27-ديسمبر-2018

هل يعيش الجزائريون في حلم أم في حقيقة؟ (تويتر)

رأيت جدّتي، في منامي، تستلم شهادة الدّكتوراه في العلوم السّياسية من رئيس جامعة الجزائر، فأصبت بالدّهشة والحيرة. ظننت في البداية أنّها دوكتوراه شرفية منحت لها فقط لأنها تعاونت مع أحد المخابر العلمية الباحثة في الحكاية الشعبية، وهي أحد خزّاناتها، لكنني فوجئت بأنّها دوكتوراه حقيقية نالتها بعرق الجبين وسهر السّنين، لذلك فقد نالت بها درجة الشّرف الأولى مع تنويه من اللّجنة بأصالة موضوعها وعمق طرحها ووضوح نزاهتها، وإنّ طبْعَ هذا الإنجاز الأكاديمي الكبير ونشرَهُ ـ حسَبَ اللجنة ـ يُعدّ واجبًا علميًّا ووطنيًّا على حدٍّ سواء.

جدتي دكتورة؟ ولكن أين وجه الغرابة في هذا؟ هل عميتَ عن الوزراء الذين لا يستحقون أن يكونوا وزراءَ لكنهم كذلك؟ وعن رؤساء أحزاب لا يصلحون حتى لقيادة أسرهم

تداركت نفسي فأمرتها بتصديق الأمر مؤقتًا على الأقل، والتعاملِ معه على أنّه واقع، ففي النهاية ليست جدتي بأتفه من بعض الجامعيين الذين لا يحسنون حتى كتابة تقرير للإدارة، ورحت أصفق بحرارة.

 في الواقع، جئت إلى المدرّج الجامعي بدعوة من صديق لأحضر حفل مناقشته للدكتوراه، فإذا بي أجد أن المناقش جدتي وليس صديقي. دعاني رئيس اللجنة لألقي كلمة فأنا "نِعْمَ الحفيد المبدع لجدة مبدعة" فصعدتُ. هل أتحدث عن نفسي أم عن جدتي؟ بل تحدثْ عن جدتك يا رجل، فهي قد اجتهدت وهذا أوان أن تنحني أمامها وتقول لها إنك فخور بها. مثقف لا يفخر بجده المجتهد ليس مؤهلًا لأن يعرف نفسه. طيب.. سأنصفك أيتها العجوز الاستثنائية. لكن الوقت قصير وهو لا يكفي للإلمام بخصالك ومعانيك. يجب ألا أكون استغلاليًا فأستغلّ احترام المجلس لي وأوغل في احتكار الكلام عنك، فأنت قد قمت بعمل ضخم وثمّة أكثر من شخص يريد أن يقول كلمة إعجاب فيك، كوني حفيدَك لا يعطيني الحق في أن أحتكر الكلام عنك، فماذا سأقول يا ربي؟ ثم كم أنت جميلة هذا اليوم يا جدتي. كيف لم أنتبه إلى هذا من قبل؟ ربما شغلني جمال روحك عن جمال مظهرك، وها أنت اليوم تكتسبين جمالًا جديدًا هو جمال المعرفة.

اقرأ/ي أيضًا: صورة بوتفليقة تنوب عنه في المحافل.. والجزائريون يسخرون من الصدمة

جدتي دكتورة؟ ولكن أين وجه الغرابة في هذا؟ هل عميتَ عن الوزراء الذين لا يستحقون أن يكونوا وزراءَ لكنهم كذلك؟ وعن رؤساء أحزاب لا يصلحون حتى لقيادة أسرهم لكنهم يتحكمون في أحزاب معتمدة، وعن كتاب لا يصلحون حتى لكتابة أحجبة لكنهم مزروعون في كل المنابر، وعن صحافيين لا يصلحون حتى لأن يكلفوا بنشر أخبار الوفيات في العمارة لكنهم يتصدرون الجرائد والشاشات، وعن نواب في البرلمان لا يصلحون حتى لرعي خراف العائلة لكنهم نواب باسم الشعب بغض النظر عن كونه انتخبهم أم لم ينتخبهم، المهم أنهم نواب على مدار سنوات ولم يحرك هذا الشعب ساكنًا في جعلهم يخرجون من المجلس مثلما دخلوه، وعن أئمة لا يصلحون حتى لأن يصلوا بأنفسهم لكنهم يتحكمون في زمام المساجد والساجدين. لماذا لا تقول إن الرئيس ليس جديرًا بمنصبه؟ أنت خوّاف.. جبان.. تخاف على رزقك والرزق بيد الله. لكن ألا ترى أنّ رئيسًا ـ أيّ رئيس ـ يستطيع أن يحافظ على البلد فلا يسقط رغم كلّ هذه الخرابات هو جدير بمنصبه؟ ثم أليس جديرًا بالاحترام لأنه منح الفرص للجميع، وها أنت أمام دليل صارخ هو أن جدتك تمكنت من افتكاك شهادة الدكتوراه؟

وصلتُ إلى المنصة. استلمت الميكروفون. كان الصمت مهيمنًا على المدرج الكبير المكتظ بالنخب حتى لو طنّت ذبابة فسُتسْمَعُ. نخب صامتة في كلّ التخصصات. تلعثمتُ فصفقوا لي. نخب تصفق للمتلعثمين. ضحكت استهزاءً بهم فضحكوا. نخب تضحك للمستهزئين بها. قلت: أين أنت أيتها النخب الجزائرية، فراحوا ينظرون إلى صورة الرئيس المعلّقة. قلت: كيف تقبلون أن تكونوا خاضعين لصورة؟ فراحوا يشيرون إليها ويقبّلون أيديهم.

رميت الميكروفون في وجوههم. توجّهت إلى طاولة جدّتي. أمسكتها من يدها. قلت لها إنك أكبر من هؤلاء. دفعتها إلى الباب عائدًا بها إلى البيت. لم تقاوم وكانت تنظر إليهم باحتقار. ثاروا ضدّنا وراحوا يتعقّبوننا حاملين صورة الرّئيس. كنت وجدّتي نركض وسط الحشود التي كانت تنضمّ إليهم كلّما تجاوزناها. وصلنا إلى البيت وأغلقنا علينا بابه. كان طرقًا رهيبًا ومخيفًا. أصحتني زوجتي في تلك اللّحظة: هناك من طرق الباب، ثمّ اكتفى بتسريب مطوية تدعو إلى انتخاب بوتفليقة لعهدة خامسة. رفعت عينيّ إلى صورة جدّتي، التي ولدت في العام نفسه الذي ولد فيه وماتت قبل ثلاث سنوات: مبروك الدّكتوراه.