04-مارس-2019

غرافيتي لـ مايكل جاكسون في ليفربول (تويتر)

1 آذار/مارس 2019

أشعر بأنّني تافه!

طالت لحيتي لأسبوع كامل، ويزعجني احتكاك شعرها الطويل ببشرة وجهي. يخلّف هذا الأمر عندي شعورًا بالدونيّة ويدفعني إلى الاكتئاب. يعيد حلق لحيتي السعادة إليَّ. إنّه أمر غريب، لكنّه حقيقة واقعة!

أعتقد أنّ نزع شعري بشفرة حلاقة لا يكفي لأستعيد ثقتي بنفسي، أحس بوقع مشرط شجّ كبريائي هذا اليوم. استلمت عقد عمل في شركة تبيع أدوات القطع الخاصّة بالخراطة والتفريز الميكانيكيّة. اقترح عليّ هذه الوظيفة أحد معارفي بعد أن اشتكيتُ له مرتّبي المتواضع، ورغبتي في فتح آفاق أخرى غير التدريس في مركز للتدريب المهني. أمقت الوظيفة الحكوميّة منذ أكثر من عشر سنوات، وحاولت أن أهجرها بلا جدوى.

أتيحت لي فرص عديدة لكنّ القدر عاكسني، آخرها فرصة عمل في غينيا كوناكري أواخر 2016. كلّفت شركة البوكسيت الوطنيّة في ذلك البلد مكتب توظيف كنديّ باختيار مهندسين تونسيّين في أربعة اختصاصات. نجحت في المقابلات عبر السكايب وكنت ضمن الأربعة المختارين، حتّى أنّهم مدّونا بالأوراق اللازمة لتبديل الجوازات وكلّ الوثائق اللازمة للسفر. فجأة، أخبرنا مكتب التوظيف -بعد شهر من اختيارنا- بتأجيل السفر، ثمّ ألغى المهمّة تمامًا.  حظّ عاثر بصق في صحن حساء لذيذ، قد يضمن لي خمسة آلاف دولار شهريًّا. جرح يأبى أن يندمل منذ ذلك الوقت، ويصحو مع كلّ انتكاسة وكأنّ أحدهم ينثر الملح عليه.

بعد التزام طوعيّ دام شهرين كاملين مع هذه الشركة، أرسل لي المسؤول الأوّل فيها عقدًا لا يمنح حتّى للمبتدئين الباحثين عن عمل. يلقي عقد كهذا بكلّ مسيرتي المهنيّة وكفاءتي في أقرب بالوعة، وكأنّه وضع عمدا للتخلّص منّي. يريدون منّي أن أبحث لهم عن زبائن جدد لبضاعتهم لأحصل على نسبة ضئيلة جدًّا من هامش الربح، ودون أن يمنحوني أجرًا شهريًّا. أثرياء يبغون جمع أموال من أثرياء يشبهونهم، عبر سرقة أموال أمثالي.

 إنّه خازوق حقيقيٌّ!  

مكثت مع المدير وثلاثة موظّفين لثلاث ساعات متواصلة. كنت في حالة ذهول من العقد الذّي أرسله قبل أن أصل، لكن لم أبيّن له امتعاضي من محتوى العرض. تجمّدت في مكاني من البرد، و توقّف  دمي عن الجريان في نصفي السفليّ.

تركتُ نجاة في ورشتها لإنهاء رسم لوحة. خرجت إلى السيّارة لألتحق بها كي أوصلها إلى المنزل. أدركت نشرة أخبار الساعة السادسة على أمواج إحدى محطّات الراديو. تصدّر خبر تمكّن الشرطة التونسيّة من إيقاف رسائل بريديّة مسمومة، كانت في طريقها لقتل تسعة عشر شخصيّة وطنيّة بين صحافيّين ونقابيّين وسياسيّين. سيتصدّر الخبر الإعلام لأيّام ثمّ يخفت بريقه، مثلما صار مع المدرسة القرآنية والجهاز السريّ لحركة النهضة ومصائب أخرى.

تسلمت –بدوري- رسالة مسمومة هذا اليوم. جفاني النوم، لم أجد ترياقًا غير الكتابة لأتخلّص من كمّ السموم هذا.

تشعرني الكتابة بالعظمة.

 

3 آذار/مارس 2019

احتفلت اليوم ريم عياري بعيد ميلادها، نشرت صورها على بروفايلها على الفايسبوك. ريم هي من دعتنا للحضور إلى السامبوزيوم، سنلتقيها غدًا بالتأكيد. نشرتْ صور الحجارة الرخامية المعدة للنحاتين وسط نزل البرتقال. كانت الحجارة الرخاميّة ملقاة فوق العشب الأخضر للنزل. سيبدأ النحاتون غدًا في أشغالهم، والرسامون يوم الإثنين. سيبدأ النحاتون غدًا باستنطاق الحجارة وبعث روح فيها. إنّه فعل الخلق، إنّه الفنّ!

لم أفعل شيئًا اليوم. لم أحلق لحيتي ولا تزال بقايا حزن البارحة مستبدّة بي. ساعدتُ نجاة في تسليم لوحتين لها لأحد منظمي المعارض الجماعية. أظن أنه سيقام في فضاء التياترو المسرحي التونسي الكبير توفيق الجبالي. أعشق ذلك الفضاء. حضرت خمس مرات لعرضه "كلام الليل صفر فاصل"، وأهديت تذكرتين لفتاتين في محاولتين فاشلتين لاستمالتهما. لا جدوى لسياسة المسرح مقابل الحب في تلك الأيّام! من سخرية القدر أنّ زوجتي تعشق المسرح بدورها، وروت لي أنّها ألّفت مسرحيّات خلال دراستها للفنون التشكيليّة بمعهد الفنون والحرف بصفاقس. تحصّلت على جوائز طلاّبيّة وطنيّة في مجال المسرح. أذكر أنّ طلبي بالزواج منها جاء بعد أن دعوتها لحضور عرض مسرحيّة "خوف" للفاضل الجعايبي. كنت خائفًا من الزواج قبل ذلك، ونزعت عنّي المسرحيّة حاجز الخوف لأنّها لم تعجبني ببساطة.

أتابع أعمال توفيق الجبالي وآخرين، كلّما سنحت لي الفرصة. أحب المسرح منذ كنت صغيرًا ونشطت في ناد للفن المسرحي في تسعينات القرن الماضي، بأحد مدن الشمال الغربي حين كان أبي يعمل شرطيًّا هناك. كتبتُ مسرحيّة وأنا لم أتجاوز الرابعة عشرة عاما. عرضتها على مدير دار شباب ونسيتها عنده. أظنّ أنها صارت فريسة لسلّة مهملات، أو أكلها غبار أحد الأقبية. كان ذلك قبل أدخل دوّامة العلوم والرياضيّات التّي كنت موهوبًا فيها. دوّامة قضمت أجمل أيّام الشباب، وأحاول أن أستعيد بالكتابة والفنّ عشقي الأزليّ.

دعم أبي نشاطي المسرحيّ وكتاباتي، لكنّه نصحني بأنّ الأدب والفنّ لن يضمنا لي عملًا محترمًا. لم يكن أبي شرطيًّا عاديًّا، بل كان مثقّفًا وقارئًا جيّدًا. أذكر مرّة أنّه اشترى بأكثر من نصف مرتّبه قاموسًا للغة العربيّة، لا زلت أحتفظ به إلى الآن. أجبرني على ارتياد المكتبة العموميّة واصطحبني إلى العروض المسرحيّة التي تقام في فصل الصيف. يحتفظ صانع أيّامي بصورة لي -رفقة أخي- خلال عرض مسرحيّ قدّمته أمام والي الجهة، ارتديت شاشيّة حمراء وسترة بالية من قماش "الدنغري" الأزرق (سترة تانغزهوانغ tangzhuang الصينيّة التقليديّة) واضعًا شاربًا اصطناعيًّا. شعر أبي بالفخر والمهابة يومها. 

من فضائل أبي الكثيرة أنّه مكنّني من دخول عرض مايكل جاكسون في زيارته الوحيدة إلى تونس في السابع من تشرين الأول/أكتوبر سنة 1996. أذكر أنّ الحواجز الأمنيّة يومها كانت كثيرة، وتشبه أكثر خطوط الدفاع العسكريّة. احتشد الكثيرون في أحواز الملعب محاولين الدخول، لكن استحالت عليهم المهمّة تقريبًا. اجتاز أبي معنا -أنا وأخي- كلّ تلك الحواجز العسكريّة ليوصلنا إلى البوابة الرئيسيّة لملعب المنزه أين كان يرأس فرقة الشرطة التي تحرسها. لم يقدر أبي على شراء تذكرتين لابنيه حينها، لكنّه تدبّر لنا حضور تلك الحفلة وشهدنا رقصات جاكسون الرائعة والدبّابة التي جلبها إلى الركح. ماثل دخول حفل مايكل جاكسون ذاك غزو الحلفاء لشاطئ النورماندي إبّان الحرب العالميةّ الثانية. خلال مرورنا بأحد الحواجز الأمنيّة، قام أبي بضربي وشدّني من قفاي وكأنني مجرم متلبّس بجرمه. مثّلتُ دور المضطهد بإتقان وادّعيتُ البكاء، حتّى لا يكشف أحد أعوان الشرطة أنّنا أبناؤه.

حلمت بأن أكون ممثّلًا، لم أؤمن بتجربة الكتابة إلاّ في العشر سنوات الأخيرة. مع زواجي برسّامة بدأت أكتشف عوالم مغايرة لفنّ آخر. أملك فكرة عن أعمال بعض الرسّامين مثل سالفادور دالي وبوتيرو وفريدا كاهلو وفان غوغ، وأظنّ أنّ معرفتي متدنيّة جدًّا بهذا المجال. ينعدم التلاقح بين الفنون في تونس والعالم العربيّ، من النادر أن تجد مسرحيًّا أو فنّانًا تشكيليًّا أو موسيقيًّا أو راقصًا أو كاتبًا يحضر تظاهرات مختلفة عن مجاله الإبداعي. هذا أمر غريب ومخيف! أعتقد أنّ الاطلاع على خبايا الرسم والنحت تجربة عليَّ أن أخوضها، وأجزم أنّها ستفيدني في مجال الكتابة.

غدًا، سأدخل مسرح الألوان والأشكال، لكن دون تمثيل أو حواجز عسكريّة هذه المرّة.

 

اقرأ/ي أيضًا:​

يوميّات سامبوزيوم: 28 شباط/فبراير 2019

أخاف على الكمان من قوس العازفة