11-نوفمبر-2018

أسطورة تشرشل عن الحدود السعودية ليست الأردنية صحيحة (تويتر)

ألترا صوت - فريق التحرير

على الحدود الشرقية للأردن مع المملكة العربية السعودية، هناك امتداد حدودي على شكل خط متذبذب، يبدو غريبًا ومحيرًا. ورغم الأساطير والمرويات الكثيرة عن سبب خروج هذه المنطقة الحدودية التي تمت تسميتها لاحقًا بحازوقة ونستون، بهذا المظهر، فإن فرانك جاكوبس يروي في هذه المقالة المترجمة عن صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية، القصة الحقيقية.


ورد أن الكاتب جورج سيمنون قال لزوجته ذات صباح وهما يتناولان الإفطار، "أعتقد أنني سأكتب كتابًا اليوم"، فأجابته قائلةً، "حسنًا، لكن ماذا ستفعل بعد الظهيرة؟!". عُرف ونستون تشرشل بغزارة إنتاجه على نحو مماثل، وليس فقط في مجال الكتابة. ففي سنواته الأخيرة، كان يحب أن يتباهى بابتكاره في عام 1921 للانتداب البريطاني على إمارة شرق الأردن، وهي أول تجسيد ملموس للمملكة الأردنية الهاشمية، "بجرة قلم، في ظهيرة  أحد أيام الأحد في القاهرة".

على الرغم من أن تشرشل ساهم في إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط بشكل كبير، فإن ذلك الجزء من القصة المتعلق بالحازوقة على الحدود الأردنية السعودية ليس صحيحًا

عُرف عن تشرشل أيضًا إفراطه في الشرب، تمامًا مثل جورج سيمنون، ووفقًا لما ذكره البعض، فقد تبعت ظهيرة يوم الأحد المقصودة في القاهرة، تناوله لغداء مكون بالكامل من المشروبات الكحولية. وهو ما ترك أثرًا واضحًا على خط تشرشل، وزير المستعمرات البريطانية آنذاك، إذ اهتز القلم ما بين يديه، وزُعم أن ذلك أنتج خطًا حدوديًا متذبذبًا بوضوح. ولا تزال النتيجة واضحة في خرائط اليوم: ذلك الخط الحدودي المتعرج غريب الشكل الذي يفصل ما بين الأردن والمملكة العربية السعودية.

تبدأ الحدود الأردنية السعودية من خليج العقبة باتجاه الشمال الشرقي على شكل ستة خطوط قصيرة ومستقيمة نسبيًا، تتداخل معًا فيما يشبه مجموعة من السجناء المقيدين بالسلاسل، لا تعرف تمامًا الاتجاه الذي يجب أن تسلكه. ثم تنحرف الحدود فجأة وبشكل مذهل على امتداد 145 كم، نحو الشمال الغربي، متجهةً إلى الساحل اللبناني الجنوبي. لكن في النهاية، يبدو أنها تستعيد مسارها، وتستمر على امتداد 200 كم إلى الشمال الشرقي باتجاه الحدود العراقية في خط شبه مستقيم، وكأنها تهرب من كل تلك التعرجات والمنعطفات.

اقرأ/ي أيضًا: جحيم "سايكس بيكو".. الشرق الأوسط 73 دولة؟

أصبح هذا المثلث الحدودي السعودي الملاصق للجانب الأردني الناجم عن ذلك الرسم واحدًا من أبرز ملامح خريطة منطقة الشرق الأوسط. فمن جهة الشمال، تبعد قمة المثلث ما يقل عن 110 كم عن العاصمة الأردنية، عمّان. ومن جهة أخرى، يمتد أحد الأضلاع لمسافة تصل إلى ما يزيد قليلًا على 160 كم، فيما يمثل أقصر مسافة تفصل بين السعودية والقدس.

قد يكون لتلك الحقائق بُعد من الناحية الجيوسياسية اليوم، ولكن وفقًا لأسطورة إنشائها، فإن الشكل الغريب الذي اتسمت به تلك الحدود لا يُعزى سوى إلى معاقرة تشرشل للشمبانيا والبراندي والويسكي. لا يزال يُطلق على هذا الامتداد الحدودي اسم حازوقة ونستون أو عطسة تشرشل. أليس من المثير للسخرية أن المملكة العربية السعودية، وهي الدولة التي تُحرم تناول المشروبات الكحولية، تدين بجزء من حدودها الخارجية إلى خربشات مسؤول بريطاني مخمور مدمن على شرب الكحول؟

لسوء الحظ، وعلى الرغم من أن تشرشل ساهم في إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط بشكل كبير سمح له بالتفاخر بأن الأردن كانت من صناعته، وبالرغم من ولعه المفرط بشرب الخمر ، فإن ذلك الجزء من القصة المتعلق بالحازوقة غير صحيح بالمرة.

في الواقع، إن إمكانية تصديق تلك القصة تُعزى بشكل كبير إلى سمعة تشرشل، المستحقة عن جدارة والمبالغ فيها في آن واحد، بأنه كان صاحب ذوق رفيع في الطعام والشراب. ولكنها تُعزى بنفس القدر إلى طبيعة الحدود العشوائية الحديثة التي فرضتها أيادِ أجنبية في هذا الجزء من العالم.

وصلت الحدود القومية بالمعنى الحديث إلى شبه الجزيرة العربية في وقت متأخر للغاية. فبينما بسطت الإمبراطورية العثمانية هيمنتها على الأجزاء الأكثر استقرارًا في الشرق الأوسط، بما في ذلك البحر الأحمر وسواحل خليج شبه الجزيرة العربية، تراجع النفوذ العثماني في قلب الجزيرة العربية الصحراوي، الذي كان يحكمه زعماء القبائل المشكوك في ولائهم للباب العالي. واتسمت الحدود بين السواحل التي تسيطر عليها تركيا والقلب العربي لشبه الجزيرة، بالضبابية، وربما كان ذلك في مصلحة الجميع.

لم تظهر الحاجة إلى وجود حدود واضحة المعالم في  المناطق ذات الكثافة السكانية المنخفضة التي تمر بها القبائل البدوية، ولم يُطالب بها أحد. حلت خرائط الإمبراطورية العثمانية مشكلة توضيح الحدود غير الموجودة على الحقيقة عن طريق اختيار خط ثابت ومتذبذب كخط فاصل، وبالتأكيد فإن حدودًا بهذه السيولة والضبابية في الصحراء، لابد وأنها محض سراب أو فاتا مورغانا (نوع من الظواهر البصرية التي تؤدي إلى حدوث تشوه في شكل الأجسام المشاهدة، بحيث يصعب تمييزها).

ما يثير الاهتمام بشأن هذه الحدود التقريبية، بصرف النظر عن الاختلاف الحتمي في "سُمك" الكماشة العثمانية اعتمادًا على الخريطة التي تنظر إليها، هو تلك المناطق العربية المترامية غير الخاضعة للسيطرة العثمانية. في معظم الخرائط، تمتد "المناطق القبلية" التي لا تخضع للحكم المركزي، إلى الشمال، أبعد مما وصلت إليه المملكة العربية السعودية اليوم. تبلغ هذه المناطق بصفة عامة ذروتها عند نقطة شمال شرق دمشق، وهذا يعني أن "الجزيرة العربية التي لم تكن خاضعة للحكم العثماني آنذاك" كانت تضم أجزاء كبيرة مما يعرف الآن بسوريا والأردن والعراق. على الرغم من امتداد تلك الأجزاء لمساحات شاسعة، فقد كانت خاوية على عروشها: وهي المنطقة القاحلة محدبة الشكل من الشرق الأوسط، التي تعرف باسم بادية الشام أو الصحراء السورية.

ولو عاش عالم اللغويات ويليام شكسبير لما بعد عام 1915، لامتدت المملكة العربية السعودية الحديثة على الأرجح إلى تلك البقعة ناحية الشمال. فقد استغل شكسبير، الذي يختلف تمامًا عن الشاعر الإنجليزي المشهور، والبريطاني من أصول هندية، والذي تميز بطبيعته الاستكشافية، منصبه كعميل سياسي في الكويت، منذ عام 1909، لإقامة علاقة صداقة وطيدة مع ابن سعود. كان الملك السعودي المستقبلي آنذاك لا يزال أميرًا على منطقة نجد، وهي منطقة تقع في الجزء الداخلي من شبه الجزيرة العربية. كان شكسبير أول مسؤول بريطاني يتولى الاتصال والتنسيق مع ابن سعود، وأول رجل غربي يرسم خريطة لمنطقة وادي السرحان، وهو منخفض غني بالمياه اتخذته القوافل طريقًا لها، يقع إلى الشرق مباشرة من منطقة حازوقة ونستون. كان شكسبير هو من حث ابن سعود في عام 1914 على مساعدة البريطانيين في حملتهم ضد العثمانيين، الذين تحالفوا مع الألمان في مطلع الحرب العالمية الأولى.

ثم في أوائل عام 1915، قُتل شكسبير في معركة مع عشيرة الرشيدي المتحالفة مع العثمانيين، وقُطعت رأسه، وأُخذت خوذته إلى المدينة المنورة وقدمت كغنيمة للعثمانيين. أفسح موته المجال أمام توماس إدوارد لورنس، وساهم في إحداث تحول جذري في السياسة البريطانية في المنطقة، تمثل في تفضيل عائلة الشريف الحسين بن علي الهاشمية في الحجاز على عائلة ابن سعود، لقيادة الثورة العربية، والدولة العربية المنتظرة بعد ذلك.

اقرأ/ي أيضًا: سايكس-بيكو.. حفل تشييع بعد قرن

على الرغم من أن مساعدة لورانس مكنت العرب في نهاية المطاف من هزيمة العثمانيين، فإنهم لم يحصلوا على أرضهم الموعودة، والتي تمثلت في دولة عربية موحدة تمتد من حلب إلى عُمان. وهو الأمر الذي رسخته اتفاقية سايكس بيكو، التي وقعت سرًا في عام 1916. قسمت تلك الاتفاقية بلاد الشام إلى ولايات تابعة لفرنسا (لبنان وسوريا)، وأخرى تابعة لبريطانيا (فلسطين والعراق)؛ وأوكل إلى الأسر الهاشمية حكم سوريا والعراق والأردن. طارد الفرنسيون فيصل بن حسين، ابن الشريف حسين مؤسس المملكة الحجازية الهاشمية، حتى خرج من سوريا في عام 1921. ونصبه البريطانيون بعد ذلك بعام ملكًا على العراق، إلى أن جرت الإطاحة بالحكم الملكي الهاشمي في انقلاب عسكري عام 1958.

أليس من المثير للسخرية أن المملكة العربية السعودية، وهي الدولة التي تُحرم تناول المشروبات الكحولية، تدين بجزء من حدودها الخارجية إلى خربشات مسؤول بريطاني مخمور؟

أما الأسرة الهاشمية الوحيدة الباقية حتى الآن فتتمثل في حكام دولة الأردن، وهي دولة أنشئت تقريبًا بمحض الصدفة. كان فيصل بن حسين في طريقه لمساعدة شقيقه عبد الله في سوريا عندما ناشده ونستون تشرشل أن يتراجع عن ذلك، مخوفًا إياه باحتمالية أن يتكبد هزيمة ساحقة على يد الفرنسيين من ناحية، ومغريًا إياه بوعد بإنشاء مملكة تحكمها أسرة عبد الله من ناحية أخرى. فقد رأى البريطانيون قيمة إمارة شرق الأردن في المقام الأول في كونها منطقة عبور بين فلسطين والعراق، إضافة إلى كونها جزءًا من ممر جوي (كانت الرحلات الجوية آنذاك قصيرة نسبيًا وتتطلب العديد من عمليات إعادة التزود بالوقود) بين بريطانيا والهند.

اضطرت بريطانيا إلى السعي للتوصل إلى اتفاقات حدودية مع ابن سعود بسبب التعديات المستمرة والغارات التي شنتها قواته الوهابية، التي احتلت منطقة الجوف عند الطرف الجنوبي من منطقة وادي السرحان. وبينما أصر البريطانيون على وضع حدود ثابتة، اقترح ابن سعود رسم حدود مرنة يمكن أن تتغير مع تحركات الأجيال والتنقلات الموسمية للقبائل. وعلى الرغم من أنه كان مفهومًا مثيرًا للاهتمام، إلا أن بريطانيا لم تحرص على تبنيه. وأفضل ما استطاعوا تقديمه هو منطقة عازلة تشمل منطقة وادي السرحان، تخضع لسيطرة إمارة شرق الأردن من جهة الشمال والنفوذ الوهابي من جهة الجنوب.

في النهاية، قُدمت منطقة وادي السرحان لابن سعود كجزء من صفقة معقدة كانت تهدف في الأساس إلى التعويض عن ضم بريطانيا لمدينة العقبة. وفي تشرين الثاني/ نوفمبر عام 1925، أقرت معاهدة (حدا) الحدود بصورة لا تختلف كثيرًا عن تلك الموجودة في الوقت الراهن: أصبحت منطقة وادي السرحان جزءًا من نجد، وأصبحت العقبة جزءًا من إمارة شرق الأردن. مما اضطر ابن سعود للتخلي عن مطالبه بوجود ممر إلى سوريا، لكنه اكتسب حق العبور الحر دون مقابل. وخسرت بريطانيا منطقة الحجاز، لكنها احتفظت بميناء بحري في إمارة شرق الأردن - وأوقفت التوسع الوهابي إلى فلسطين ومصر. وبالنسبة لمدينة العقبة، فقد قبل ابن سعود باستمرار الوضع الراهن فحسب، ورفض ضم بريطانيا إليها.

أُسدل الستار على الفصل الأخير في قصة إنشاء الحدود السعودية الأردنية الغامضة في عام 1965، عندما حل البلدان جميع القضايا العالقة بينهما من خلال مبادلة الأراضي. نقل السعوديون مساحة 5000 كم مربع من أراضيهم إلى الأردن، بينما نقلت الأردن مساحة 7000 كم مربع من أراضيها للسعودية. قد تبدو تلك صفقة سيئة بالنسبة للأردنيين - لكنهم تمكنوا من الحصول على 17 كم إضافيًا على الشريط الساحلي جنوب العقبة.

يستطيع تشرشل أن يرقد بسلام، فما تزال حازوقته سليمة (حتى لو لم يرسمها أبدًا). ومن عساه يحتاج إلى 1000 كم مربع من الصحراء على أية حال؟

 

اقرأ/ي أيضًا:

عندما كانت أوروبا تحب الإسلام

إف-35..آخر الهدايا الأمريكية لإسرائيل