29-مارس-2017

متحف الصابون في صيدا (آمنة منصور/الترا صوت)

لم توصد صيدا أمام التاريخ بابها. لم تحتجب خلف التقدّم ولم تجاهر بولاء مطلق للجديد والحديث. بل شرّعت للعراقة أبوابها ونوافذها وجدرانها تستنشق أريج أشجار الليمون وعبق ما كان، وترى في ظلال حاضرها من سكنوا ماضيها، وتستحضر من مكانها عند بوابة الجنوب ما أخذه الغياب على امتداد السنوات والقرون.. وذلك لكي تحتفظ بهويتها وتحافظ على إرث دائم، هو تركة الأقدمين للأجيال القادمة.

باللهجة الصيداوية، يخبر المشرف على متحف الصابون سيرة الصابون ويقص على الزائرين "الف باء" صناعته، فتتضافر الألوان والروائح مع السرد

في السوق الشعبي الذي يجابه "ودّياً" المجمعات التجارية التي انتشرت قبل ما يزيد عن العقد من الزمن، طرقات رُصفت بطريقة "التبليط" مستعيدةً الأرضية القديمة التي كانت عليها أزقة المدينة. وهذه الطرقات تقود في ما تقود إليه لجهة البحر غربًا أو موقف السيارات شرقًا أو المحال المتنوّعة والمنتشرة في كل الاتجاهات، إلى المدينة القديمة التي تتكدّس الأبنية الحجرية فيها فوق قناطر تختفي في دهاليزها أشعة الشمس لتظهر مجددًا من الجهة المقابلة.

[[{"attributes":{},"fields":{}}]]

اقرأ/ي أيضًا: البلفيدير في تونس.. تاريخ مهمل

وفي هذا الحيّ القديم، الذي تمّ ترميمه ليجابه عوامل الزمن ويقي سكانه مخاطر التداعي دون أن يفقد بعض مبانيه تواضعه، متحف للصابون تعود ملكيته لآل عودة، يختفي هو الآخر بين القناطر وبين الحجارة المقصوبة والمرصوصة بمهارة الصيداويين عموديًا وأفقيًا.

زيارة هذا المكان في "صيدون" إن كانت متاحة من الجهة الغربية لقربه من البحر، إلا أن دخوله من جهة الأسواق متعة بحد ذاتها لوجود البضائع الملوّنة المرفوعة على واجهات المحال وبجوارها، وتنيرها الأنوار المتساقطة من علٍ. والأزقة المتوازية حينًا والمتقاطعة حينًا آخر في ما يشبه المتاهة توصل إليه عمدًا أو صدفةً، فيشكّل دخوله من بوابته الواطئة ولوجًا إلى معلوم مجهول. إلى مكان يجسّد "حرفة" طبخ الصابون وصبّه وتقطيعه وختمه ثم عرضه، دون أن يعرف بالضرورة كل زائر مسبقًا تلك المراحل ولا ما تتطلبه من جهد أو تقتضيه من فن وإبداع. فتقترن هنا بهرجة النظر والرؤية مع حلاوة الاكتشاف.

[[{"attributes":{},"fields":{}}]]

ففي أجواء حارّة بألوان الحجارة الرملية وباردة في الآن عينه وفق "نظام" التهوية الطبيعي في الأقبية، تتتابع الخطوات داخل المتحف الذي يعود بناء جزئه الأقدم إلى القرن السابع عشر على الأقل، لتبهر الأعين وتثير العقول وترسم سيلًا من علامات الاستفهام تتبعها علامات العجب والتعجّب.

المكان بإضاءته الخافتة (ولكن كافية)، ينطلق من طبقة مرتفعة تهبط منها الخطوات نحو أخرى أقل ارتفاعًا ثم نحو باحة فسيحة. نقطة الانطلاق في رحلة البحث عن الصابون كتاريخ وجغرافيا تمتد من حلب إلى نابلس، تبدأ مع الحفرة الضخمة المستخدمة لإعداد الصابون فضلًا عن الأحواض والمواد الأولية المستخدمة في التصبين. تليها نبذة عن فنون التجفيف والتقطيع، التي اتّبعها الأقدمون ويعتمدها بعض الحرفيين حاليًا، بعد صبّ "طبخة الصابون" في الألواح وتركها ساعات لتجفّ ثم استخدام العدّة اللازمة لتقطيعها ومنحها أشكالاً مختلفة.

يستعرض القيمون على متحف الصابون طقوس الحمّام وأدواته خصوصًا تلك التي لازمت الحمامات العامة التي تحافظ صيدا على وجود عدد منها

اقرأ/ي أيضًا: "مرزوكة" المغربية.. بحر الرمال وسحر الغروب

[[{"attributes":{},"fields":{}}]]

إلى ذلك يستعرض القيّمون على المتحف طقوس الحمّام وأدواته خصوصًا تلك التي لازمت الحمامات العامّة التي تحافظ صيدا على وجود عدد قليل منها في أحيائها، بالإضافة إلى أعداد تكاد للوهلة الأولى لا تحصى من قطع الصابون وبينها أشكال وألوان مختلفة وذات روائح فوّاحة.

في أقسام أخرى من المتحف، حافظ آل عودة على ما اكتشفوه داخل المتحف-القبو أثناء عملهم على إظهار هندسته الفنّية القديمة والأثرية. وذلك من خلال إظهار الأماكن المحفورة وبعض ما وُجد فيها، فيما جمعوا بعض الأدوات القديمة المكتشفة في المكان عينه كالغلايين والزجاجيات والفخاريات.

باللهجة الصيداوية المحبّبة، يخبر المشرف على المتحف سيرة الصابون، ويقصّ على الزائرين "ألف باء" صناعته، فتتضافر الألوان والروائح مع الأبجدية على السرد والتعريف.

[[{"attributes":{},"fields":{}}]]

اقرأ/ي أيضًا:

جزائر الأبواب الخمسة

سوق حمّام الضّلعة في الجزائر.. طقوس الجماعة