حرة لتخبرنا بالحقيقة أو الاقتراب منها بأكبر قدر ممكن. بينما كان البحث قديمًا يدور حول إثبات الوجود التاريخي لعصر الآباء والمملكة الموحدة أصبح الكلام عن هذا اليوم مجرد حديث عابث لا يؤخذ على محمل الجد. وكان هذا ما أنتج الجيل الجديد من الباحثين المحافظين.

بخلاف المدرستين المحافظة والراديكالية حضرت نظرية مهمة استعملها الباحثين المحافظين في أبحاثهم وهي نظرية المصادر التي قدمها يوليوس فلهاوزن بوجود أربع مصادر للنص التوراتي: المصدر الإلوهيمي (يرد فيه الإله باسم إيلوهيم)، المصدر اليهوي (يرد فيه الإله باسم يهوه)، المصدر التثنوي (يبدأ من سفر التثنية وينتهي بسفر الملوك الثاني، وتُدعى بالأسفار التاريخية)، المصدر الكهنوتي (المصدر الذي يضم الجزء الباقي المتعلق بالتشريعات والأمور الكهنوتية). أورد فلهاوزن أن الأسفار الأولى الخمسة (التناخ) التي ظُن لزمن طويل أن كاتبها هو موسى نفسه لم يكتبها شخص واحد ولم تدون في نفس الفترة، بل أن كل منها له خلفيات وأهداف مختلفة.

الأيديولوجيا التوراتية تحت مجهر التاريخ

على ضوء الأبحاث الحديثة للاتجاه الراديكالي تراجعت المدرسة المحافظة كثيرًا في غاياتها في إثبات تاريخانية كل العصور، وانحصر الخلاف بالتدريج بين المدرستين في عصر صعود مملكتيّ السامرة (إسرائيل) ويهودا، وحول وقت التدوين، لكن الاكتشافات الحديثة جعلتهم يتفقون حول عدم تاريخانية عصريّ الآباء والمملكة الموحدة، بخلاف النقش المكتشف في بيت دان المكتوب عليه "بيت داود" والذي لا يحمل أي أهمية حول تاريخانية شخصية داود. كونه من المحتمل أن هناك زعيم لقبيلة في تلك التلال باسم داود، لكن الأكيد أن داود هذا لا يتماس في أي شيء مع داود التوراتي لما قدمته التنقيبات الأركيولوجية من أسباب، ومن المرجح أن المحرر التوراتي استخدم الاسم فقط، بالأخص أن ممثل الجانب المحافظ الحديث إسرائيل فلكنشتاين لا يختلف حول أن التاريخ التوراتي هو تاريخ هويّاتي أيديولوجي، فالنقاش حول وجود تاريخي لشخص اسمه داود مجرد عبث لن يفيد في مجرى البحث.

يقول إسرائيل فلكنشتاين بصلاحية مقولة أن التاريخ التوراتي هو تاريخ هويّاتي أيديولوجي

يصر إسرائيل فلكنشتاين في مناطق متفرقة من كتابه "التوراة اليهودية مكشوفة على حقيقها" أن مطلع العصر الحديدي أتى ببداية تكوّن ثقافة مختلفة عن الثقافة الكنعانية، لكنه يناقض كثير من الأدلة الأركيولوجية والتاريخية التي يوردها هو نفسه. في أحد المقاطع يورد نص من سجلات سرجون الثاني التي تحكي عن كيفية استيلاء آشور على إسرائيل، ومما ذكره من ضمن الغنائم هو سبي آلهتهم، مما يشير إلى الجو التعددي الذي ينتمي إلى ثقافات الشرق القديم، والتماثيل العشتارية المكتشفة في العديد من المواقع التي تشير إلى آلهة كنعانية، على الأرجح أن يهوه هو بعل تحت مسمى آخر وقد تم تحوير صفاته على يد عزرا ونحميا ليصبح إله توحيدي شمولي متماشي مع مخططات الثقافة الفارسية التي أعادت إحياء يهودا بعد السبي تحت اسم يهودا أو مقاطعة اليهودية، وكذلك تشير كل القرائن إلى استمرار الثقافة الكنعانية بشكل واضح كما تتبعه فراس السواح في كتابيه  "آرام دمشق وإسرائيل" و"تاريخ أورشليم"، إن كان هناك أي فرصة لصعود ثقافة مختلفة فهذا بالتأكيد لم يحدث قبل القرن الثامن على أقصى تقدير. لكن يظل الخلاف الأكبر حول من كتب التوراة، ومتى؟

متى كتبت التوراة؟

للباحث التوراتي في جامعة جورجيا الأمريكية ريتشارد إليوت فريدمان، المنتمي إلى مدرسة فلهاوزن، كتاب بعنوان "من كتب التوراة؟"، وبالرغم من أن سؤال "من" الذي طرحه يسعى لتحري أكبر قدر من الدقة، لكنه في الواقع غالى في الاستنتاجات بناء على البنية اللغوية دون دعم آثاري وتاريخي حقيقي في بعض الأحيان، لذلك يمكن لسؤال "متى" أن يساعدنا في تتبعه من خلال مناهج بحثية مختلفة لثلاثة باحثين: تقول لنا نظرية المصادر كما قدمها فلهاوزن وأتباعه لاحقًا بأن هناك أربع مصادر للعهد القديم وهي كما وردت أعلاه، وعلى هذا النهج كتب فريدمان كتابه المهم "من كتب التوراة؟" في محاولة منه لتقصي الأزمنة التي تم تدوين المصادر فيها ومعرفة الكاتبين. 

حُكم النص التوراتي بالتداول الشفوي لأساطير الشرق القديم، التي تم تحريرها في مرحلة  لاحقة لتتناسب مع الأيديولوجيا التوراتية

بينما يقف الاتجاه الراديكالي موقفًا سلبيًا من نظرية المصادر كما فعل توماس طومسون والباحثين المنتمين إلى نفس المدرسة مثل فراس السواح في كتابيه "آرام دمشق وإسرائيل" و"تاريخ أورشليم"، فالسواح يكتفي بالقول أن عزرا والكهنة عند تدوين التوراة في مرحلة ما بعد السبي اعتمدوا على مصادر أقدم لكن بدون أي تحديد لماهية المصادر ودون إعطائها أهمية كبيرة. هناك عدد من الباحثين ممن رفضوا  افتراض أن يكون تدوين التوراة قد تم مرة واحدة بعد السبي كما فعل إسرائيل فلنكشتاين، الذي لا يولي اهتمامًا كبيرًا لأي من المصادر سوى المصدر التثنوي، في نظر فلنكشتاين أن التوراة دونت في عصر الملك يوشيا، أي قبل السبي، وقد استمر التدوين خلال السبي وبعده أيضًا.

اقرأ/ي أيضًا: علماء آثار يتساءلون عن حقيقة علمانية إسرائيل

بنظرة فاحصة للنظريات الثلاث لا يمكن القول أن أحد هذه النظريات صحيحة مطلقًا دون الأخرى، فهناك بعض الإشكاليات البحثية والنظرية في هذه النظريات وافتراضاتها يعود مردها إلى:

المصدر الإيلوهيمي والمصدر اليهوي 

من أجل فهم هذه المصادر بنظرة صحيحة يجب إدراك الحالة الدينية في الشرق القديم لمعرفة أن المصادر الأقدم وهما المصدران الإيلوهيمي واليهوي منبعهمها الأصل هي ديانات الشرق القديم، بينما يقف فريدمان على أوقات تدوينهم والخلفيات المؤسسة كما مرحلة ضمها سويًا بعد سقوط السامرة والمملكة الشمالية بأكملها، وحدد وقت تدوينها في القرنين التاسع ق.م (إيلوهيمي) والثامن ق.م (يهوي)، لكن في هذا التدقيق ما يثير الشك حول كتابات فريدمان لأنها تعتمد على النقد النصي غير مصحوبة بدقة تاريخية وأركيولوجية (آثارية) كبيرة، فالكاتب وقع في مغالطات تاريخية عديدة عبر الكتاب. 

الأركيولوجيا لا تقول كل شيء، والنقد النصي يظل غير كافٍ للبت في المسألة التوراتية برمتها، ليبقى ضلع ناقص قد يُكتشف مع الوقت

كان المرجح  في هذا العصر هو التداول الشفوي لأساطير الشرق القديم، ثم تم تحريرها في مرحلة  لاحقة لتتناسب مع الأيديولوجيا التوراتية، وهذه المرحلة كانت بعد سقوط السامرة (إسرائيل) بالنسبة لفريدمان، وفي القرن السابع في عهد يوشيا بالنسبة لفلنكشتاين، وما بعد السبي بالنسبة للسواح.

 بالنظر إلى ما وقف عليه فراس السواح في العديد من كتبه في مقارنات الأديان أو في تقصيه الظاهراتي لأديان الشرق القديم، بالإضافة للدراسة المقارنة التي قدمها خزعل الماجدي في كتابه أنبياء سومريون ويُرجع فيها أصل جيل الأباء العشرة الأوائل من آدم إلى نوح إلى ملوك سومريون، وغيرها من كتابات علم الأديان، يتضح أن منبع هذه الأساطير من الشرق القديم. لكن إمكانية الجزم بوقت تدوينها داخل العهد القديم، وقد كان هناك العديد من التقابلات النصية التي أجراها فريدمان في بيان اختلاف المنبع الديني والاجتماعي في المصدرين. بل يمكن العثور على نفس القصة بطريقتين مختلفتين، كل قصة يمكن فصلها عن الأخرى وجعلها وحدة مستقلة بنفسها، مثلما عرض في قصة الطوفان وغيرها. (1)  من خلال النقد النصي وصل فريدمان إلى العديد من التقابلات بين المصدرين اليهوي والإيلوهيمي على المستوى الاجتماعي الكهنوتي والمكاني، لكن هذا لا يقطع بوقت التدوين. فنظريتيّ فلنكشتاين عن التدوين في ما بعد عصر يوشيا، وفراس في التدوين ما بعد السبي، أكثر تماسكًا واتساقًا مع الأركيولوجيا والتاريخ مما أورده فريدمان. 

لذلك من الشرعي التساؤل عن الكيفية التي أتاحت لفريدمان القول باختلاف يهوه عن آلهة الشرق القديم بينما يخبرنا علم الآثار وعلم الأديان بعكس ذلك، فيهوه هو تحوير لبعل الكنعاني، ااستخدم الاسم في بعض القبائل في العصر الحديدي كمعادل موضوعي لبعل، كما اقترن اسم يهوه مبكرًا باسم زوجته عشيرة أو عشتاروت أو تانيت، وهي الإلهة التي اقترنت ببعل أيضًا، أيضًا اقترن اسم يهوه لاحقا بسارية.(2) مما يشير بدوره إلى قدم المصدرين بالفعل، لكن مع الاختلاف مع فكرة تدوينهما بعد سقوط السامرة/مملكة شومرون، والقول بانتماء الأساطير إلى العالم القديم وليس إلى جماعة جديدة متمايزة، وتم استخدام هذه الأساطير لبناء النص الديني التوراتي لاحقًا.

المصدر الكهنوتي 

عند الانتقال إلى بحث فريدمان عن كاتب المصدر الكهنوتي ووقت كتابته يبدو ما أولاه من اهتمام كبير وإرجاع لوقت تدوينه إلى القرن الثامن ق.م، أي في عصر حزقيا، إذ وقف فريدمان على عدد من الاختلافات بينه وبين كل من المصادر الثلاثة، الإيلوهيمي، اليهوي، التثنوي. ويركز على ذكر بعض التقابلات بين الاثتين:

الانتصار لهارون لإبراز شأنه (كهنوتي، يهوي)/التركيز الأكبر على موسى (تثنوي، إيلوهيمي)- إعلاء شأن سليمان (كهنوتي، يهوي)/ تركيز أكبر على شخصية داود (تثنوي، إيلوهيمي)-  دون في عهد حزقيا (كهنوتي)/دون في عهد يوشيا (التثنوي، مع سيره على خطى المصدرين الإلوهيمي واليهوي)- كهنة من أبناء هارون من كتبوه (كهنوتي)/كتابة أرميا (تثنوي) كتبه كهنة من شيلو (إليوهيمي)  مؤلف مجهول من يهودا (يهوي).

كان هذا في تفصيل حديثه عن لماذا المصدر الكهنوتي واليهوي أكثر انتصارًا لهارون وسليمان وحزقيا من المصادر الأخرى التي تتبنى الجانب الآخر، ما يرجع إلى انقسام كهنوتي داخل القبائل نفسها وعلو شأن كهنة موسى عن كهنة هارون في هذا الوقت.

لكن بنظرة أكثر تمهلًا يتضح أن الاختلافات بين المصدر الكهنوتي والمصادر الأخرى أعمق من هذا الحد، إذ تتضح هذه التقابلات الهامة: عقيدة سماوية (كهنوتي)/ عقيدة أرضية (إيلوهيمي-يهوي- تثوي)- إله ذو خصائص تجريدية (ك)/إله ذو خصائص وثنية (إ. ي. ت)- توحيدي (ك) /تفريدي (إ. ي. ت)- إله شمولي عالمي (ك)/ إله قبلي (إ. ي. ت)، إله تغلب عليه الرحمة (ك)/ إله مدفوع بالغضب.

تتناسب خصائص المصدر الكهنوتي للنص التوراتي كلها أكثر مع بيئة أورشليم العصر الفارسي والدين  والسياسة الفارسية التي سعت إلى توحيد الجميع تحت راية إله واحد في خصائصه

بالرغم من قدرة فريدمان على التقصي وتحديد أوقات تدوين المصدر الكهنوتي ومنطقيته، إلا أن خصائص المصدر الكهنوتي كلها تتناسب أكثر مع أورشليم العصر الفارسي والدين  والسياسة الفارسية التي سعت إلى توحيد الجميع تحت راية إله واحد في خصائصه، تتشابه مع إله السماء أهورا مازدا.(3)  وهذا يوضح الجزء الثاني من التقابلات التي عرضتها في خصائص المصدر الكهنوتي من كونه أكثر دلالة على عقيدة  سماوية توحيدية وشمولية نظرتها للإله الرحيم تجريدية وليست تجسيدية، كما سعى الفارسيين إلى ترك هامش قليل جدا باحتفاظ كل ديانة باسم إلهها القديم وبعض سماته الأولى. 

اقرأ/ي أيضًا: شلومو ساند وديناصور الشعب اليهودي

لم يكن عزرا والكهنة معه بعد السبي (القرن الخامس ق.م) مجرد محررين للمصادر أضافوا بعض التشريعات كما قال فريدمان، بل يبدو أن دورهم أكبر من مجرد الجمع، وإذا كان انتصار المصدر الكهنوتي لهارون وأبناءه أكثر كما لاحظ فريدمان في المصدر الكهنوتي وبرهن عليه من خلال الحالة الدينية والسياسية وقتها، فهذا أيضًا لا يثبت انتماءه للقرن الثامن، لأن عزرا أيضا كان من كهنة هارون.

المصدر التثنوي

أما عن المصدر التثنوي فقد حدد فريدمان وقت كتابته في القرن السابع ق.م في عصر الملك يوشيا، نجد أن التثنوي بأغراضه السياسية والاجتماعية هو الانطلاقة الحقيقية للتوارة كما وصف فلكنشتاين، بينما رأى فريدمان أنه استلهم المصدرين السابقين وسار على نهجهم في محاولة لبلورة مفهوم كل إسرائيل من خلال تجذير تاريخ خاص بهم ينطلق من داود ووعد داود للرب بسيادة أهل بيته، وهو ما يعلي من شأن يهودا في مقابل السامرة (إسرائيل) ويؤيد وحدة العبادة المركزية في هيكل أورشليم.

تبقى نظرية التاريخ التثنوي للنص التوراتي هي الأكثر منطقية وترابطًا من نظريات المصادر لكن الجزم بحقيقة الفرضية ليس سهلًا ولا نهائيًا

يستعير فلكنشتاين نظرية مدرسة فلهاوزن عن التاريخ التثنوي لكنه يخضعها لشكل أكثر ترابطًا بالمستجدات التاريخية والأركيولوجية، وقد أدرك صعوبة هذا في كتابه لأن الأركيولوجيا لا تخبرنا الكثير عن عصر يوشيا، لذلك كان لابد من التوفيق بين المقاربة النصية والتاريخية.

وبالرغم من أن نظرية التاريخ التثنوي هي الأكثر منطقية وترابطًا من نظريات المصادر لكن الجزم بحقيقة الفرضية ليس سهلًا، فبعض الأمثلة التي أوردها فريدمان في كتابه لا تجزم بشيء. عندما يتم النظر مثلًا على قوله أن العهد المقطوع بسيادة نسل داود لابد أنه كتب قبل سقوط يهودا والسبي البابلي أي في عهد يوشيا لأنه من غير المعقول أن يورد المحرر هذا العهد بعد سقوطها، فإن هذا لا يعد دليلًا على شيء، بل على العكس تعد الفرضية الأكبر أن هذا الإصرار من قبل المحرر لإيراد هذا العهد كان بسبب استقرار حالة يهودا مرة أخرى ما بعد السبي واستقرارها، دلالة أن عهد الرب إلى داود مستمر مهما حدث كونه وعدٌ أبديّ. وقد حاول فلكنشتاين رؤيتها من منظور أن ما عمله منسي من الشر في عين الرب جعل من قرار إبادة يهودا حتمية، وهكذا أيضًا يستمر الميثاق أيضا بعودة يهودا مرة أخرى.

في مرة أخرى عندما يتحدث فريدمان عن أن قراءة الشريعة على الملأ التي أوصى بها موسى وقام بها يوشيا من القرائن التي تدل على أن التاريخ التثنوي دُوِّن في عهد يوشيا فهو يتغاضى النظر عما قاله في الفصل اللاحق في كتابه عن أن عزرا أيضًا قام بهذا بعد السبي عندما عاد بشريعة موسى، وهذا أيضًا يضع احتمالية أنه لم يُدوَّن في زمن يوشيا على يد إرميا أو كاتبه، بل في الفترة الفارسية على يد عزرا، وهو ما يتتبعه السواح بدقة في تاريخ أورشليم. 

هناك قرينة أخرى متماسكة تمامًا إذا نظرنا لها من جانب النقد النصي عند فريدمان وهي أن النص ذكر يوشيا بشكل صريح قبل فترة حكمه بقرون، وتنبأ بولادته وأنه سيكون ملكًا صالحًا كما يحب الرب، لكن هذه النقطة وإن كانت متماسكة نصيًا لكنها لا تدل على أن زمن التدوين كان في عصر يوشيا، يمكن لأي شخص أن يقيم هذا الترابط عند كتابة النص في أي زمن.  

كما أن قسوة الحياة في المنفى على أهل يهودا ليست دليلًا أن بعض أسفار الأنبياء دوّنت أثناء السبي، لكن فريدمان يبالغ أيضًا في هذا مع تجاهل أن بعض أهل يهوذا قرروا البقاء في بابل أثناء العودة من السبي. إن أسفار الأنبياء بكل ما تحمله من حديث في المنفى وقبله لا تدل على وقت التدوين.

عُرفت الفترة التي دُوِّن فيها التاريخ التثنوي بأنها مرحلة تطهير وإصلاح، وتصف الأدبيات التوراتية إصلاحات يوشيا التي شملت كل يهودا وتوسعاته في الأراضي الشمالية، لكن الاكتشافات الأركيولوجية تخالف ما ورد، إذ يقدم فلنكشتاين بازدواجية آراءه  حيرة بادية، بحسب ما أورد في كتابه  بأن التنقيبات الآثارية كشفت عن وجود دمى عشتارية في أراضي يهودا نفسها في أثناء فترة الإصلاح الديني والتطهير، وعن تماثيل لشخص يمتطي فرسًا لها ما يشابهها تعود للقرن الثالث عشر قبل الميلاد،(4) والمفترض أن هذه الاكتشافات تقع دائرة حكم يوشيا، وقد رسم فلنكشتاين الحدود التي قدمتها علم الآثار والتاريخ عن توسع يوشيا المزعوم لينفي حدوث مثل هذا التوسع، لكن هذه الدمى والترسيم الجغرافي لحدود حكم يوشيا تشير أن حكم يوشيا وغيره من حكام يهودا لم يكن كما صوره النص التوراتي مكرسًا لنصرة يهوه، لأن من الصعب أن تكون يهودا بدورها الوارد في سجلات بابل وآشور القرن السابع والثامن ق.م مجرد قرية صغيرة  لا حول لها ولا قوة، لكن فكرة أنها قوة مؤثرة يعني أننا سنقف موقف شك من نظرة فلنكشتاين هنا بسبب اعتمادها عن النص المتناقض مع ذاته، يضعنا فلكنشتاين في حيرة ويجعل نظرياته عن التاريخ التوراتي غير متناسقة أحيانا مع النتائج الأركيولوجية لأنه اعتمد بشكل كبير جدًا على النقد النصي في هذه الجزئية. وبالرغم من صعوبة القطع بآراء المدرسة الراديكالية حول انتماء يهودا ما قبل السبي ،كما كانت السامرة (إسرائيل)، إلى الثقافة الكنعانية لكن تبدو هذه النظرة أقرب للوقائع الورادة.(5) 

وبالرغم من منطقية القول بأن أسفار المصدر التثنوي (التثنية، يشوع، القضاة، صموئيل الأول، صموئيل الثاني، الملوك الأول، الملوك الثاني) دُوّنت في عهد يوشيا بسبب الحالة الاجتماعية والسياسية والتشابه بينهم، والتشابه الذي تتبعه فلنكشتاين بين حكايات عصر الآباء مع يهودا القرن السابع ما يدل على انتماءها لهذه المرحلة،  إلا أن من الصعب القبول بها بشكل كلي للأسباب التي وضحتها، مما يجعل من نظرية المنهج الراديكالي أكثر اتساقًا مع ذاتها، ليكون الحد الفاصل في النهاية بين نظريتين تتسم كل منهما بالجدية والمنطقية هو غلبة الأكثر اتساقاً، لكن تظل هناك صعوبة في الجزم بأي نظرية منهم، فالأركيولوجيا لا تقول كل شيء، والنقد النصي يظل غير كافٍ للبت في المسألة، ما زال هناك ضلع ناقص قد يُكتشف مع الوقت.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

الملك ديفيد المهووس بأجساد الفلسطينيين وأعضائهم!

نتنياهو و"أبناء إسماعيل".. السعودية والإمارات مع إسرائيل مرة أخرى


1. ريتشارد إليوت فريدمان، من كتب التوراة؟، ص 48 وما بعدها

2. فراس السواح، آرام دمشق وإسرائيل

2. فراس السواح، تاريخ أورشليم، ص234 وما بعدها

4. إسرائيل فلنكشتاين، التوراة اليهودية مكشوفة على حقيقتها، ص345

5. قارن التتبع بالنقد النصي ما بين (السواح، آرام دمشق وإسرائيل) و(فلنكشتاين، التوراة اليهودية مكشوفة على حقيقتها) ومدى ترابطه بالنقد الأركيولوجي والتاريخي عند كلا منهما.