20-أغسطس-2020

وجيه كوثراني وكتابه

استكمالًا لموضوع المقال السابق، "إشكالية الدولة والطائفة والمنهج: ترميمُ الذاكرةِ في دولةِ المؤرخين" (1) الذي يعتبر جزءًا من كتابنا في هذا المقال، يطرح المؤرخ اللبناني القدير وجيه كوثراني فحصًا أكثر تفصيلية لمشاكل الثنائية الشهيرة "الذاكرة والتاريخ"، أو بلغة مُفصِحة الأحداث السياسية والتاريخ الشفوي وسائر التراكمات (الذاكرة) وعلاقتها بالكتابة التاريخية الحذقة (التاريخ).

يشير وجيه كوثراني إلى نقطة غاية في الأهمية عندما يتحدث عن علاقة الكتابة التاريخية بالجو السياسي المحيط بها

درج استخدام هذين المصطلحين المسكوكين من قبل مدرسة الحوليات الفرنسية، الذاكرة والتاريخ، من قبل العديد من المثقفين والباحثين في مواضع متعددة، ولكن دونما بيان واضح غالبًا لا لجذرهما المنهجي ولا لشرح الأمثلة المنضوية تحتهما في مختلف الدراسات المتعلقة بالتاريخ من قريب أو بعيد، ولكن كوثراني من أوائل من طرح هذه المسألة في هذا الكتاب بشكل مختلف تمامًا.

اقرأ/ي أيضًا: حزب الله ومسألة الدولة المدنية وولاية الفقيه والطائفية السياسية

يمكن اعتبار كتاب "الذاكرة والتاريخ في القرن العشرين الطويل: دراسات في البحث والبحث التاريخي" (دار الطليعة، 2000) من الكتب المنهجية التنظيرية وفي التطبيق العملي الممثلة لتطور مدرسة الحوليات، ليست كثابت في البحث التاريخي، ولكن كمتغير نقدي مستمر مع الزمان كما يوضّح المؤلف في الكتاب، يعني ليس باعتبار "نهاية التاريخ في البحث" بقدر ما أن هذه المدرسة قد فجّرت آفاق النقد بالتأكيد.

يحتوي الكتاب على 13 مقالًا بحثيًا نقديًا للعديد من المسائل التي تمسّ مهنة المؤرخ لتحاول إظهار الطريق الذي يمكن من خلاله التأسيس لإقامة بحث عام من جهة، وتاريخي على وجه الخصوص. قسّم المؤلف هذه المقالات إلى ثلاثة طوائف يدمج فيها النظري بالعملي؛ حول الوعي التاريخي والموضوعية ثم حول خبرة التاريخ واتجاهاته وأخيرًا نقد لمشتغلين عرب في التأريخ.

ماهية الذاكرة والتاريخ

يخفي هذا المركّب جبلًا هائلًا من المصطلحات النقدية والتعابير التي سبكتها مدرسة الحوليات، والتي كما يشير كوثراني في أكثر من موضع أنها مدرسة وليدة زمانها، ولها الظروف الاقتصادية والسياسية والعسكرية التي نشأت بها عام 1929، وشكّلت هيئتها العلمية النقدية.

لدى أحد مؤرخي الجيل الأول مارك بلوخ مثلًا تفضيلات اصطلاحية كـ"اللحظة" بدلًا من "الحدث" كذا ومبرره لاستخدام "المعطى" بدلًا من "الوثيقة"، و"المصدر" بدلًا من "الواقعة"، ثم ممثل الجيل الثاني -إن صحّ التعبير- فرناند بروديل الذي اشتهر بالأزمنة الثلاثة ودقّة البحث فيها كذا والزمان الطويل، بحيث يبين كوثراني دور الأخير في بلورة هذه المدرسة.

مثل ذلك فيما بعد بالنسبة لجاك لوغوف في ابداعه لمفهوميّ 1) "الذاكرة الجماعية" التي تقدّم التاريخ مشوهًا أسطوريًا خالطًا للأزمنة Anachronisme وكذا لاتاريخيًا ahistorical وأن هذه الذاكرة قد تكون في بعض الأحيان ذاكرة فردية أو جماعية، بالنسبة للمفهوم الرديف فهو 2) "تاريخ المؤرخين" فهو العمل الأكثر قربًا للصواب والدقّة وهو الذي يحاول استكناه ابستيم فوكو في خطاب التاريخ كما يشير.

يتعرض البحث التاريخي لأكبر أنواع التشويه حين تقوم السلطة بجعل المثقف والمؤرخ إمّا مع أو ضد التيار

هذه بعض من الأسلحة التي يمضي كوثراني قدمًا في الكشف عن مواضيع بحث الكتاب بين أيدينا، والتي تتعدد وتتفرع بين السطور، كذا وتتشابك فيما بينها حيث يجعلنا نبين أن الفصل بينها هو شكلي لا معنوي. هذه الأسلحة التي تساهم في عملية النقد التأريخي لا يتوقف المؤلف عن استخدامها لأي كتاب أو مقال أو مؤرخ تحت البحث، سواء من التيارات المختلفة (قومية إسلامية ماركسية) أو من الجهابذة المؤرخين (الصليبي في الكتاب السابق وأستاذه قسطنطين زريق) أو حتى في إعادة طرح المناهج الأكاديمية المتعددة.

اقرأ/ي أيضًا: كتاب "بلاد الشام في مطلع القرن العشرين".. تشريح المكان والتاريخ

الاستبداد والتأريخ

يشير كوثراني إلى نقطة غاية في الأهمية عندما يتحدث عن علاقة الكتابة التاريخية بالجو السياسي المحيط بها، وينوّع الحديث عن ذلك في الكتاب، يبدؤه في عصر الدولة السلطانية ولا ينتهي به فقط إلى زماننا المعيش، مرورًا بمرحلة تأسيس الدولة "القومية"، كاصطلاح مترجم فضّله لمعاني مثل القوم nation والقومية  nationalism.

بين تعرّض البحث لحالة من الشعبوية المؤدلجة ولا يكتفى بها على المجال العام بل وهي مسألة زاحفة للمجال الأكاديمي، حيث يتمترس ذاك الباحث بسلاح الأكاديميا، وكذا على الناحية الأخرى عندما تسبب السلطة بجعل المثقف والمؤرخ إمّا مع أو ضد التيار، هنا يتعرض البحث التاريخي لأكبر أنواع التشويه، بيّن كوثراني سياق ذلك في الدولة السلطانية والمدونات التاريخية السابقة وأنها وصلت للقرن العشرين "الطويل" وشكّلت أهم مشاكله.

من هذه "اللحظات" الازدواجية الثنائية النكدة التي يتعامل معها المؤرخين بمختلف توجّهاتهم هي، على مستوى الحدث، كمسألة "استعمار مصر" من قبل نابليون وأيضًا وجود الدولة العثمانية في المجال العربي، ومثلها سلطان الغرب الكولونيالي في الشرق وما ينتج عن ذلك على صعيد الأفكار كعُمْلة وجهيّ "الجهادي" و"الصليبي" ووضع "التأريخ الإسلامي" قبالة "التأريخ الغربي" وغيرها من النحوتات الثنائية المغلوطة.

وفي هذا السياق فإن عملية خرق قواعد البحث العامّة، وتحريك البحث التاريخي نحو أهداف ليست من مجاله، كخلط الأزمنة باعتبارها من أكبر مشاكل التأريخ، هي ليست عابرة عشوائية، بل يؤكد على أنّها مقصودة "مرغوب فيها" مما يشكل المزيد من المطبّات والعقد أمام الباحث التاريخي وكذا في تشكيل هيئة الماضي في الحاضر.

هذا على صعيد استبداد الدولة، ولكن ماذا عن استبداد "الآخر"؟ هنا يطرح كوثراني مسألة تبرز أمامنا كقمة الجبل الجليدي التي تخفي الكثير خلفها، حديثي هنا عن استنباط مهم من عمل المؤرخ الفرنسي بروديل "المتوسط" الضخم، والذي يبين أن صراع المركز والأطراف في البحر الأبيض المتوسط في القرن التاسع عشر ما هو إلا نتاج متوالٍ لم كان يُرى في القرن السادس عشر.

التغيّر في المركز والأطراف يعني قوى جديدة متشكلّة، وصناعة سياسة مختلفة، سببت تغيرات مهمة منها تصدير العلمانية المؤدلجة "العلمانوية" غير تلك التي تؤذي مصالح الاستعمار في البلاد شرق المتوسط، كذا التحول في البنية العثمانية بين الاستقواء بالدين إلى الاستقواء على صُعد مختلفة؛ منها الاستقواء بالآخر الغربي.

ابن خلدون والاستمرارية التاريخية

قد تكون عبارة ابن خلدون التي ينقلها عنه كوثراني "ويتساوى في فهم فن التاريخ العلماء والجهّال" مفصحة عن الحال الذي قد يؤول إليها علم التاريخ على يد من يريد الوصول إلى الكتابة التاريخية، من خلال "تقميش أحداثه ومصادره" كما يقولها أسد رستم، والتي تشكّل لب المعضلات التي يبيّنها المؤلف في كتابه.

قد تكون عبارة ابن خلدون "ويتساوى في فهم فن التاريخ العلماء والجهّال" مفصحة عن الحال الذي قد يؤول إليها علم التاريخ على يد من يريد الوصول إلى الكتابة التاريخية، من خلال "تقميش أحداثه ومصادره"

يتّجه المؤلف لبيان مكانة ابن خلدون في "فن التاريخ" وأنّها تعرّضت في كثير من الأحيان لتشويه "لا تاريخي" يقطعها عن مسار "الاستمرارية" التي نشأ ابن خلدون فيها، يعني تمامًا ما أسدل عليه الحديث عن نشوء مدرسة الحوليات، كان كذلك كوثراني قد غضّى جزءًا مهمًّا منها لبيان البيئة التأريخية التي أثّرت على ظهور الكتابة الموسومة بالخلدونية.

اقرأ/ي أيضًا: كتاب "مختارات سياسية من مجلّة المنار لرشيد رضا".. أفكار مبكرة في الإصلاح

بالمقابل نجده ينتقد عملية عدم استدامة القفزة الخلدونية "العظيمة" في العصور اللاحقة له، يعني أن العقلية التي كانت لدى ابن خلدون لم تتوفّر بشكل مماثل لمن جاء بعده فهو وإن كان "أشعريًا على صعيد المنهج الموصل إلى المعتقد الإيماني" فهو على صعيد آخر كان "عقلانيًا واختباريًا على صعيد منهج ملاحظة تاريخ الاجتماع البشري"؛ وهذا سبب تغمية على عمله.

هذا السبب "الداخلي" لعدم استدامة هكذا فحص ومعالجة للتأريخ، ولكن ماذا عن السبب الخارجي؟ بالطبع كما بيّنت أعلاه فإن الاستبداد السياسي يرافقه العبثية في إقفال باب الاجتهاد لعبا دورًا مؤثرًا على ذلك. يضاف لذلك أن ابن خلدون -كما يسلّط كوثراني بوضوح- لم يكن قاصدًا ما توصّل إليه بقدر ما أنّه نشأ نتاج تلك الاستمرارية التاريخية. يبدو ذلك جليًا عندما نرى أن ابن خلدون "لم يلتزم في تاريخه الكبير (العِبر) منهج (المقدمة) دومًا؛ ذلك لأن المادّة الضخمة في التاريخ بقيت دون الدعوة المنهجية التي حملتها المقدمة".

لذلك فإن إهمال مسألة الاستمرارية التاريخية في تناول البحث المتعلق بابن خلدون وابن رشد مثلًا، يؤدي بالباحث المعاصر إلى الوقوع في خلط الأزمنة وتحميل ذلك الزمن ما لا يتحمله وتصنيع "وصفات جاهزة"، وكذا يؤدي إلى استجلاب ما لا يطيقه البحث التاريخي، ويمثّل كوثراني على ذلك ما توصل إليه الجابري من نتائج حول تاريخ الأفكار في القسم الثالث من الكتاب.

لذلك فإن تسليط كوثراني الضوء على هذه القضية يأتي في سياق نقد المنهج التاريخي ذي التوجه الإسلامي وكذا القومي عند تناول الكتابة الخلدونية للتاريخ، تلك الناشئة في ظل الدولة السلطانية في التاريخ الإسلامي من جهة، وكذا الكتابة الجالبة لابن خلدون في الدولة القومية وما بعد الكولونيالية وحتى عصرنا الحديث، ويدعو للتمييز بشدة بين تلك الفترات، وعدم الوقوع في مثل هذه الهفوات المنهجية.

مأزق التاريخانيات والكتابة العالمية للتاريخ

طرح قسطنطين زريق وجهة نظر نقدية للكتابة التاريخية المتنوعة بأشكالها القومية والإسلامية والماركسية، بإبداع طرف رابع تحت شعارات مثل العلمية والموضوعية والحيادية في المنهج، وكما هو معلوم فإن زريق يعد أحد موجّهي وجيه كوثراني، ولكن مع ذلك فقد نقد التلميذ أستاذه، وبيّن أن مثل هذه الدعوى قد لا تتوفق إلى هذا الحد في الوصول للمراد.

طرح قسطنطين زريق وجهة نظر نقدية للكتابة التاريخية المتنوعة بأشكالها القومية والإسلامية والماركسية، بإبداع طرف رابع تحت شعارات مثل العلمية والموضوعية والحيادية في المنهج

هنا يتّضح جزء من النهج النقدي لدى كوثراني، يبين أن لكل من تلك التاريخانيات المذكورة آنفًا اتخذت لشق طريقها في التدوين التاريخي مجموعة من الأسس تتمحور حول أيديولوجيتها في الطرح، ومع تأثيره على التأريخ وفهم الماضي في ضوء الحاضر، إلا أن كوثراني يؤكد أنّه وُجد في تلك الكتابات طرف نقدي مفيد نتاج تضاد بعضها في التدوين؛ مما يؤدي إلى عدم انعدام الجودة فيها.

اقرأ/ي أيضًا: انتفاضة لبنان.. والطريق نحو التأسيس لتاريخ "لبناني" نظيف

ومع ذلك فإن المسار التأريخي الفرنسي المتمثل بمدرسة الحوليات، كمثال يذكره كوثراني، يطرح قضية لا يمكن تغافلها، وهي المسار العالمي في تدوين التاريخ من خلال تجديد تلك النظرات، التي وإن لم تكن تخلو من نظرة نقدية جدلية، فإنها لم تستطع التوصل إلى تحرير النقد الذي وجدت به في حقيقة الأمر.

كذلك قد تنجو مجموعة من الدراسات الحديثة من أسر الأدلجة سابقة الذكر، ولكنه تعيش في ظل السلطة المستبدة سواء بالتبرير أو العداء، وهي في عمومها في "حالة من البعد عن هموم الفلسفة وعلوم الاجتماع والفكر"، وغيرها من المجالات التي فجّرتها "الحوليات" كـ"الدولة والمجتمع والأمة والسلوك وطبائع العلاقات والنفسيات".

طبائع الاستشراق ومصارع التأريخ

يعطي كوثراني أمثلة عديدة من خلال أعمال مؤلفين حول مسيرة الاستشراق وأثره في الكتابة التاريخية العربية، ويجملها في مراحل متعددة دونما حصر لها بالتأكيد، هي مرحلة الكتابة في عصر النهضة والإصلاح ثم الكولونيالية ثم الكتابة ذات النزعة الإسلامية المتمثلة بالمعهد العالمي للفكر الإسلامي "أسلمة المعرفة" بدرجة أساسية ثم الكتابة الأكاديمية التي انقسمت لأكثر من طبيعة، هو الأخير في نيل التجربة التأريخية، والذي حصل فيه أدلجة بمقادير مختلفة وأقلّ من تلك الكتابات السابقة له لم يبدأ فقط بأسد رستم ولم ينته بعبد الله العروي.

يشدد كوثراني الحديث على أن مسألة الاستشراق والتطور النقدي للفكر والفلسفة في أوروبا، وإن كانت في مرحلتها التالية ناقدة للسابقة، ولكنها لا تزال متواصلة مستمرة، غير منقطعة، وهكذا يجب فهمها، يعني إن الخطأ الناجم عن هذا هو استحصال بعض مؤرخي الدولة العربية (الإسلامي والقومي مثلًا) على تلك المجالات الأوروبية النقدية واستخدامها كسلاح ضد الاستشراق وهذه مغالطة لا بدّ من تجنّبها.

يعني التفريق بين "الاستشراق كسياسة" و"الانتاج المعرفي" للكتابة الفكرية في أوروبا، والتخلص من ثنائيات مزمنة (شرق/غرب) التي ترجع في أصلها إلى (الجهادي/الصليبي)، أي نظرة استرجاعية للتطور التاريخي للأفكار، النظر إلى الانتاج المعرفي على أنّه متواصل غير منقطع، والفهم الأكثر دقّة لتفرعات علم التاريخ والكتابة التاريخية بعيدًا عن "سجن الاستشراق" و"الانحباس الجدلي والردّي" هو ما "سكت عنه إدوارد سعيد" وسلكه الكثير، ليس فقط من المؤدلجين، بل من المحسوبين على النطاق الأكاديمي.

يشدد وجيه كوثراني الحديث على أن مسألة الاستشراق والتطور النقدي للفكر والفلسفة في أوروبا، وإن كانت في مرحلتها التالية ناقدة للسابقة، ولكنها لا تزال متواصلة مستمرة، غير منقطعة

يُفسّر هنا المسار العلمي في أوروبا بعيدًا عن معضلة أثر الاستشراق في التأريخ بالتدقيق الذكي لكوثراني لتخصصات روّاد مدرسة الحوليات في العلوم الاجتماعية والإنسانية المتنوعة أن القضية باتت مرتبطة لا بالتخصص بمعانه الدقيق للمؤرخ، ولكن بالمنهج في التدوين، يعني مرة أخرى انفتاح التأريخ على العلوم الأخرى والعكس، قد نستذكر إضافة نقدية غاية في الأهمية هنا، وهي ما ذهب إليها عزمي بشارة في أن الأولوية تنشأ في البحث عمومًا من بذرة "الفهم" قبل الحديث عن أي "منهج بمعناه الدقيق".

التأريخ للحقبة العثمانية

لعل هذا النموذج يعدّ من أخطر المجالات في البحث التاريخي العربي، والذي يذكره كوثراني في أكثر من دراسة له بصيغ متنوعة، هو المثال العملي الذي يطرحه من بين العديد من الأمثلة على نطاق تاريخ الأفكار أو تاريخ تغيّر الإدارة العثمانية في المنطقة العربية وأثر ذلك على التكتلات المحلية والأوروبية.

اقرأ/ي أيضًا: كتاب التاريخ اللبناني.. بيت بطوائف كثيرة

على مسار مشابه للمؤرخ اللبناني خالد زيادة الذي يدعو لإعادة تثوير النظر في مفكري النهضة والإصلاح، يذهب كوثراني في الحديث عن أنّ أعلام فترة النهضة العثمانية كانت أقرب في التعامل مع التحولات الأوروبية من المشتغلين بحقل الفكر في القرن العشرين على وجه التحديد، منهم الجابري في بيانه لاصطلاحاته المختلفة حول الشورى والديموقراطية، وجدلية رشيد رضا الشهيرة حولها.

يلزم لقراءة التاريخ العثماني التخلص من المعضلات سابقة الذكر، كذا ووضعه في سياقه العالمي، أي معرفة مكانة العالمي في التاريخ العثماني وكذا ومكانة التاريخ العثماني في العالم، والاستفادة من مسيرة النقد الغربي فيه، مثل ذلك في ذكره مجموعة من الأمثلة كانت هي مجموعة لقراءات غربية (كلود كاهين، موريس لومبار..) للتاريخ الإسلامي العام بصيغة أكثر تشاركية تبتعد قدر الإمكان عن علل المنهج.

مع مؤرخين وأفكار راهنة

هذا هو عنوان القسم الأخير من الكتاب، والذي يأتي متضافرًا مع تفاصيل القسمين الأوليين، يأتي على ذكر خمس من أعلام التأريخ؛ مارك بلوخ، قسطنطين زريق، زين نور الدين زين، محمد الجابري، وأخيرًا جان شرف، في كل من المذكورين يمكن فهم قراءة كوثراني لمعنى البحث التأريخي والتأريخ للزمن.

من المؤكد أنّه عند ذكر أحد عرّابي مدرسة الحوليات، بلوخ، لا بد من استحضار مجموعة من المفاهيم، أو الطرق الحديثة في التأريخ، عن انفصال حقل الاجتماع عن التاريخ، تغيير مصطلحات دراسة التاريخ المذكورة في بداية الفقرات أعلاه، وليس آخرًا عدم التسليم القراءات التاريخية السابقة للمدرسة الوضعانية وما سبقها ومحاولة تجديد النقد وإعادة تقييم نتائج ومسببات الزمن ولحظاته؛ أي تقديم نقد النقد الذي تميّزت به الحوليات.

في شخصية قسطنطين زريق يتمثل نقد الحقب التاريخية والتحقيب الزماني والمكاني والفكري فيها، تشكّل "العقل العلمي" ودوره في تحديد الفرق بين نسبية المفهوم وعقدة النسبوية وتفريق الثابت عن المتغير في دواخل التاريخ، كذا والتركيز على الاستمرارية التاريخية ودورها في فهم السياق التاريخي للأفكار، نشوء القومية والرأسمالية وماهية العقلانية والأنوار. هنا يقدم كوثراني النقد الهادئ لأستاذه كدعوة لم يبتعد عنها زريق من الأصل.

وعند انتقاله إلى المؤرخ زين نور الدين زين، حاول طرح خبرته في ولادة الجمعيات العثمانية في "عصر النهضة"، كما اصطلح عليه، ودور هذه الخبرة في نقد التنظير القومي لها، يعني أن "التبسيطية السياسي" وكذا الاستثمار المختلف لمحاولة البحث عن جذور للقومية في تلك الفترة كان يؤثر بشكل حتمي على القراءة التاريخية، ليس هذا فقط ولكن الخلفية المتنوعة للمؤرخ زين كذلك لعبت دورًا مهمًا في تشكيل جدله النقدي الذي يطرح كوثراني هنا.

يتمثل في شخصية قسطنطين زريق نقد الحقب التاريخية والتحقيب الزماني والمكاني والفكري فيها، وتشكّل "العقل العلمي" ودوره في تحديد الفرق بين نسبية المفهوم وعقدة النسبوية وتفريق الثابت عن المتغير في دواخل التاريخ

بعدها يقدّم كوثراني الكثير من النقاط الحسّاسة بالنسبة لمحمد عابد الجابري، ناقش لديه مصطلحات الدمقرطة والشورى والعقلانية وكذا العلمانية، المجال الأبرز والمشترك في عملية النقد التاريخي لمدونات الجابري حول هذه المصطلحات، هو محاولة الفصل بين البنى الزمانية لولادة مثل هذه المصطلحات، من خلال تكوين "مرجعيات" متضادة مصطنعة.

اقرأ/ي أيضًا: مختارات سياسية من مجلة "المنار" لرشيد رضا: الفقيهُ المُبَرِّر والشيخُ الحائر

كما ومعاملة المصطلحات بنوع من التصرّف غير المحتمل؛ الذي أنتج وقوع الجابري بخطأ فادح -برأيي- "بعدم التدقيق بفقه لغة جذر العلمانية، وكذا دونما تدقيق تاريخيّ باستعمالها من قبل الأقليات غير المسلمة في الشام بهدف الانفصال عن العثمانية وتشكيل الدولة القومية"! هذا النفس من التدوين، الإسلامي بدرجة أساسية، بالنسبة لكوثراني يؤدي إلى "يختزل ويسطّح [مسار] التاريخ الإسلامي والأوروبي بصور ذهنية متناقضة" غير مبررة.

في الختام يقدّم اجتهاد آخر هو لـ"جان شرف" في تأريخه لجبل لبنان، وهو الأهم والعمل الأصعب لكوثراني من بين ما سبق برأيي، لأنه حفر في الفكر الذي يحاول النقد والابتعاد عن الأدلوجات المطروحة أعلاه، لذلك يجب أن أقف عليه قليلًا.

في البداية يُظهر كوثراني جوانب النقص في استكمال المصادر المتنوعة بالنسبة لجان شرف في دراسته، ومنها لفتة مهمة جدًا وهي استدلاله من باحثين فرنسيين وأتراك مختلفين معتمدين على الأرشيف العثماني حول أطروحته؛ هنا نفهم أن الباحث العربي بحاجة شديدة للأرشيف العثماني والمصادر التركية مباشرة للتنقيب فيها وليس فقط أخذها عن باحثين لاحتمالية التغيّر في وجهات النظر؛ حيث إننا نجد إلى يومنا هذا ندرة الباحث العربي المعتمد بشكل مباشر على هذا النوع من المصادر.

غير ذلك يأخذ عليه تصويره لبنية الإدارة العثمانية ومرجعيّتها في الحكم دونما الأخذ بعين الاعتبار بخلفيات الدولة المتنوعة، كذا وبنية الطائفة في جبل لبنان وماهية التعددية والنخب الثقافية وتنازع الرأسماليات وتغيّر هذه المفاهيم في الزمن لا ثباتها، هذا كلّه يطرحه عبر مشرط بروديل "الزمن الطويل" بثلاثة أطره: "استمرارية"، "تغيّر" و"عموم لا خصوص" الزمن الطويل في المنطقة تحت الدراسة.

نقد كوثراني لـ"شرف" -ولغيره كذا- ليس انقلابيًا تامًّا، ليس لشيء ما بقدر ما إن "البحث التاريخي فيه مسألة "الملتبس" التي هي مسألة دائمة التجدد" والتي تعطي المؤرخ الحذق مزيدًا من الحذر والدقّة عند صياغة أو "تقميش" تدوينه. هذا العرض العام لكتاب كوثراني حول الذاكرة والتاريخ فضّلت إطلاقي عليه اسم "معالم النقد التأريخي لدى الدكتور وجيه كوثراني"؛ لأنّ ذلك يتّضحُ بشدة في هذا الكتاب الثمين.

 

هامش:

1- ملاحظة: الجزء المتعلق بموضوع الكتاب المذكور في الرابط لن يتم التطرق له في هذا المقال لأنه مذكور في المقال السابق الملحق بالرابط.

 

اقرأ/ي أيضًا:

الازدواجية اللغوية والعلاقة بين الشفوية والكتابة التاريخية عند العرب

مركزية في اللامركزية.. تاريخ لبنان وحاضر الانتفاضة