06-سبتمبر-2016

قوات تابعة لحكومة السراج خلال معارك سرت (Getty)

لم يبق على تحرير مدينة سرت بالكامل من قبضة "تنظيم الدولة" إلا أيام قليلة وذلك بعد سيطرة قوات البنيان المرصوص على أغلب المراكز الحيوية في المدينة، حيث من المنتظر المرور للمرحلة الثانية وهي إدارة المدينة وإعمارها. وهي مرحلة تحمل ألغامًا كثيفة لا تقل في خطورتها عن الألغام التي تواجهها القوات الحكومية حاليًا في بعض جيوب المدينة.

تتكوّن القوات الحكومية حاليًا من مجموعات من مدن غرب ليبيا وتحديدًا مدينة مصراتة التي تمثّل "خصمًا" إن لم تكن "عدوًا" لجزء كبير من أهالي سرت

لم تكن قدرة الليبيين على الحسم العسكري في سرت محلّ شكّ، بيد أن القدرة على الحسم السياسي والإداري ما بعد التحرير، ليست فقط محلّ شكّ، بل قد تكون عنوان نزاع متجدّد في سرت.

اقرأ/ي أيضًا: كيف مولت "الأمم المتحدة" بشار الأسد

ولعلّه في هذا الباب من المهمّ التذكير، بأن هذه المدينة تكتسي أهمية بالغة في البلاد، بفضل طبيعتها المجتمعية وإرثها السياسي وموقعها الجغرافي على حدّ السواء. فهي ثالث أكبر مدن البلاد، ومعقل نظام القذافي، وهي رابط الوصل بين غرب البلاد وشرقها، وبالتالي، فهي مدينة مفتاح لأي تسوية للنزاع الليبي.

التنافس بين قوات حفتر من جهة وقوات حكومة السراج من جهة أخرى لتحرير المدينة قبل أشهر قليلة يعكس مدى تمثلها كحجر أساس لمشروع كل فريق. لم يتعلق التنافس حينها بمجرّد حرص كل فريق على توسيع نفوذه الجغرافي بقدر ما يتعلق بمحورية ضمّ مدينة بالثقل المجتمعي والسياسي كسرت لمساحة نفوذ هذا الفريق أو ذاك. ويبدو أن الدعم الدولي لحكومة السراج لعب الدور الحاسم لتنطلق قوات حكومته لتحرير المدينة على حساب قوات حفتر التي باتت خارج إطار "الشرعية". وبعد نجاح قوات حكومة السراج في تحقيق أهدافها، تجيء حاليًا المهمة الأصعب وهي إدارة المدينة.

تتكوّن القوات الحكومية حاليًا من مجموعات من مدن غرب ليبيا وتحديدًا مدينة مصراتة التي تمثّل "خصمًا" إن لم تكن "عدوًا" لجزء كبير من أهالي سرت، فهي عمليًا نفس القوات التي قادت المعارك ضد نظام القذافي في آخر معاقله في نفس المدينة قبل خمس سنوات. ويسود اعتقاد واسع في سرت بأن قوات مصراتة لم تتسبب حينها فقط في إسقاط النظام الذي تمركز ثقله القبلي-الجهوي عندهم، بل بأن هذه القوات تقف وراء عدد من جرائم القتل والنهب إبان المعارك.

في هذا الإطار، تحوّلت مدينة تاورغاء التي تقع بين مصراتة وسرت إلى مدينة مهجّرة بالكامل بعد حملة تهجير ضد ساكنتها إبان حرب التحرير، وظلّت هذه المدينة عنوانًا لمأساة الشرخ المجتمعي في ليبيا. قبل أيام قليلة، انعقد اتفاق بين شيوخ مدينتي مصراتة وتاورغاء لإنهاء هذه المأساة نصّ على إعادة المهجرين لبيوتهم وتعويض لأهالي القتلى والمفقودين.

اقرأ/ي أيضًا: مأزق الخليج في مصر

وإن يجيء هذا الاتفاق التاريخي في موعد حاسم قبيل تحرير سرت بالكامل، يظلّ السؤال على قدرته على التأثير في نزع فتيل النزاعات وتجاوز أحقاد الماضي بين أهالي سرت والمجموعات التي قدمت من غرب البلاد لتحريرهم هذه المرّة من خطر الإرهاب الداعشي.

إن كانت الروابط القبلية بين سرت والمنطقة الشرقية الخاضعة لحفتر هي الأكثر ترابطًا مقابل المنطقة الغربية، فهي أشد متانة في الوقت الحاضر

تنتشر في مدينة سرت قبيلتان أساسيتان هما القذاذفة التي منها يعود معمر القذافي، وكذلك قبيلة الفرجان التي ينتمي إليها خليفة حفتر الذي يقود القوات المسلحة المعارضة لحكومة السراج في المنطقة الشرقية من البلاد. وهما القبيلتان اللتان دعمتا حفتر حينما أعلن عملية الكرامة قبل سنتين.

وقد أفرجت حكومة الثني المدعومة من حفتر، قبل أسابيع، عن سيف الإسلام القذافي من سجنه في الزنتان، في صفقة بين قبيلة القذاذفة وحفتر الذي أشرف طيلة الأشهر الماضية على عودة رموز من نظام القذافي من منفاهم الاختياري. حيث يشكل حفتر حاليًا تحالفًا مع الرموز السياسية والعسكرية للنظام السابق في شرق البلاد وجنوبها تحت عناوين وحدة الدولة وتحقيق المصالحة.

وبالتالي فإن كانت الروابط القبلية بين سرت والمنطقة الشرقية هي الأكثر ترابطًا مقابل المنطقة الغربية، فهي أشد متانة في الوقت الحاضر. وبذلك فإن المناخ الشعبي العام في سرت يظل الأكثر ميلًا في أقل الأحوال للسلطات في الشرق حيث يسيطر حفتر، مقابل التحفظّ في أقل التوصيفات من حكومة السراج.

كما يخشى بالتوازي أهالي سرت أن تقوم مجموعات مصراتة بانتهاكات ضدّهم على غرار ما حصل في الماضي، لتظلّ أزمة الثقة إضافة لصراع النفوذ هي العنصر المسيطر على الأوضاع حاليا في المدينة.

لم تغب صعوبات إدارة مدينة سرت وبسط النفوذ عليها على حكومة السراج، حيث أعلن الناطق الرسمي باسم عملية "البنيان المرصوص" وجود توجّه نحو تعيين حاكم عسكري في سرت، وهو ما يعني بصفة أوليّة تقزيم دور المجلس المحلّي للمدينة.

ويظل السؤال عمومًا حول إذا ما كان يعني تعيين حاكم عسكري يعكس رغبة في تعزيز القوة العسكرية لحكومة السراج في سرت بما قد يشمل لاحقًا مواجهة رافضيها من أبناء المدينة، أم يشير لمواصلة التمدد نحو الشرق ومواجهة قوات حفتر؟

لم تعلن بعد حكومة السراج خططها للمرحلة القادمة وذلك في ظلّ سعي القوى الإقليمية والدولية للالتزام بورقة الصخيرات التي تم تجاوزها منذ أول أيام توقيعها في ظلّ تحفّظ البرلمان على المادة الثامنة منها المتعلقة بالتعيينات في المناصب العسكرية.

كما زاد رفض البرلمان مؤخرًا منح الثقة لحكومة السراج من تعقيد الأزمة وسط حديث عن إمكانية تشكيل حكومة جديدة. وفي كل هذه التخوّفات، يظل السؤال حول قدرة حكومة السراج على اجتياز أهم امتحاناتها في مدينة بالثقل المجتمعي والسياسي كسرت.

اقرأ/ي أيضًا:

صفقة أسلحة تاريخية بين أمريكا وإسرائيل

رجل المخابرات الأمريكية الذي يسبب صداعًا لأمريكا