05-أبريل-2025
أثناء البحث عن جثامين المسعفين الذين استشهدوا برصاص الاحتلال (الهلال الأحمر الفلسطيني)

أثناء البحث عن جثامين المسعفين الذين استشهدوا برصاص الاحتلال (الهلال الأحمر الفلسطيني)

"ذهبوا لإنقاذ الأرواح، فعادوا جثثًا مدفونة في حفرة جرفتها الجرافات العسكرية." بهذه الكلمات يختصر والد أحد شهداء فرق الإسعاف في غزة، المأساة التي حلّت بعائلات 15 من أفراد الطواقم الطبية الذين قُتلوا بدم بارد، وفقًا لشهادات الشهود، ثم طُمرت جثامينهم في حفرة ترابية قرب منطقة تل السلطان في رفح، جنوبي القطاع.

المجزرة التي ارتكبت في فجر 23 آذار/مارس الماضي هزّت الشارع الفلسطيني وأثارت استنكارًا واسعًا، خاصة بعد العثور على الجثث مقيدة الأيدي وعليها آثار تعذيب واضحة. وقد أجرت صحيفة "الغارديان" مقابلات مع ذوي الشهداء الذين تساءلوا: "ما هي جريمتهم؟"

صالح معمر.. مسعف نجا من الموت مرتين وقاده قلبه إلى الثالثة

في منزل عائلة معمر في خانيونس، بدا الحزن مخيمًا كظل ثقيل لا يغادر. بلال معمر، شقيق الضحية صالح (45 عامًا)، يروي اللحظات الأخيرة قبل أن يغادر صالح منزله متجهًا إلى ورديته الليلية: "اشترى كميات كبيرة من المواد المنزلية، وقال إنها ستفيد عائلته في المستقبل… وكأن قلبه شعر أنه لن يعود".

"عرفت وجهه بصعوبة، كان مصابًا بأربع رصاصات في صدره، إحداها مرت من يده إلى قلبه...ربما كان يحاول صد الرصاص بيده"

كان صالح قد نجا من الموت مرتين خلال حرب الإبادة الحالية؛ مرة حين أصيب برصاصة قرب قلبه، وأخرى حين جُرح في كتفه خلال مهمة إنقاذ. "كان يقول لي مازحًا إن الثالثة ستكون القاضية، لكنها لم تكن مزحة"، يقول بلال.

غزة

انضم صالح إلى جمعية الهلال الأحمر عام 2008 بعد أن أنهى دراسته في إدارة الأعمال بجامعة الأزهر، لكنه ترك كل شيء ليكرّس حياته في خدمة الجرحى والمصابين. يضيف شقيقه: "لم يكن مجرد مسعف، بل كان إنسانًا بكل ما تعنيه الكلمة. كان يصلح سيارات الإسعاف بنفسه، يزور المصابين في بيوتهم، ويوزع الأدوية التي يملكها".

عند الساعة الرابعة فجرًا، وبعد تلقيه بلاغًا بفقدان زملائه إثر غارة إسرائيلية على منطقة هاشاشين في تل السلطان، قاد صالح قافلة إنقاذ ضمت 13 من زملائه، بينهم عناصر من الهلال الأحمر والدفاع المدني، بالإضافة إلى سيارة تابعة للأمم المتحدة. لكن القافلة لم تصل إلى مبتغاها. بحسب منذر عبد، المسعف الوحيد الذي نجا من كمين القوات الإسرائيلية، تم اعتقاله تحت تهديد السلاح، ثم أُجبر على مشاهدة القافلة وهي تُستهدف واحدة تلو الأخرى. بعدها، شاهد حفارًا عسكريًا يجهّز حفرةً كبيرة تم طمر المركبات والجثث فيها.

قضت العائلات أسبوعًا في حالة من الانتظار القاتل، حتى وردت مكالمة تخبرهم بالعثور على الجثث في مستشفى ناصر في خانيونس. يقول بلال معمر: "عندما وصلت، رأيت الكفن الأبيض مكتوبًا عليه اسم أخي، فتحت الغطاء وتساءلت مترددًا: هل هذا هو؟ لم أكن متأكدًا حتى رأيت خاتمه". ويؤكد بلال أن على جسد أخيه علامات واضحة على التقييد والكسر، خصوصًا في اليدين والأصابع، ما يثير الشكوك حول تعرضه للتعذيب قبل الإعدام.

محمد بعلول.. المسعف الذي أنقذ الأرواح بلا مقابل

في زاوية أخرى من المستشفى، جلس صبحي بعلول، في صمتٍ مطبق. أمامه جثمان ابنه محمد، المتطوع في الهلال الأحمر منذ عام 2018، والذي لم يكن يتلقى أي أجر مقابل عمله. يقول الأب الستيني: "كان في طريقه ليصبح موظفًا، لكن ذلك لم يكن يهمه. كان يؤمن أن الخير يُفعل لوجه الله".

يحمل محمد شهادة في التمريض من جامعة الأزهر، وكان يتابع دراسته في الإدارة الصحية بجامعة القدس المفتوحة، ويحلم بأن يصبح قائدًا في الطواقم الطبية، الوالد صبحي بعلول تحدث عن تلك اللحظة الصعبة التي تعرف بها على جثمان ابنه: "وجدنا في جيبه هويته، وعرفت وجهه بصعوبة، كان مصابًا بأربع رصاصات في صدره، إحداها مرت من يده إلى قلبه"، قال صبحي، مضيفًا بصوت منخفض: "ربما كان يحاول صد الرصاص بيده".

دحض رواية الاحتلال

جيش الاحتلال الإسرائيلي أصدر بيانًا مقتضبًا قال فيه إن قواته أطلقت النار على "مركبات تقدمت بشكل مريب دون إشارات إنقاذ"، مدّعيًا أن مقاتلين من حركة حماس استخدموا سيارات الإسعاف للتنقل، دون تقديم أي دليل.

لكن عائلات الضحايا اعتبرت هذا الادعاء "إهانة مضاعفة". يقول بلال: "هؤلاء كانوا أناسًا يقدمون خدمات إنسانية فقط. لا يحملون سلاحًا ولا يشكلون خطرًا. فلتخبروا، ما كانت جريمتهم؟".

إلا أن صحيفة "نيويورك تايمز" دحضت مزاعم الاحتلال، ونشرت اليوم السبت مقطع فيديو يبيّن اللحظات الأخيرة لطواقم الإغاثة الإنسانية في منطقة تل السلطان بمدينة رفح جنوب قطاع غزة، قبل أن تستهدفهم قوات الاحتلال الإسرائيلي بوابل من الرصاص. وأوضح الفيديو أن أضواء سيارات الإسعاف والدفاع المدني كانت تعمل، مما يُنقض مزاعم جيش الاحتلال الإسرائيلي بأن قواته لم تكن تعلم أن الهدف الذي استهدفته كان فريقًا إنسانيًا.

الفيديو، الذي تم العثور عليه على هاتف أحد المسعفين الذين تم اكتشافهم في مقبرة جماعية في غزة، يوثق الحادثة بشكل واضح. يظهر الفيديو قافلة من سيارات الإسعاف وشاحنة إطفاء تتجه جنوبًا على أحد الطرق شمال مدينة رفح. جميع المركبات تحمل الأضواء التحذيرية المضيئة بوضوح، مما يثبت أنها كانت في مهمة إنسانية. وبعدما توقفت القافلة لإسعاف إحدى سيارات الإسعاف التي تعرضت للهجوم، سُمِع صوت كثيف من النيران الإسرائيلية التي أدت إلى استشهاد كامل أفراد القافلة الإنسانية.