24-ديسمبر-2021

(Getty Images)

في سرده لوقائع الحروب البيلوبونيسية خلص ثوسيديدس إلى أن الحرب كانت نتاجاً لتنامي قوة الأثينيين مما بعث الخوف في قلب اسبارطة. في مقال " فخ ثوسيديدس" الشهير (Thucydides's Trap) الذي نشر في عام 2015، حاول غراهام أليسون استبيان مدى نجاعة هذه المقاربة في وصف العلاقات بين الولايات المتحدة والصين. وصف غراهام في ذلك المقال ستة عشر حدثاً تاريخياً تزعزعت فيه مكانة القوة المسيطرة بفعل ظهور متحدٍ صاعد، وفي اثنتي عشرة حالة منها انتهى المآل بهذا التحول إلى الحرب.

 الهروب من "فخ ثوسيديدس" على حد وصف غراهام أليسون يتطلب جهوداً جبارة، تفاديًا لحصول المواجهة بين القوة السائدة والأخرى الصاعدة

تكرار هذا الأمر اليوم ليس شيئاً حتمياً، لكن الهروب من "فخ ثوسيديدس" على حد وصفه يتطلب جهوداً جبارة. لقد خضع تحليل جراهام لقراءة معمقة في واشنطن وبكين. مع ذلك فإن علاقة البلدين في السنوات الخمس الماضية تدل على أن من يعتبرون بعبر التاريخ قلة قليلة. تحت حكم شي جين بينغ أصبحت الصين في نظر كثيرين، أشد اندفاعاً وحضورًا في الخارج وأكثر تحكمًا وضبطًا في الداخل. وفي عهدي ترامب وبايدن تحولت الولايات المتحدة عن إيمانها التاريخي بأن إدماج الصين في النظام العالمي الذي تقوده أمريكا أمر ممكن، إلى شيء أقرب إلى الاحتواء المشبوب بالشك تجاه المؤسسات الصينية وخوف مجمع عليه في الداخل الأمريكي بأن هيمنة الولايات المتحدة على العالم آيلة إلى الزوال.

هذه العدائية المتنامية قد أحدثت بالفعل كثيرًا من الضرر، ابتداء من حرب التعاريف الجمركية إلى التوتر المتزايد حول تايوان. وقد أعاقت هذه العدائية إمكانية تنسيق استجابة عالمية لجائحة كوفيد 19 والتغير المناخي. وللأسف، على الرغم من سوء الموقف في الوقت الحالي، قد يزداد سوءًا في السنوات المقبلة. العالم ما بعد الجائحة مشبوب بالمنافسة العدائية، ولا يتعلق الأمر فقط بالقوة النسبية لكل طرف، بل بالسعي الوجودي لكل طرف إلى إظهار تفوق نظامه السياسي ومنظومة الحكم فيه. 

وصف بايدن الموقف على هذا النحو قائلاً إن الأنظمة الديمقراطية الغربية في منافسة محمومة مع الحكومات الاستبدادية حول نظام الحكم الأفضل، في عالم سريع التغير في القرن الواحد والعشرين. وجاء وصف شي جين بينغ مشابهًا وهناك من الأدلة ما يكفي على حد وصفه للتأكيد على أن السيطرة الشمولية للدولة خير من النظام الديمقراطي الغربي المعطوب. وقد دأب المسؤولون الصينيون في السنوات الأخيرة على تكرار مقولة "الشرق يصعد والغرب ينحدر". ستعزز الأحداث العالمية في عام 2022 هذه الرؤية. ابتداء من الأولمبياد الشتوية في فبراير، وصولاً إلى المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي الصيني، ستحاول الصين هندسة مجموعة من الأحداث والفعاليات المنظمة التي تدلل على كفاءتها وأهلية نظامها والتي ستتمحور كلها حول إظهار مدى تفوق نظام الحزب الواحد وسترسخ مكانة شي على رأس الحزب متجاوزًا بذلك مدة العشر السنوات التي كانت قاعدة سائدة في الحزب فيمن سبقه.

شي جين بينغ.. الرجل المطاع

سيفعل الحزب كل ما بوسعه لمنع الاضطراب أو المعارضة بأي شكل. فعلى سبيل المثال اتخذت الصين احتياطاتها لدرء نشوب أية احتاجات من مواطني الدول الديمقراطية في الأولمبياد الشتوية ضد معسكرات "إعادة التثقيف" في مقاطعة شينجيانج، فرضت الصين نظام فقاعات تباعد اجتماعي صارم تحت دعوى مواجهة فيروس كورونا. على المستوى المحلي ستواجه أي اعتراضات على حكم شي المطلق بدون حد زمني بحملة قمع وحشي. سيحتفل المسؤولون ببزوغ عهد جديد يسيطر فيه شي على الحزب للمدة التي يريدها. 

في المقابل على الجانب الغربي من الكوكب ستكشف النظم الديمقراطية الغربية عن الفوضى التي تتخبط فيها. ستشهد أوروبا شتاء قاسيًا بسبب نقص إمدادات الطاقة وارتفاع الأسعار قد تصل إلى انقطاعات في التيار الكهربائي مما سيغضب الناخبين ويفزع السياسيين. في فرنسا تتحول الانتخابات الرئيسية إلى مشهد قبيح ملؤه الأخبار الشعبوية والديماغوجية بقيادة إريك زمور، صحفي يميني متطرف معاد للمهاجرين يحاول أن يصور نفسه في مقام ترامب فرنسا. في النهاية يبدو أن ماكرون سيعاد انتخابه بسبب انقسام أصوات اليمين، لكنها ستكون حملة انتخابية مليئة بالكراهية والحروب الثقافية ولن تكون خير دعاية للنظام الديمقراطي.

وأكبر خيبات الأمل ستمثلها أمريكا نفسها. سنوات التجديد النصفي هي سنوات يقل فيها الانجاز التشريعي في الكونغرس ويخسر الحزب الذي يشغل مرشحه مقعد الرئاسة في البيت الأبيض بعض المقاعد. سيكون عام 2022 مثالاً صارخًا على هذا المسار. حتى لو تمكن بايدن من تمرير نسخة من مشروع إعادة بناء البنية التحتية والنفقات الاجتماعية، سيبدأ عام 2022 بانخفاض في شعبيته بسبب ارتفاع معدلات التضخم ونقص المؤن. ومع فرق ثمانية مقاعد في مجلس النواب وتقاسم الحزبين لمجلس الشيوخ، يواجه الديمقراطيون خطر خسارة سيطرتهم على كلا المجلسين. ويسعى الحزب الجمهوري الذي تبنى سردية ترامب عن سرقة انتخابات عام 2020 إلى تغيير القوانين في الولايات العديدة التي يسيطر على مجالسها النيابية ليقلب نظام الإشراف على الانتخابات لصالحه. 

ومع تقدم اليوم من المؤكد أن ترامب سيكون مرشح الديمقراطيين لعام 2024 مما يعني أن النقاش السياسي في أمريكا ستسيطر عليه مخاوف نشوب أكبر أزمة دستورية في البلاد منذ الحرب الأهلية. خارج أمريكا، أولئك الذين ظنوا أن ترامب مجرد حالة شاذة ستصعقهم إمكانية عودته.

إذا كان المسرح السياسي يجعل النظم الديمقراطية الغربية تبدو معطوبة مقارنة بالنظام الصيني، فإن عام 2022 قد يقدم حكمًا مختلفًا على صعيد الإدارة الاقتصادية. تتبع الصين والولايات المتحدة مسارات مختلفة تمامًا في إدارة مرحلة ما بعد الجائحة والتعامل مع شركات التقنية العملاقة. وللمرة الأولى منذ سنوات يبدو أن الصين سترتكب أخطاءً أكثر من الولايات المتحدة.

بدأ شي حملة شعواء لا هوادة فيها ضد الشركات الرأسمالية العملاقة محا فيها 1.5 ترليون دولار من ثروات حاملي أسهم تلك الشركات، وفرض قيودًا مشددة على بعض القطاعات التقنية ابتداء من ألعاب الفيديو وصولاً إلى التدريس المنزلي الخاص، الذي عد خرقًا لمبدأ "الرفاه المشترك". في الولايات المتحدة ستؤدي ثورة المشرعين ضد تأثير فيسبوك إلى ما هو أكثر من جلسات استماع في الكونغرس. لكن قوى السوق ستكون أكثر فعالية في إحداث التغيير، حيث يبحث المستهلكون الشباب عن منصات جديدة، في حين بدأت شركات التقنية العملاقة في تجاوز حدود تخصصات وأسواق بعضها البعض.

ستتحول الولايات المتحدة وبقية الغرب إلى عقلية التعايش مع كوفيد. لن يختفي المرض لكنه سيتوطن. وستصبح جرعات اللقاح المعززة أمرًا سائدًا، وستخفف قيود السفر وسيصبح الإغلاق العام ذكرى من الماضي. في المقابل ستلتزم الصين بسياسة الصفر كوفيد حتى نهاية عام 2022. فبعد أن بثت الرعب في قلوب مواطنيها تجاه خطورة المرض لن تغير الحكومة الصينية مسارها بسهولة. ستظل البلاد معزولة عن بقية العالم وستظل تفرض فترات عزل صحي طويلة وقيود سفر مشددة. وفي الحالتين سيؤدي النهج المتشدد بالصين إلى الإضرار باقتصادها. ستؤدي الضبابية التشريعية والحملة ضد أنجح الرأسماليين في البلاد إلى تخويف الشركات الناشئة وستعوق الابتكار. واتباع سياسة صفر كوفيد في عالم أصبح فيه الفيروس متوطنًا سيفرض على الصين فرض إغلاقات عامة تعطل اقتصادها.

سيؤدي كل ذلك إلى زيادة تعقيدات منظومة الاقتصاد الكلي الصينية.

منذ سنوات، انتابت مراقبو الشأن الصيني مخاوف بشأن عواقب تراجع الطفرة الهائلة التي شهدها مجال العقارات ومستويات الدين الهائلة التي راكمتها. الأزمة التي تواجهها شركة التطوير العقاري العملاقة إيفرجراند تبين عن هذا التحول. وستستمر الأزمة في عام 2022 الذي سيشهد فشل الشركات العقارية الأخرى. أضف إلى ذلك بعض الأزمات البنيوية مثل انكماش حجم القوى العاملة في البلاد وزيادة أعداد كبار السن المحتاجين للإعالة. قد يؤدي ذلك إلى انكماش معدل النمو السنوي إلى 5%. تباطؤ النمو الاقتصادي في الصين سيلقي بظلاله على الاقتصاد العالمي بأجمعه. لكن هذه الأزمة ستؤدي إلى تخفيف حدة مشكلة الركود والتضخم التي تواجه منظومة الاقتصاد الكلية الأمريكية بسبب تناقص أسعار السلع. سيسمح هذا لوزارة الاحتياطي الفيدرالي بتخفيف سياساتها لمدة أطول. مع تجاوز أزمة كوفيد.

ستحتل أخبار الأداء السياسي والاقتصادي المختلفين عناوين الأخبار في العام القادم. لكن ألن يؤدي ذلك إلى تقويض احتمالية بذل الولايات المتحدة والصين للجهود الجبارة اللازمة لتحسين العلاقات فيما بينهما؟ ليس بالضرورة. قد تدفع أزمات الاقتصاد المحلي الرئيس الصيني إلى تحسين العلاقات التجارية مع الولايات المتحدة، في حين قد يسعى بايدن المحاصر في الداخل إلى تحقيق إنجاز في السياسة الخارجية قبل انتخابات التجديد النصفي. نظرياً بإمكان الطرفان تحقيق تقدم في الكثير من المجالات، مثل الوصول إلى اتفاق يلائم الطرفين في مسألة التجارة والتقنية ليحل محل التعريفات الجمركية التي فرضها ترامب، أو الوصول إلى تفاهمات مشتركة في مسائل الأمن السيبراني أو الحد من انتشار الأسلحة النووية أو تسليح الفضاء أو إيجاد وسائل لتسريع استخدام التحول لاستخدام الطاقة النظيفة في أعقاب قمّة المناخ الأخيرة في غلاسكو.   

أحد أوجه الاتفاق القليلة التي تحظى بالإجماع في الولايات المتحدة التي يمزقها الاستقطاب السياسي هو النهج المتشدد تجاه الصين

للأسف، احتمال حدوث ذلك ضئيل للغاية. أحد الأشياء القليلة التي تحظى بالإجماع في الولايات المتحدة التي يمزقها الاستقطاب السياسي هو النهج المتشدد تجاه الصين. لن يخاطر بايدن بمنح الفرصة للجمهوريين بانتقاده بسبب عقده لاتفاقات مع الصين مهما كانت درجة ملاءمتها. والصين التي ترى في الرئيس بايدن شخصية تقليدية في نظام سياسي معطوب ستطلق على الأرجح حملة دعاية قومية ضده لتشتيت الأنظار عن فشلها الاقتصادي الداخلي. الخبر السار أن احتمال المواجهة العسكرية ضئيل في عام 2022. حاجة الصين للحفاظ على الاستقرار قبل مؤتمر الحزب ستردع الصين عن القيام بمغامرات عسكرية جريئة سواء حول تايوان أو بحر جنوب الصين. الخبر السيئ هو أن خطر فخ  ثوسيديدس سيظل قائماً.

 

*هذا المقال مترجم الإيكونوميست


 

اقرأ/ي أيضًا: 

توقّعات الإيكونوميست: 10 اتجاهات ستؤثّر في وضع العالم في 2022

صعود الصين وتهديد روسيا يهيمنان على قمة مجموعة السبع في ليفربول