09-مارس-2017

أطفال جزائريون بصحراء منطقة تيميمون (Getty)

كان القطار الرابط بين مدينة بومرداس والجزائر العاصمة يلتهم سكّته صباحًا، مثل ثعبان خرج لتوّه من سباته، وكان الركّاب يتثاءبون بين كل نظرة وعبارة، كأنهم ذاهبون إلى النوم لا قادمون منه، فيهم الطالب الذي يقصد طلب العلم والعامل الذي يقصد العمل، بما يجعلك أمام هذا السؤال: أيّ مردود يُنتظر من هؤلاء، ما عدا أنهم يقصدون مؤسساتهم لتبرير الحضور؟

قال كهل لصاحبه: رفض طفلاي الذهاب إلى المدرسة، لأنهما سمعا بأن التلقيح الذي سيتلقيانه فيها، من النوع الذي قد يؤدي إلى وفاتهما، وقد شاهدا أطفالا يعرفانهم أصيبوا بالحمّى ونقلوا إلى المستشفى. نطقت عجوز بالقرب منهما: هذا ما وقع لحفيدتي بالضبط، لقحوها فأغمي عليها، وقد صرنا قادرين على إقناعها بأن تذهب إلى المقبرة، أكثر من قدرتنا على إقناعها بالذهاب إلى المدرسة.

ما أتعس الطفل الجزائري، يفتح عينيه على الخوف، ويكبر عليه، ثم يُنتظر منه أن يكون سويًّا

كان هذا مقدمةً لأن تتحول عربة القطار إلى حلبة للنقاش، فكأن الجميع يعرفون بعضهم. لماذا لا يتواصل الجزائري مع الجزائري إلا بدافع من المشاكل؟ ماذا لو انتقلت حمّى النقاش في القطار إلى المجتمع نفسه؟

قال شاب ظهر من كلامه أنه متوجه إلى الجامعة: "ما أتعس الطفل الجزائري، يفتح عينيه على الخوف، ويكبر عليه، ثم يُنتظر منه أن يكون سويًّا". لفتت النبرة المثقفة في خطاب الشاب سامعيه، فخفتت الأحاديث الجانبية وتوجهت العيون إليه. من قال إن المثقف لم يعد يثير انتباه الشارع الجزائري؟ أم أن سلبيته وندرة اهتمامه بالشأن العام هما السبب في ذلك؟

واصل: "قبل شهور قليلة، كان حديث العام والخاص عن اختطاف الأطفال، حتى أصبحوا يتبولون في أفرشتهم من الخوف، وصار من النادر أن نجد طفلًا، في الساحات والقاعات والشوارع، من غير أن تكون يده في يد أمه أو أبيه، وقد تصرفنا من منطلق حمايته من الوحوش المحتملين، لكنننا لم ننتبه إلى نفسيته، فتركناه مزدحمًا بالعقد والمشاعر التي أفرزها الخوف، ثم فجأةً توقف الحديث عن الاختطاف، كأنه لم يكن، ممّا يشي بأن الأمر كان مفتعلًا لشغل الرأي العام، قصد تمرير مشاريع معينة أو التغطية على خرابات مستفزة".

اقرأ/ي أيضًا: التعليم.. حل أطفال اللاجئين الأفارقة بالجزائر

عقّبت فتاة اعترفت بأنها تعمل في قناة تلفزية خاصّة: "في تلك الأيام، كانت إدارة القناة تأمرنا بأن نترك الشؤون كلها، ونتفرغ للحديث عن طفل اختطفوه، مركزين على تمرير نداءات والديه، وهما يبكيان ويستغيثان، فكان الانطباع الذي يرسخ لدى المشاهد، بسبب ذالك التناول، أن الأطفال جميعًا مهددون، وهي الفترة التي تمّ مرور العهدة الرابعة للرئيس المريض بسلام".

رد عليها الفتى: هل يُعقل أن تسمح الحكومة بلقاح يمكنه أن يقتل ثمانية ملايين تلميذ؟ هذا لا يُعقل، لكنها سمحت للإشاعة بأن تنتشر، حتى تشغل الرأي العام، وهي تُعدّ للانتخابات التشريعية بطريقتها الخاصة.

قبل شهور كان حديث الناس عن اختطاف الأطفال بالجزائر حتى صار من النادر أن نجد طفلًا في الساحات من غير أن تكون يده في يد أمه أو أبيه

يا جماعة، ألم تنتبهوا إلى أن هذا النوع من الإشاعات الملهية، قصد تمرير مشاريع سياسية، تعلقت كلها بالحقل التربوي؟ وكلها من النوع الذي يؤدي إلى إقالة وزيرة القطاع، لكن ذلك لم يحصل، بما في ذلك الضجة التي أحدثها تسريب أسئلة البكالوريا العام الماضي".

كان القطار يتوقف من محطة إلى أخرى، وكان ذلك يؤدي إلى تغيير الركاب، لكن النقاش بقي مفتوحًا، الداخل ينضم إليه بلا عقدة، والنازل يسحبه معه إلى الخارج. قال شاب بفرنسية أنيقة لم تثر حماس الكثيرين: "لقد زرت مدنًا جزائرية كثيرة، فلم أجد فيها فضاءات للعب الأطفال، وما وُجد منها لا يلبي تطلعاتهم، وانتبهت إلى أن كل الأراجيح المنصوبة في الفضاء الجزائري لا تتوفر على شروط السلامة والأمان، فنحن في الحقيقة ندفع بأطفالنا إلى أراجيح غير آمنة، وننصرف إلى أحاديثنا الجانبية".

وصل القطار إلى محطته الأخيرة، فأفرغ ما في جوفه من بشر متثائبين وخائفين على صغارهم، واستعد لأن يمتلئ بغيرهم من جديد. ما أشبهه بالمجتمع الجزائري.

اقرأ/ي أيضًا:
في العمارة الجزائرية: حياة مفخخة
عاملات النظافة في الجزائر.. سلالم الأوجاع