03-نوفمبر-2020

رسم لـ منكشا تشام/ تركيا

يتهيأ لنا ونحن نقرأ كتابًا أننا نعرفه وأنه يشبهنا، فتكون بيننا وذلك الكتاب الذي نقرؤه علاقه لا تقتصر على الفترة الزمنية لقراءتنا له، بل تمتد إلى أبعد من ذلك بكثير، فعلاقة الكتاب بقارئه ليست علاقة وقتية ظرفية بل علاقة طويلة الأمد والأثر، وهناك كتب أحببناها بقدر ما غيّرتنا وغيرت اتجاهاتنا وبقدر ما جمّلتنا وأضافت لحياتنا، كتب ندين لها بما نحن عليه من أشياء كثيرة وجميلة، ولكن ما لا يعرفه القارئ أن الكتاب الذي يقرؤه في ساعات محدودة أو أيام معدودة، الذي يقبل عليه إقبال الجائع على رغيف خبز طازج أو تناول المترف لقطعة حلوى شهية، قد استغرق الكاتب في كتابته وقتًا أطول بكثير من الوقت الذي استغرقه القارئ في قراءته، ربما أشهر وسنوات، فالكلمة ليست وليدة اللحظة ولكنها نتاج سنوات من التأمّل والإقدام والإحجام بين أن يبقيها في أعماقه ويغلق عليها غرفة قلبه وبين أن يكتبها في سطر ورقة.

أجمل ما في الكتابة المتعة التي يعيشها الكاتب أثناءها، وما يجعله يجلس وراء مكتبه لساعات طويلة هو سحر الفكرة وفتنة الكلمة

وما لا يعرفه القارئ أن أجمل ما في الكتابة المتعة التي يعيشها الكاتب أثناءها، وأن ما يجعله جالسًا وراء مكتبه لساعات طويلة هو سحر الفكرة وفتنة الكلمة، فلا يشعر بالوقت حين يمضي وهو يكتب، لأن جنون الكتابة لا يعرف للزمن حدودًا ولا للوقت موعدًا، ولعل ما لا يعرفه القارئ أيضًا أنّ الكتاب في مسودّته الأولى قد يصل إلى ألف صفحة أو أكثر، لكن  حينما يصل ليد القارئ يكون قد تقلّص وفقد وزنه وتضاءل عدد صفحاته، لأن الكاتب قد أخضعه لحمية قاسية تطلّبت منه حذفًا وشطبًا ونحتًا لجسد ذلك الكتاب حتى بدا رشيقًا وجميلًا دون أن يفقد شيئًا من قيمته، فالكاتب العاشق لكتابه لن يرضَ أن يخرج كتابه مشوّهًا أو مترهّلًا، فهو يحبّه كما يحبّ الأب ابنه، ويريد أن يراه منزّهًا من العيوب لو استطاع إلى ذلك سبيلًا.

اقرأ/ي أيضًا: عن العلاقة بين القراءة والكتابة

وما لا يعرفه القارئ أيضًا أن التمرس في الكتابة لا يصبح أسهل مع مرور الأيام بل يزداد صعوبة، فالكاتب كلما ازداد تمرّسًا واتّسع خبرةً أصبحت الكتابة بالنسبة إليه أصعب وأكثر تعقيدًا مما يظن القارئ أو الكاتب المبتدئ، لأن الكاتب في هذه المرحلة لا يعجبه ولا يرضيه شيءٌ مما كان يكتبه في السابق بل يبحث عن الكمال الذي لن يحصل عليه، وقد يصل الكاتب إلى أنه لا يكتب لأجل قارئ يقرأ ما كتب ولا يكتب بهدف النشر، بل لعشقٍ يضطرم في قلبه لكتابة الكلمة، وهو يدرك أنها لن تأتيه بسهولة لأن الكلمة كلما اقترب منها الكاتب وأحبّها وأخلص لها تصبح عصيّة على الكتابة، متمنّعة على الحضور، فاللغة وحدها لا تصنع كتابًا، والموهبة وحدها لا تصنع كاتبًا، والفكرة لا تصنع نصًا أدبيًا.

وما لا يعرفه القارئ، خصوصًا القارئ المبتدئ، أن بعض الكتب لا تحمل صفة الكتاب إلا بما تحويه من أوراق بغلاف وعنوان وكلمات تملأ الصفحات الفارغة في المجلّد، ولكن الكتب الجيدة تعرّف بنفسها وتصل إلى قارئها الذي يبحث عنها، فكل هذا التصفيق في المحافل الثقافية وكل هذه الإصدارات في معارض الكتب لا تعني الجودة، فليس كل من مسك القلم بكاتب، وليس كل من أصدر كتابًا قد وصل إلى عرش الكتابة ملكًا متوّجًا، لأن الدرب إلى الكتابة وعرٌ وأبوابها محكمة الغلق عصيّة على الفتح.

لا يخاف الكاتب على كتابه من شيء أكثر من خوفه عليه من قارئ جاهل

وما لا يعرفه القارئ أيضًا هو ذلك الشعور الصعب الذي يشعر به الكاتب في اللحظة الأخيرة وهو يسلّم كتابه لدار النشر وما يعتريه من قلق وما تتنازعه نفسه من هواجس شتى وهو يمنحهم الإذن النهائي للطباعة، فتلك اللحظة  تشبه اللحظة التي يسلّم فيها الطالب ورقة الامتحان النهائي للمراقب أو المصحح بعد أن راجعها مرات ومرات، ولا يستريح بل يظل مسكونًا بالقلق على كتابه الذي خرج من بين يديه وأصبح بين يدي قارئ لا يدرى بأي يد سيتناوله وبأي عين سيقرأه، فالكاتب لا يموت بعد إصدار كتابه كما يقال، ولا يتخلى عنه ولا ينساه بل يظل مرتبطًا به لأن شيئًا من روحه وعاطفته في ذلك الكتاب مهما بدا الأمر سردًا متخيلًا، فيخشى عليه أن يتناوله أحدهم بما لا يليق به من فهم ووعي ومحبّة، أو يقرأه قارئ ساذج فيخضعه لتأويلات ساذجة ليس لها علاقة بمعنى ما كُتب في صفحاته، فيفسّر العبارات وفق هواه ومستوى فهمه البسيط، وقد يصل الخوف بالكاتب على نصوصه إلى أنه لو خيّر أن يُبقي ما كتب في أدراج مكتبه لفعل، لكنه لا يملك سوى أن يمنح نصوصه حرية الانفصال عنه لتعيش كأي كائن حي يحق له أن يعيش.

اقرأ/ي أيضًا: القراءة.. مرايا من ورق

ولكن ما لا يعرفه القارئ مما عليه معرفته أن الكاتب لا يخشى على نفسه بأن تكون ثمنًا لفكرة أو كلمة، ولا يخاف على كتابه من شيء أكثر من خوفه عليه من قارئ جاهل.

 

اقرأ/ي أيضًا:

القراءة.. أعظم النعيم

أكذوبة إحصائيات القراءة