13-ديسمبر-2020

مشهد من فيلم "التجربة" عام 2010 (arctictoday)

قبل حوالي سبعين عامًا، وبالتحديد عام 1951، جلبت الدنمارك من غريندلاند 22 طفلًا (9 بنات و13 ولدًا) من قبائل الإسكيمو، وسلبت أسرهم حقهم الطبيعي في تربيتهم. كان ذلك ضمن تجربة اجتماعية ذات أبعاد سياسيّة تتعلق بتطوير "نماذج بشرية" مثالية ودراسة مدى الفائدة التي قد تتحقق بعد تخليص الأطفال من الأثر "الغريندلاندي"، وإعادتهم إلى بلادهم كنخبة دنماركية، وذلك بمساعدة كلّ من "الصليب الأحمر الدنماركي" ومنظمة "أنقذوا الأطفال".  هذه باختصار هي فضيحة "أطفال التجربة" التي تعدّ صفحة سوداء في تاريخ الدنمارك لم تغلق سوى قبل عدة عقود فقط. 

قبل حوالي سبعين عامًا، وبالتحديد عام 1951، جلبت الدنمارك من غريندلاند 22 طفلًا (9 بنات و13 ولدًا) من قبائل الإسكيمو، وسلبت أسرهم حقهم الطبيعي في تربيتهم

وقد كانت غرينلاند حتى ذلك الوقت مستعمرة دنماركية، وأبدت السلطات في الدنمارك حرصًا كبيرًا على إجراء عملية "تحديث" لغريندلاند التي كان سكانها من شعب "الإنويت" أو الإسكيمو، لا يتحدثون الدنماركية ويعيشون ظروفًا معيشية غير متطورة، إذ كانوا يعملون في الصيد، وانتشرت بينهم العديد من الأمراض، ومن أخطرها السل الذي كاد يقضي على سكانها.

هيلين ثيسن (BBC)

وقد رأت السلطات الدنماركية أن أفضل طريقة لتنفيذ خطتها في "تحديث" تلك البلاد هي تكوين "نخبة" من الغرينلانديين تتحدث لغة الدنمارك وتتبنى نموذجها في التحديث والثقافة. وهكذا بدأت الدنمارك تتراسل مع رجال الدين والمعلمين ومسؤولي دور الأيتام في غرينلاند، تطلب منهم أن يبقوا أعينهم مفتوحة لتحديد أي طفل تظهر عليه علامات النباهة والذكاء ويكون بين سن السادسة والعاشرة. وقد قضت الخطة الدنماركية بجمع هؤلاء الأطفال وإرسالهم ليعيشوا ويينشأوا مع أسر دنماركية، وإخضاعهم لعملية "إعادة تعليم" ليكونوا طليعة نخبة دنماركية مستقبلًا في غرينلاند. وبكثير من الضغوط وشيء من الحيلة على أهالي الأطفال الذين كانوا في حالة من الخوف على أطفالهم جراء تفشي وباء السل، تم "إقناع" 22 أسرة لتسليم أبنائها للمشاركة في التجربة.

وقد حازت تلك التجربة اهتمامًا واسعًا في الدنمارك، حتى أن ملكة الدنمارك وقتها، إنغريد، قامت بزيارة للمخيّم الذي أرسل إليه الأطفال لمعاينتهم وإشباع فضولها بشأن لغتهم ومظهرهم، قبل أن يتم تحويلهم إلى الأسر التي ستتبناهم وتعتني بهم في مناطق مختلفة من الدنمارك.

بدأت التجربة في طورها الدنماركي في كانون أول/ديسمبر 1951، واحتفت بها الصحف والمجلات المحلية، وجاء في إحدى المجلات الأسبوعية وصفًا للتجربة جاء فيه: "الحياة هنا في الدنمارك مختلفة عما اعتاد عليه هؤلاء الأطفال غير المتحضرين، إلا أن قدرتهم على التكيّف مذهلة، كما أن اعتراضاتهم على محاولات تحضيرهم نادرة".

إنغريد ملكة الدنمارك في زيارة للأطفال عام 1951 (BBC)

مضت التجربة قدمًا، ونسي الأطفال لغتهم الأم وفقدوا التواصل تمامًا مع أهاليهم وأخضعوا لعمليات معقدة من التربية والتأهيل والملاحظة، إلا أن ذلك كله لم يكن كافيًا، وبدا أن التجربة في طريقها إلى الفشل.  ففي تشرين الأول/أكتوبر 1952، أي بعد عام تقريبًا على التجربة، رجع 16 طفلًا من "أطفال التجربة" إلى غرينلاند، إلا أنهم لم يعودوا إلى أهاليهم، بل وضعوا في دور للأيتام، وظلوا فيها حتى سنّ المراهقة، حيث كانوا يدرسون على "الطريقة الدنماركية". وهكذا استمرت حياتهم بحكم الأيتام، منقطعين عن أي صلات عائلية حقيقية، ودون أن يفهموا حقيقة ما جرى معهم. وقد لاحظ المشرفون على أولئك الطلبة بروز العديد من المشاكل النفسية لديهم، والتي دلّت على اضطرابات عاطفية وهوياتية مرتبطة بحرمانهم من النشأة مع أسرهم وفرض هوية جديدة عليهم في ظروف غير طبيعية.

في أعقاب نشر أول كتاب متعلق بهذه الفضيحة عام 1998 للصحفية والباحثة الاجتماعية تين بريلد تصاعد زخم الدعوات لتقديم اعتذار رسميّ بشأن تلك المأساة الإنسانية، فحصل الضحايا على رسائل من الصليب الأحمر الدنماركي للتعبير عن "الندم" على الدور الذي كان للمؤسسة في تلك التجربة، وانتظرت منظمة "أنقذوا الأطفال" في فرعها في الدنمارك حوالي 10 سنوات لتقديم اعتذارها عن دورها هي الأخرى في تلك التجربة، ثم تبين لاحقًا أن بعض أفراد المنظمة قد عمدوا قبل ذلك إلى تدمير بعض الوثائق المتعلقة بالتجربة.

أما الحكومات الدنماركية المتعاقبة فقد تفادت منذ ذلك الحين الحديث عن تفاصيل التجربة وتحمّل المسؤولية الأخلاقية تجاه ما حصل مع الأطفال وأسرهم، وقدم السياسيون تسويغات عديدة لرفضهم الاعتذار عمّا حصل، باعتباره "حكاية منتهية" أو أن ما حصل مع الأطفال كان في سياق تلك الفترة "لصالحهم"، على الرغم من الآثار النفسية المدمّرة التي وقعت عليهم وعلى أهلهم، إذ خسر الأطفال هويتهم الأصلية وقدرتهم على التواصل بلغتهم الأم، كما حرموا من أي فرصة لعيش حياة طبيعية في سبيل تحقيق غايات سياسيّة.

هيلين ثيسن إحدى أشهر ضحايا التجربة (TheLocal)

في الفترة نفسها، أي في العام 2009، طالبت السلطات في غرينلاند الحكومة الدنماركية بتقديم اعتذارها الرسميّ لتورطها في تلك العملية التي شكّلت انتهاكًا صارخًا لحقوق الأطفال وإنسانيتهم، إلا أنّ ذلك لم يتحقق إلا قبل أيام قليلة، إذ قدمت الحكومة بقيادة رئيسة الوزراء مته فريدريكسن اعتذارًا رسميًا للضحايا على ما حصل معهم، وقالت تحت قبة البرلمان في 8 كانون أول/ديسمبر إنه "لا يمكن تغيير ما حصل، إلا أن ذلك لا يعني التخلّي عن تحمّل المسؤولية التي على عاتقنا. إننا نعتذر إلى من خذلناهم رغم كوننا مسؤولين عن تقديم الرعاية لهم". كما بعثث فريدريكسن بكتاب خطّي يحمل توقيعها لستة أشخاص ما زالوا على قيد الحياة من الأطفال الـ22 الذين أشركوا في التجربة، وقالت فيه إن ما مرّوا به كان نتيجة "الظلم وانعدام الشفقة". وقالت رئيسة الوزراء الدنماركية في رسالتها لهم: "أعلم تمامًا أنه لا يمكن لهذه الورقة ولا لأي كلمة أن تعوّض عن خسارة حياة بأكملها، لكنّ الأمر بين أيديكم اليوم، ولكم أنتم فقط أن تقرروا ما إذا كان لهذا الاعتذار قيمة في نظركم".

هيلين ثيسنهي إحدى أفراد تلك المجموعة من الأطفال، والذين عرفوا باسم "أطفال التجربة"، وهي أكثرهم شهرة في الدنمارك بسبب نشاطها التطوعي وظهورها المتكرر في وسائل الإعلام 

هيلينا ثيسن (Helene Thiesen)، هي إحدى أفراد تلك المجموعة من الأطفال، والذين عرفوا باسم "أطفال التجربة"، وهي أكثرهم شهرة في الدنمارك بسبب نشاطها الحقوقي وظهورها المتكرر في وسائل الإعلام منذ نهاية تسعينات القرن الماضي. تبلغ هيلين من العمر الآن 75 عامًا، وقد كانت في السابعة حين نقلوها من غرينلاند إلى الدنمارك. وقد قالت هيلين للإعلام الدنماركي عقب تلقّيها الاعتذار الرسمي من الحكومة: "هذا الاعتذار مهمّ جدًا، وهو يعني الكثير بالنسبة لي".

 

اقرأ/ي أيضًا: 

بعد 60 عامًا على آخر "حديقة حيوان بشرية".. بلجيكا تتطهر من ماضيها المظلم

خط "الفايكنغ".. أطول خطّ كهرباء "نظيفة" في العالم بين بريطانيا والدنمارك