04-ديسمبر-2015

من صفحة عدسة شاب حمصي في فيسبوك

تخامرني رغبة شديدة في تعلم العزف على البوق منذ صغيري، غير أن تلك الرغبة اصطدمت بحاجز كبير في الصغر وهي إصابتي بالربو لسبب لا يعلمه إلا من عاش في مدينتي حمص السورية، التي يحدها من الغرب مصفاة عجوز لتكرير النفط، ومن الجنوب "معمل أشيب للسماد الآزوتي"، ومن الشرق معامل الفوسفات، ومن الشمال مدينة ملوثة النهر ومدمرة الأحياء تسمى حماة.

الكبت القهري يلازم كل من يضطر لتحمل رفسات المخبرين وصفعات رجال البوليس

ثم إنني حاولت أن أعالج ذلك المرض الذي يسبب ضيق الصدر وصعوبة في التنفس بعدة طرق، ولم أترك ابن سينا لينعم في قبره، ولا ابن حيان ليرتاح في سباته، ولا ابن النفيس ليهدأ في رقدته الأبدية، ولاحقت أبا بكر الرازي وقرأت كتابه العظيم "الحاوي" الذي دُرِّس في كلية الطب في باريس حتى عام 1394 لعلني أجد علاجًا لمشكلتي، وحفظت الكثير من وصفات علاج وجع القلب والرأس والبطن وتدلي البواسير وأسباب تكوّن الغازات والنفخات، وأدركت أن مقولة جدنا أبي بكر الرازي: "إذا كان في استطاعتك أن تعالج بالغذاء فابتعد عن الأدوية، وإذا أمكنك أن تعالج بعقار واحد فتجنب الأدوية المركبة" صحيحة تمامًا، فحاولت اتباعها غير أن تلك الفترة من تاريخ بلدي كانت مليئة بالمصاعب، فقلّ الغذاء وبات حلمًا أن يأكل المواطن موزة أو تفاحة، وطبعًا يعرف الجميع أن ذلك حدث بسبب الحصار الاقتصادي الذي فرضه الغرب الكافر بقيادة إنجلترا ورئيسة وزرائها مارغريت تاتشر، ضد مواقف الصمود ومجابهة الإمبريالية والرأسمالية العالمية التي تبناها قائد بلدي حينذاك حافظ الأسد، ولو أدت لموتنا جوعًا واختناقًا، ولكن بكرامة وجبهة مرفوعة على الرأس وآمنة على الجولان المحتل.

فشلت محاولاتي كلها في تلقي العلاج العربي القديم وأعذر أجدادي على ذلك قبل أن ألجأ إلى الطب الحديث، حين سمعت أن الغرب الكافر المتآمر دائمًا على عروبتنا وأوطاننا وصدورنا قد نجح بإنتاج دواء مهدئ لهذا الداء فاسترحت قليلًا بعد أن أمنت طريقة ما لتهريب الأدوية لي من الخارج، لأن دخولها للبلد  كان ممنوعًا، ربما كان المنع ضروريًا كي لا تتفتت جبهة التصدي للصهيونية العالمية والمؤامرات الكونية التي ما زلنا نعاني منها حتى الآن كما يقولون.

غير أن حلمي في العزف على البوق قد تحطم مجددًا حين انتشرت ظاهرة التبويق لصالح الأنظمة العربية المتساقطة بفعل الربيع العربي، فصار كل مناصر لتلك الأنظمة يظهر على محطة تلفزة ما ليساند ديكتاتورًا يسمى بالبوق، ولا أدري فعلًا سبب تلك المقاربة لأنني أجد في البوق آلة موسيقية رائعة الصوت ومثيرة للوجدان، غير أن البعض قال لي إن ذلك يعزى لاستخدامها عادة في حفلات التشريف التي تقام لاستقبال الرؤساء.

تحطم حلمي في العزف على البوق حين انتشرت ظاهرة التبويق لصالح الأنظمة العربية المتساقطة

الآن وبينما أتلقى علاجًا للربو بسبب تلوث بلادي، وعلاجًا للقلب بسبب خوفي الشديد قرابة ثلاثين عامًا من اقتراف أي خطأ قد يوهن نفسية الأمة العربية، وقد يتسبّب لي بالسجن والتعذيب لأكون عبرة لكل من لا يعتبر، وبينما أتماثل للشفاء من أمراض الغدة الدرقية واختلال الهرمونات الناجم عن العصبية الشديدة المزمنة، والكبت القهري الذي يلازم عادة كل من يضطر لتحمل رفسات المخبرين وصفعات رجال البوليس الملائكيين في بلاد التصدي للصهيونية والإمبريالية، حين ينجز عرضًا مسرحيًا تتخلله كلمات ككلمة "حرية"، أو تعبير غريب كتعبير "كرامة المواطن".

أغلق التلفاز في غرفتي الأوروبية المتآمرة، كي لا أسمع وأرى أي بوق يمجد حذاء قائد قاتل كالعادة على كل محطات التبويق والتطبيل، التي تقلب الحقائق رأسًا على عقب، فتصبح الهزائم انتصارات والنكسات أعيادًا، والخراب حركاتٍ تصحيحيةً والموت استشهادًا، ويصبح حلم المواطن "أن تعود أخته الساعة الثالثة ليلًا بأمان للمنزل".

أترك كل ذلك خلفي وأنزل لأتمشى في حديقة خضراء للاستشفاء في بلد أوروبي على عكازين، بجانب سيدة بلغت من العمر الثمانين، فتسألني عن عمري وأجيب بأنه ما يقارب نصف عمرها، بينما يعزف على ناصية الشارع المقابل لنا فرقة كاملة من موسيقيي الأبواق الرائعين، أبواق الجمال والفرح والتشريف، حين يعلن الوقت حلول الربيع مع ظهور أول الزهور.

اقرأ/ي أيضًا:

مارلين مونرو وقميص عثمان

سيدة المقالات