قرابة الشهر على إطلاق أجهزة أمن السلطة الفلسطينية حملتها الأمنية المسماة "حماة الوطن" على مخيم جنين، والتي تهدف إلى "استعادة المخيم من سطوة الخارجين على القانون"، وفق تصريح الناطق باسمها. ولكن عن أي وطن تريد أن تحميه السلطة ممن وصفتهم بـ"الخارجين عن القانون"؟
قد تكون هذه الحملة الأكبر التي تشنها السلطة على المقاومة الفلسطينية في الضفة الغربية المحتلة في معركة مفتوحة على كل الاحتمالات. فقد رفضت السلطة كل دعوات التهدئة والاحتكام إلى الحوار، بل صعّدت من حملتها الأمنية واستهدفت كل صوت يعارض هذه الحملة. وتم تداول مقاطع مصورة على مواقع التواصل الاجتماعي تثير الاشمئزاز، تظهر عناصر من أمن السلطة وهم يضربون شبابًا معتقلين، ويقومون بإذلالهم وإرغامهم على تقديم اعتذارات والهتاف بحياة رئيس السلطة. وفي أحد المقاطع، ظهر عناصر الأمن وهم يضعون شابًا في حاوية قمامة.
قد تكون هذه الحملة الأكبر التي تشنها السلطة على المقاومة الفلسطينية في الضفة الغربية المحتلة في معركة مفتوحة على كل الاحتمالات
ليتم تجاوز كل الخطوط والمحرمات الوطنية والدينية والمجتمعية بعد استهداف الصحفية شذى الصباغ، التي أصيبت بطلق ناري في رأسها بالمخيم مما أدى إلى مقتلها. واتهمت عائلتها أحد عناصر أمن السلطة بإطلاق النار عليها بشكل متعمد حين كانت برفقة والدتها بأحد شوارع المخيم.
هذه الشراسة والعدوانية من قبل أجهزة الأمن تهدف إلى إيصال رسائل مفادها أن ما يحدث في جنين يرتبط بما سيكون عليه الوضع في غزة ما بعد الحرب، في حال تمكنت السلطة من العودة إلى القطاع. فالسلطة توحي بأنها قادرة على أخذ زمام المبادرة لمواجهة تصاعد العمل المقاوم في مدن الضفة الغربية، الذي تعتبره تهديدًا لوجودها.
لا يخفى على أحد أن السلطة تروج لفكرة أنها لن تسمح بتكرار سيناريو سيطرة حركة حماس على قطاع غزة في الضفة الغربية
لا يخفى على أحد أن السلطة تروج لفكرة أنها لن تسمح بتكرار سيناريو سيطرة حركة حماس على قطاع غزة في الضفة الغربية. وتدّعي أن هناك "أذرع إيرانية تختطف المخيم"، وتعمل على تنفيذ هذا السيناريو، وتزعم أنها الجهة الوحيدة القادرة على مواجهته وإيقافه.
هذا يتقاطع مع ما كشفت عنه وسائل إعلام أميركية، من أن العملية في جنين هي رسالة من محمود عباس إلى الرئيس الأميركي المنتخب، دونالد ترامب، قبيل توليه مهامه، بأنه قادر على أخذ زمام المبادرة في الضفة الغربية المحتلة. كما تحدثت تقارير أن قيادة السلطة نسّقت مع الأميركيين للعملية، حيث أطلعت إدارة بايدن ومستشاري الرئيس المنتخب ترامب على خططها.
هنا يبرز اسم المنسق الأمني الأميركي، مايك فينزل، الذي اجتمع مع قادة الأجهزة الأمنية قبل بدء الحملة الأمنية على مخيم جنين لمراجعة الخطة. ومارس ضغوطًا على إسرائيل من أجل الموافقة على إرسال شحنة أسلحة وذخائر ومعدات عسكرية تحتاجها أجهزة أمن السلطة لإكمال العملية، بالإضافة إلى الإفراج عن بعض أموال الضرائب للسلطة الفلسطينية لدفع أجور أفراد الأمن المشاركين في الحملة.
خطة فينزل كانت ترمي إلى تعزيز التنسيق الأمني بين السلطة الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي بدعم من الإدارة الأميركية
يشتهر فينزل بالخطة التي حملت اسمه، والتي تمت مناقشتها في اجتماع "العقبة" الذي عُقد في شباط/فبراير 2023، بحضور وفود من السلطة وإسرائيل والولايات المتحدة والأردن ومصر. وكانت ترمي إلى تعزيز التنسيق الأمني بين السلطة الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي بدعم من الإدارة الأميركية.
تضمنت الخطة تدريب قوة فلسطينية خاصة في الأراضي الأردنية تحت إشراف أميركي، وأوكلت لعناصرها مهمة الانتشار في مدينتي نابلس وجنين. وتعمل القوة تحت إمرة غرفة عمليات يشرف عليها فريق أميركي. وتهدف إلى القضاء على مجموعات المقاومة المنتشرة في مدن ومخيمات وبلدات الضفة الغربية.
كان الأساس الذي بُنيت عليه الخطة هو تغيير السلطة لطريقة تعاملها مع المقاومين، من فتح قنوات حوار معهم لإقناعهم بعدم جدوى المقاومة وتسليم أسلحتهم، إلى المواجهة الشاملة معهم، ووضعهم أمام خيارين: "القتل أو الاستسلام".
وعلى الرغم من التبريرات التي تقدمها السلطة بأن ما يحدث في جنين مرتبط بفرض الأمن، إلا أن الوقائع تشير إلى أن المعركة في جنين هي معركة فينزل ضد المقاومين، وأن السلطة ليست صاحبة قرار. ورهانها بإعادة تأهيلها لدور مستقبلي في رسم المشهد في غزة أو الضفة الغربية مرتبط بمدى التزامها بواجبات ومطالب في إطار التنسيق الأمني.
وفي هذا السياق، يعترف المتحدث باسم الأجهزة الأمنية الفلسطينية، أنور رجب، بأن "لا طاقة لهم لمواجهة الاحتلال ولن يسمحوا بجر الضفة الغربية إلى تكرار ما يحدث من كوارث وإبادة جماعية في قطاع غزة". ولكن هنا يبرز السؤال: هل يكون ذلك عبر مواجهة مفتوحة مع المقاومة وجعل الضفة الغربية ساحة حرب فلسطينية فلسطينية؟
يتجاهل رجب حقيقة أن المقاومة في الضفة الغربية يُنظر إليها على أنها تمثل روح التحدي الفلسطيني ضد الاحتلال، بينما تُتهم السلطة بمحاولة إخماد هذه الروح للحفاظ على وضعها السياسي. لذلك، فإنها قد تحقق نقاطًا على المدى القصير، لكنها تغامر بنزع ما تبقى من شرعيتها المهزوزة في ظل الانقسام حولها وزيادة الرفض الشعبي لها.
وهذا الاصطفاف في مواجهة المقاومة سيؤدي حتمًا إلى نتيجة صفرية، لأنه تاريخيًا، في كل المحطات التي ارتهن فيها أي طرف فلسطيني لجهة معادية، كان ذلك بمثابة إطلاق رصاصة الرحمة على نفسه.
التطورات في المنطقة متسارعة والمشاريع الإسرائيلية ماضية في ظل إجرام منقطع النظير. تبني السلطة تصورها للحفاظ على كيانها بالانحناء حتى تمر العاصفة وإن كان ذلك على حساب شعبها. ومن يقول إن لا طاقة له على مواجهة الاحتلال عليه أن ينتظر فتيان التلال في مكتبه.