22-سبتمبر-2022
 شارع الرشيد في بغداد 1995

شارع الرشيد في بغداد 1995

في أحد الأيام، قرّر روائيّ مغمور ـ في رصيده عشر روايات مطبوعة، ومثلها مخطوطة، ومثلها في البال ـ أنْ يفتح محلًا يعتاش منه، على الأقل كي يريح أمّه العجوز من مصروفه، علمًا أنه تجاوز الخمسين عامًا. 

وعندما استطاع تجهيز المحلّ باقتطاع الغرفة المطلة على الشارع، وتدبير البضاعة بالتقسيط، توقّف خياله أمام الاسم الذي سيطلقه عليه، مستجلبًا مكابدة العنوان من حقل الكتابة. وبعد فترة تعثر طالت بعض الشيء، لمع في رأسه الاسم وهو يحلق ذقنه صباحًا، وكان سيقول للجميع أنّ المرآة هي من اقترحته لو أنه يضمن مرور الفكرة دون فضيحة.

لطالما كانت أسماء المحلات التجارية، والعبارات التي تكتب على الواجهات، بمثابة فرصة للإطلاع على شخصيات أصحابها، خصوصًا أثناء التمشي، أو الركوب في المواصلات العامة

في ظهيرة ذلك اليوم كان الخطّاط يكتب عبارة "بقالية الفينيق" فوق واجهة المحل مقابل ثلاث علب مرتديلا.

وسرعان ما احترق الفينيق دون أن يقوم من رماده، وحلّت خسارة مريعة تسببت بإغلاق المحل، وكل ما خرج به صاحبنا من هذا المشروع هو الاسم فقط، حيث بات الجميع، كبارًا وصغارًا، ينادونه به، ومن ضمنهم المرحومة أمه التي لحنت جملة من تأليفها.

لطالما كانت أسماء المحلات التجارية، والعبارات التي تكتب على الواجهات، بمثابة فرصة للإطلاع على شخصيات أصحابها، خصوصًا أثناء التمشي، أو الركوب في المواصلات العامة، حيث نترك لعيوننا الحرية في أن تلوك تلك الجمل والتراكيب بصمت.

وعلى الأغلب ما من أحدٍ لم يسمع بخبر الجزار الطريف، المثقف أيضًا، وقد ذاع صيت محله "ملحمة جلجامش"، على الرغم من غياب الصلة كليًا ما بين الملاحم القديمة وبين بيع اللحوم، إلا في ما يخصّ الجانب اللفظي.

وراء كل لوحة، أو لافتة مضيئة كانت أم عادية، قصة تستحق أن تروى، وسيرة نغفل عنها لانشغالنا بفرضيتها أكثر. ثمة من سمّى ورشة تصليح السيارات التي يملكها وفاءً لذكرى مدينة عاش فيها ردحًا، وثمة من أراد تخليد عائلته على المستطيل المعدني، وثمة من وضع اسمًا، ووضع الناس اسمًا آخر، اضطر لتبنيه لسعة انتشاره.

لا أحد في دمشق ينسى مطعم الفول الشهير "صلّح له"، ملتقى البؤساء الأثير، خلف سوق القرماني، والذي أزيل مع السوق، لكن ما من قوة يمكن أن تزيل اسمه أو طعم فوله كثير الثوم من الذاكرة.

لم يفكر أحد بقراءة اللافتة التي تحمل اسم المطعم، فالجميع يعرفونه باسم "صلّح له"، أما التقليد المتبع فيه فهو دفع 25 ليرة سلفًا، وعلى الفوّال أن يظلّ يجدد الصحن، أو "يصلّحه" بالأحرى، إلى ما شاء كرش الزبون.

ثمّة تاجر مطرزات شرقية لا يكف عن تغيير اسم متجره، ففي فترة هو "مطرزات هدى"، وفي فترة أخرى  "مطرزات شادية"، وفي فترة ثالثة تصبح "مطرزات سوسن"، ومع ذلك الأمور على ما يرام، وحركة البيع بخير، والزبائن على تعاملهم، أمّا ذلك التغيير فلا يعدو أكثر من كونه تغييرًا لحبيبة التاجر!

في اسم "فلافل بيسان"، المحل الذي تعرفه كل دمشق، كثير من الجاذبية والغموض في آن. وليس سرًا أن الناشر سعيد البرغوثي هو صاحب هذه العلامة التجارية، فالرجل الذي جرّب من المهن أغلبها وانتهى إلى "المهنة الأسوأ"، كما يقول عن النشر، أسّس المطعم، وأعطاه رونقه الأول باسمه المأخوذ من مدينة بيسان الفلسطينية، مع أنّه باعه بسبب حسابات خاطئة وحظّ عاثر.

ربما حملت أسماء المحلات نتفًا من سير أصحابها، وربما أضاءت جوانب من شخصياتهم، لكنها حتمًا سطور حاسمة في سير أمكنتنا، بتحولاتها الاجتماعية وتقلبات مزاجها العام

في مرحلة سابقة، كان الناس يميلون إلى إطلاق أسماء بناتهم على المتاجر والمحلاّت، وهكذا كنت تطالع "بشرى للالكترونيات" و"مكتبة هديل" و"سفريات نور"، وقد وصل شغف الاحتفاء بالبنات أن أصاب رجلًا بالهوس، فأطلق أسماء بناته كلهن دفعة واحدة على باب رزقه "ملبوسات رهف.. للأفراح والمسرات وتحقيق الأماني".

غير أن هذه العادة تراجعت وحلت مكانها عادة إطلاق تسميات دينية على المحلات، من قبيل "ألبان وأجبان طيبة" و"مأكولات الرحمن". غير أن الورع الديني البارز في تلك التسميات لا يعني بالضرورة أن أصحاب المحلات سيتخلون عن الغشّ والكذب.

وعلى الرغم من تغير المزاج العام باستمرار، سوف تظل هناك تسميات تأتي بتأثير من السينما والتلفزيون، فكم من محل حملَ اسم "أحذية العرّاب"؟ وكم من محل بدّل اسمه من "ملبوسات الحاج متولي" (تيمنًا بمسلسل مصري شهير ظهر بداية الألفية الثانية)، إلى "ملبوسات سنوات الضياع" (تيمنًا بمسلسل تركي شهير دبلج إلى العربية باللهجة السورية).

المثير حقًا أن يسمّي بائع شاورما محله بـ"شاورما قرطبة"، أو أن تعلن واجهة للمشروبات الكحولية عن نفسها بكلمة مغناطيسية هي "الغاوي".

وإلى جوار هذه الأسماء درجت عادة عند أصحاب المحال في كتابة عبارات لجذب الزبائن، لكن بعضها استطاع أن يتحوّل إلى نكت كاملة الأركان، كأن يكتب بقّال ساذج: "يوجد لدينا ثلج بارد"، أو أن يكتب آخر عبارة تُفصح عن صلاته القوية بالأجهزة الأمنية، بصراحة لا تقبل الشك، حينما يرفع لافتة تقول: "هنا نبيع الدخان المهرّب".

ربما حملت أسماء المحلات نتفًا من سير أصحابها، وربما أضاءت جوانب من شخصياتهم، لكنها حتمًا سطور حاسمة في سير أمكنتنا، بتحولاتها الاجتماعية وتقلبات مزاجها العام.