11-ديسمبر-2018

بدأت احتجاجات السترات الصفراء مرحلة جديدة بعد خطاب ماكرون (Getty)

انتظر الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، يومين، كي يخرج مخاطبًا شعبه للمرة الثانية منذ حلول الاحتجاجات الصفراء. اختار توقيتًا مميزًا، في الثامنة من مساء الثلاثاء، ليلقي على الفرنسيين كلمة ترقبوها. وفي اثنتي عشرة دقيقة قال الرئيس كل ما في جعبته، وما ينتظره الشعب. كانت خلاصة الحديث أنه يتحملُ مسؤولية الوضع الاقتصادي، ولهذا سينتهج سياسة اقتصادية جديدة.

 يتساءل المراقبون عن مدى نجاح ماكرون في إدارة أزمة احتجاجات السترات الصفراء، وما المرحلة التي ستلي خطابه؟

بعد المظاهرات الصاخبة، والمواجهات العنيفة، ثم الوجود الأمني المكثف وتعطيل عدد من المصالح الحيوية، التي كانت سمة يوم السبت الماضي، عطلة نهاية الأسبوع الرابعة منذ بدء حركة السترات الصفراء، يتساءل المراقبون عن مدى نجاح ماكرون في إدارة الأزمة، وما المرحلة التي ستلي خطابه؟

موجز التحرك الرابع

عشية يوم الاحتجاجات في قلب العاصمة الفرنسية، السبت 8 كانون الأول/ديسمبر، أعلنت الحكومة عن خطة جديدة لإدارة أمن اليوم الموعود، بمضاعفة عدد رجال الشرطة في الخدمة، وحصر المحتجين في شوارع محكمة السيطرة، وإغلاق أخرى في وجههم.

كل هذه الإجراءات لم تمنع السترات الصفراء من النزول بثقلها في شارع الشانزيليزيه والجادات المتفرعة عنه، ليعرف اليوم صخبه كلما اقترب إلى منتصف النهار، وتندلع الصدامات.

اقرأ/ي أيضًا: انتفاضة "السترات الصفراء".. الهامش في مواجهة فرنسا المعولمة

رجوعًا إلى بداية اليوم، بدا أن ورقة كاستانير الرابحة لإدارة الأزمة كانت الاعتقالات، التي منذ الساعات الأولى للصباح ارتفعت بأعداد مهولة، احترازية في بعض الحالات، وأغلبها عشوائي. من لجان التفتيش التي نصبتها الشرطة والدرك الفرنسي في شوارع المدينة، وحيث اعتبرت أقنعة الغاز وحدها دليلًا كافيًا لإدانة المتظاهرين بالتخريب، وإحالتهم إلى الحجز. مما يبين أن السلطة لا تملك جوابًا للشارع غير الحديد، فيما لم تكن حملة الاعتقالات هذه مجرد حاجة تكتيكية وليدة ظروفها اللحظية، بل كانت نية مبيتة لوزير الداخلية، كما وضحت تقارير وأخبار على طول الأسبوع الماضي، عن توسيع القدرة الاستيعابية لمخافر باريس وسجونها.

في حين عاش سكان العاصمة باريس وزوارها صبيحة استثنائية، بمشاهد غريبة ليس لهم عهد بها من قبل، جابت مدرعات الدرك شوارع باريس تزرع الهلع في الناس، وتوزع 8000 عسكري على مستوى المدينة وحدها.

لم تمر المظاهرات بالسلام الذي يؤمن لسكان الإيليزيه نهاية الأسبوع على شاكلة الذي عهدوه ما قبل الانتفاضة، وسرعان ما ارتدت السلمية تحت الحصار، والقمع والاعتقالات حرب شوارع بدائية، كانت فيها الحجارة مقابل القنابل المسيلة للدموع، والمدرعات في وجه المتاريس، والمسلحين في وجه العزل.

كأي سلطة غاشمة، لا جواب لها غير الحديد، وكأي انتفاضة شعبية في الكفة الأخرى من المعادلة، وجد 136 ألف متظاهر سلمي أنفسهم وسط مصيدة على مستويين، سياسيًا وماديًا، والحصيلة: 2000 معتقل 1082 منهم فقط بباريس، و264 جريح 85% منهم مدنيون.

ماكرون على الشاشة

زيادة 100 يورو للحد الأدنى للأجور على المدى القريب، وإلغاء الضرائب على مستحقات ساعات العمل الإضافية، وكذا إلغاء الضرائب على معاشات المتقاعدين التي قيمتها أقل من 2000 يورو، واستجداء أرباب العمل لتعميم منح مكافآت الشهر الثالث عشر والتي بدورها ستكون معفاة من الضرائب، والاستمرار في تعليق تطبيق الضرائب الجديدة على المحروقات. هكذا أتت القرارات الإصلاحية، والتي أسماها ماكرون "حالة طوارئ اقتصادية واجتماعية".

في المقابل، حضرت لهجة الوعيد التي افتتح بها ماكرون خطابه، تجاه من أسماهم "الاستغلاليين الذين تحينوا فرصة الغضب الشعبي الصادق ليضللوا الشعب، والسياسيين الذين لا هم لهم غير تقويض الجمهورية"، أمام كشف عمق التفتق الذي خلقته حركة السترات الصفراء داخل الجسد السياسي الفرنسي، من حيث هي تهديد صريح لإنهاء السيطرة الماكرونية المطلقة على البرلمان، بيد المعارضة التي ما فتئت تطالب بحل الجمعية العامة والدعوة لانتخابات تشريعية مبكرة.

هذا وقد طغا على نص الخطاب جانب عاطفي، بدا أن موقعه مدروس جدًا، حيث يسبق ويتلو المقطع الذي يسرد فيه رئيس الدولة مجمل إصلاحاته. وبشكل أقرب للضرورة الإخراجية منه إلى العفوية، ينطق ماكرون كلماته باستثقال، والكاميرا تركز ما أمكن على عينيه اللتين تغرورقان دموعًا، ساردًا معاناة الجملة العظيمة من الشعب التي تكدح لإتمام شهرها دون الحاجة إلى مد يدها.

"اعتاد المواطن الفرنسي على هذه البكائية"، كما تقول زينب أزكيط المحللة السياسية المغربية المقيمة بباريس، مضيفة أنه "ليس كل مرة تسلم جرة ماكرون، والأوضاع في هذه اللحظة أكثر استثارة من سابقاتها، والفرنسيين صاروا أكثر انتباها لمحاولات احتوائهم".

ثم إنه "من الأكيد أن ماكرون، وحكومته، ينتظرون سبتًا قادمًا أكثر زخمًا من سابقيه". تعلل المتحدثة قولها، كون الخطاب السائد عند السترات الصفراء ردًا على الرئيس، هو أن كل ما أتى به ترقيع لوضع قائم، في وقت خرجت السترات الصفراء من أجل تغيير بنيوي للنظام الاجتماعي.

في انتظار التحرك الخامس

كل الارتسامات التي التقطت أمس بعد الخطاب الرئاسي تصب في نقطة واحدة، تشير إلى كون "ما قاله ماكرون ليس كافيًا!". حيث لا زالت الاحتجاجات تأخذ منحىً تصاعديًا، مع احتمال واسعة لجولة خامسة.

تشبث ماكرون بإعفاء الأغنياء من الضريبة على الثروة، واكتفت مطالبه باستجداء الأغنياء لدفع ضرائبهم واستثمار أموالهم في البلد، دون خلق أي أداة قانونية أو سياسية تلزمهم بذلك

كان التراجع الذي أبان عنه ماكرون في خطابه تراجعًا مشبوهًا، مصاغ بشكل ذكي، وكما يرى مراقبون، فإن خيار الاستمرار في الضغط لن يكون مجرد عناد من الشارع، ما دام مقرونًا بتشبث معلن بسياسات إعفاء الأغنياء من الضرائب، والتضييق على الإنفاق الحكومي الذي يتخذ موقعًا داخل الخطاب بإشارته إلى إصلاح صندوق معونات البطالة، وهي إصلاحات ترمي إلى التقليص من نسب المستفيدين منه، واضعة قوانين قهرية للاستفادة.

اقرأ/ي أيضًا: "السترات الصفراء".. مستمرة في فرنسا مستعدة في أوروبا

كما تشبث ماكرون كذلك بإعفاء الأغنياء من الضريبة على الثروة، واكتفت مطالبه باستجداء الأغنياء لدفع ضرائبهم واستثمار أموالهم في البلد، دون خلق أي أداة قانونية أو سياسية صلبة تجعل من هذه المساهمة إلزامية لطبقة الملاك، في تناقض مع الحزم الذي يطبقه حصرًا على الطبقات الدنيا.

كل هذه النقاط دفعت السترات الصفراء للتساؤل: ما دام الرئيس أقر الزيادات دون إلزام أصحاب رؤوس الأموال بدفع ثمنها، إذًا من سيدفع الثمن؟

هل هذه إشارة بأن الأحزاب ستكون في الشارع ذلك اليوم؟

"تواجه الحركة ضغطًا كبيرًا، في نفس الوقت من تسييسها المفرط وكذلك من نفي صبغة السياسي عليها"، كما تبين زينب أزكيط لـ"ألترا صوت"، موضحة أن هذا التسييس المفرط للقضية من طرف السياسيين الفرنسيين، ينقلها من مجال صراعها الشعبي إلى صراع المصالح السياسية داخل مؤسسات الدولة، وهذا ما يمثل لحركات كاليمين واليسار الحزبيين، وبكل تلاوينهما، فرصة لإيكال الضربات المتتالية لسلطة "فرنسا إلى الأمام". وهذا ما يفسره التسابق الذي تشنه هذه القوى السياسية من أجل ضم السترات الصفراء إلى جانبها، لدرجة يمكن لها المغامرة والنزول للشارع يوم السبت.

في حين، يكون الرد على هذا التسابق على يد الإعلام الفرنسي،  بعكس الإفراط أي في عدم تسييس الحركة، من أجل تهريبها من أيدي المعارضة في البرلمان.

الإعلام في وجه الشعب

بالانتباه إلى الدور الذي يتصدره إعلام السلطة في مواجهة حراك السترات الصفراء، يمكن ملاحظة حصر الأضواء على الحركة وحدها، بباريس وحدها، وفي فرنسا فقط، كمحاولة لتركيز الصراع في نقطة واحدة، أو التقليل من أهميته. كما يمكن تأويل هذا الخطاب كأحد محاولات السيطرة الأداتية على الحراك، دون توخي نقل الصورة كما هي في ضوء الواقع. أي يمكن الحديث عن تضليل إعلامي، بل كذب متعمد عبر الشاشات والمانشيات.

ومع إهمال تغطية التحركات الطلابية الجادة، خاصة في تقويض إمكانات السلطة البوليسية عبر الصمت السلمي والصنمية الاحتجاجية وإغلاق الجامعات المفتوح التي تعرفه البلاد، وكذلك اتساع شرارة السترات الصفراء في بلدان أوروبا الأخرى. يتبين الدور المنحاز للسلطة الذي يلعبه إعلامها. بينما تشير اللحظة التاريخية بوضوح إلى فضح فشل الهيكلة النيوليبرالية التي انتهجها ماكرون معتقدًا أنه في ثمانينيات مارغرت تاتشر ورونالد ريغان. في هذه الحالة، يتضح أن سياسات البنك المركزي الأوروبي لا تمس الحكومات "الوسطية" فقط، إنما تهيمن على المشهد الإعلامي وتسوق لخطاب تشويه الواقع بما يحقق استدامته.

في فرنسا، بلجيكا، ألمانيا وهولندا يطفر التناقض إلى مستوى المعاينة الإمبريقية، إذ تجذر الصراع الطبقي تراكميًا وبالتدريج. بينما التحمت القوى التقليدية المهيمنة حول بعضها، ضمن شعارات التخدير والوعود الكاذبة للجماهير. هكذا تشكلت حلقة الوصل التنفيذية لمخطط السحق الممنهج للطبقات العاملة بأوروبا كلها، والحق أن هذه النسخة من ادعاء "الديمقراطية" لا تعدو أن تكون سوى أداة سحق طبقي واستدامة للنظام القائم، دون تقديم حلول، حتى لما يهدد إغراق هذا النظام فاشيًا.  ليبقى  التعلق بما يفيد تاريخيًا من الحدث الراهن. أي أن الحسم لا يمكن له الارتهان لإسكات الجمهور بامتيازات ترقيعية وخدع إعلامية، كما يعتقد ماكرون على ما يبدو.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

الدولة العميقة.. "مؤامرة" بلا متآمرين

يسار ساندرز ويسار سيريزا.. بلا تشبيه!