23-أكتوبر-2019

إريك يوهانسون/ السويد

"لا أستطيعُ الحضور، فأنا الآنَ مشغولٌ بالحربِ الباردة التي أخوضها يوميًا مع العزلة، بالقصفِ العشوائيِّ للعتْم، بالاكتئابِ الممنهجِ وغاراتِ الوحدةِ التي تستهدفُ المطبخ، بحواجزِ التفتيشِ التي تقفُ بيني وبين الصيف، بالبيروقراطية بسببِ فَصْلِ السلطاتِ التشريعيةِ والتنفيذية، بالروتينِ في دائرةِ الضريبة، لقد حدَّثْتَنِي طويلًا عن الحرب، دعني أحدِّثك قليلًا عن السلامِ الذي أنعمُ به هنا في الشمال، دعني أحدِّثك عن تدرجاتِ لونِ البشرة، عن معنى ألَّا يعرفَ الناسُ أنْ يلفظوا اسمك، عن الشَّعر الأسود، عن الديمقراطيةِ التي تقفُ دائمًا في صالحِ الأغنياء، عن التأمين الصحِّي الذي لا يشمل الأسنان لأنَّها ليست جزءًا من الجسد، دعني أحدِّثكَ عن الخضار التي لا طعمَ لها، عن الورودِ التي لا رائحةَ لها، عن العنصريةِ المغلفةِ بابتسامة، دعني أخبركَ عن الوجباتِ السريعةِ والقطاراتِ السريعةِ والعلاقاتِ السريعة، عن الإيقاعِ البطيءِ والحزنِ البطيءِ والموتِ البطيء" (من ديوان "لا أستطيع الحضور").

من لم يجرب لاإنسانية شتاء السويد، فعليه أن يعلم أن الڤايكنغ كانوا يعتقدون أن جهنم هي مكان متجمد يضعك الله فيه على خطاياك

في هذا المقطع المأخوذ من قصيدة "لا أستطيع الحضور" التي كتبتها عام 2013، كنتُ أصف نوعًا من العنف الذي يحدث بصمت، والذي يجيء على شكل خليط من العزلة والوحدة والغربة والاستقلالية، مُضافًا إليها بردٌ قارس وعتمٌ طويل، مترافق مع نقصٍ حادٍ في ڤيتامين د، خليط لم أستطع أن أحدد ماهيته بالضبط، ولكنني أطلقت عليه اسم: الاكتئاب الممنهج، هذا الاكتئاب الممنهج كان قد أصبح أحد أصدقائي الأوفياء، في هذا البلد الرائع صيفًا، اللاإنساني شتاءً، ولمن لم يجرب لاإنسانية شتاء السويد، فعليه أن يعلم أن الڤايكنغ وهم السكان الأصليون، كانوا يعتقدون أن جهنم هي مكان متجمد يضعك الله فيه على خطاياك.

اقرأ/ي أيضًا: غياث المدهون.. الشعر في مواجهة الفيزياء

(يشير المخرج السويدي إريك غانديني في فيلمه "النظرية السويدية في الحب" 2016، إلى أن واحدًا من كل أربعة سويديين يموت وحيدًا وأن 2,7 مليون سويدي يشعرون بالوحدة)، وأريد أن أوكد هنا أنني واحد من هؤلاء الـ 2,7 مليون سويدي، وأنني أتمنى ألا أموت وحيدًا.

لكنني كسويدي، وفي كل مرةٍ أشعر فيها بالحزن لكوني في السويد، أتذكر فنلندا، فأشعر بسعادة غامرة لمجرد وجودي في السويد.

فنلندا، هذا البلد التعيس، البارد، المصاب بالاكتئاب، الذي لا يتكلم، حتى أن برتولد بريخت قال إن الفنلنديين، الذين لديهم لغتان رسميتان، الفنلندية والسويدية، هم الأشخاص الوحيدون في العالم الـ"صامتون بلغتين".

كنتُ وأصدقائي السويديين، دائمًا ما نفكر بتعساء الحظ من اللاجئين الذين قادهم قدرهم إلى ذاك البلد الذي لا يبتسم أبدًا "حتى للرغيف السخن" كما نقول بالعربية. لك أن تتخيل عزيزي القارئ، مدى فداحة الكآبة في فنلندا، فكر فقط بأننا نحن السويديين، المشهورة بلادنا في العالم أجمع بكآبتها ونسب الانتحار العالية فيها، نشعر بالأسى تجاه فنلندا.

الآن، وللعام الثاني على التوالي، حصلت فنلندا على لقب أسعد بلد في العالم من خلال تقرير السعادة العالمية. علاوة على ذلك، تقدمت جميع الدول الإسكندنافية في قائمة أفضل 10 دول في نفس التقرير، والتي تصنف مستويات السعادة لـ 156 دولة باستخدام بيانات من استطلاعات الرأي التي أجرتها مؤسسة جالوب العالمية. لكن هل فنلندا سعيدة فعلًا؟ هل قابلتم أحدًا من فنلندا؟ هل هم سعداء فعلًا أكثر من المصريين والبرازيليين والهنود؟ وهل نجح هذا العالم الرأسمالي المتغول بربط السعادة بالرفاه المادي وازدياد الممتلكات؟

يُقال إنَّ هنالك رجلاً سُئلَ عن أحلامه، فأجاب: أنْ يحصل على عملٍ ومنزل وزوجة. فقيل له: سألناكَ عن أحلامك وليس عن حقوقك.

متى أصبح توفر الحقوق مؤشرًا على السعادة؟ وما هي الحياة الجيدة بالضبط؟

لطالما فكرتُ بالحياة، الحياة بمعناها المجرد، وأسئلتها الوجودية، ولم أفكر بجودتها، ولطالما كنتُ متشككًا بالثقة الزائدة بالنفس التي يتمتع بها العديد من الأفراد في العالم الأول عمومًا، وكنتُ دائمًا ما أتساءل، ماذا لو أن الحياة في العالم الأول تعتبر حياة جيدة حسب المقاييس التي وضعها العالم الأول نفسه؟

حين وصلتُ إلى السويد عام 2008، كنتُ مفتونًا بالعدد الكبير من الناس الذين يقرأون في المترو، أعجبتني فكرة أن الناس يقرأون بنهم، دائما ما ارتبطت القراءة عندي بالثقافة، والثقافة، بالحياة الجيدة. اليوم، وبعد أن قضيت مدة لا بأس بها هنا، أدركت أن أغلب الكتب التي يقرأها الناس في المواصلات هي كتب تجارية رديئة، لا يوجد لها أي قيمة من أي نوع، أغلبها قصص بوليسية مكررة، أو جرائم معلوكة، أو زومبي ومصاصي دماء.

هذه الكتب رديئة إلى درجة أن هؤلاء القراء سيصبحون مثقفين أكثر لمجرد أنْ يتوقفوا عن قراءة هذه الكتب.

الآن يمكنني القول إن نسبة الذين يقرأون كافكا مثلًا، هي نفسها في الشرق الأوسط وأوروبا.

في تلك الأيام، وحين كنتُ لا أزال طازجًا في هذه القارة العجوز، أي بعد وصولي إلى السويد بسنة، وقَّعتُ عقد إيجار شقة في ستوكهولم، بعد معاناة السكن مع آخرين، والتنقل من سكن رديء إلى آخر. كلّمت أمي في سوريا عبر الموبايل، كنتُ أخبرها وأنا أكاد أطير من الفرح، أنني حصلت على شقة سكنية، وهذا أمر نادر الحدوث لمن وصل حديثًا إلى السويد. انتقلت عدوى الطيران من الفرح إلى أمي، وسألتني في خضم الحديث عن مساحة الشقة، فجاوبتها 27 مترًا مربعًا. ساد صمت طويل بعدها، سألتني، هل تعني أنك ستسكن في غرفة بشقة كبيرة مشتركة مع أشخاص آخرين؟ قلت: لا، شقتي الجديدة مساحتها 27 مترًا مربعًا، ساد بعدها صمت أطول من السابق. أذكر أنها سألتني إن كنتُ أمزح، أو أنني أعيش في السويد فعلًا، قالت شيئًا يشبه أن السويد مشهورة بغناها ورفاهية مواطنيها، كيف شقة 27 مترًا مربعًا؟ كيف يمكن أن أشرح لأمي أنَّ السويد المشهورة بالرفاهية، مشهورة أيضًا بشققها التي تشبه علب الكبريت، وكثير منها مثل شقتي التي هي أصغر من أي مطبخ في أي شقة في سوريا، البلد الذي يقع في العالم الثالث.

وعلى سيرة أمي، كثيرًا ما كنتُ أسمع حين أتصل بها إلى سوريا، صوت انفجارات القنابل كخلفية موسيقية لهذا الاتصال، وكانت أمي التي اعتادت القصف بعد عدة سنوات من الحرب التي يقوم بها النظام السوري على المدن السورية، تخبرني على وقع أصوات القنابل ماذا طبخت اليوم، وكيف أنها قلت الباذنجان وتبلته بالثوم، قبل أن تضيف الطماطم الطازجة وزيت الزيتون البكر والفلفل الحار الذي زرعه أبي في حديقة بيتنا إلى الطبق، وكيف أن الطبق اليوم خضري، لأنهم لم يستطيعوا أن يصلوا إلى اللحام لشدة القصف، وكنتُ أنا أدخل هذا العالم السوريالي كمن يدخل السينما.

الحياة الجيدة أن تشرب كأس ماء نقي في ستوكهولم دون أن تشعر بالغصة لأن أمك عطشانة، بسبب الحصار الذي فرضه النظام السوري على المدن السورية

وقد حدث قبل سنتين أن حذرت نشرات الأخبار من أن هنالك عاصفة قوية سوف تضرب السويد، ولا أزال أتذكر صوت أمي يصلني من بين أصوات القنابل، حين اتصلت مرعوبة لتطمئن علي، لأنها سمعت من خلال نشرة الأخبار في قناة الجزيرة عن العاصفة.

اقرأ/ي أيضًا: طبعة ثانية من "أدرينالين" لغياث المدهون

في قصيدة "الحليب الأسود" التي كتبتها عام 2016، يرد هذا المقطع: "وفي نفس الزمكان الذي أتمتّعُ فيه بالرفاهية في أقصى شمال أوروبا، في بلدٍ يحوي سبعًا وتسعين ألفًا وخمسمئة بحيرةٍ من الماء العذب، تخبرني أمّي أنّها عطشانة، فأتذكّر رواية الغريب...

...

وأحاول ألا أتذكّرُ ألبير كامو" (من ديوان "أدرينالين").

الحياة الجيدة هي أن تشرب كأس ماء نقي في ستوكهولم حتى ترتوي دون أن تشعر بالغصة لأن أمك عطشانة، بسبب الحصار الذي فرضه النظام السوري على المدن السورية.

 

  • شهادة سوف تُلقى قريبًا في مهرجان "أيام الأدب الأوروبي" (European Literature Days ) في النمسا

 

اقرأ/ي أيضًا:

شيزوفرينيا

"أدرينالين" في القائمة الطويلة لأفضل كتاب مترجم إلى الإنجليزية