03-يوليو-2021

رواية "ماكيت القاهرة" (ألترا صوت)

ألترا صوت – فريق التحرير

صدرت عن "منشورات المتوسط" حديثًا، رواية جديدة للروائي المصري طارق إمام، بعنوان "ماكيت القاهرة"، وهي سادس رواياته بعد: "شريعة القطة" (2003)، و"هدوء القتلة" (2007)، و"الأرملة تكتب الخطابات سرًا" (2009)، و"الحياة الثانية لقسطنطين كفافيس" (2012)، و"ضريح أبي" (2013)، و"طعم النوم" (2019).

تحاول رواية إمام "ماكيت القاهرة" إعادة تعريف عاصمةٍ وجدت نفسها تتراجع لصالح أخرى جديدة ظهرت فجأة

تدور أحداث الرواية في العاصمة المصرية القاهرة، وتتوزع على ثلاث أزمنةٍ متباعدة، هي: المستقبل 2045، والماضي القريب 2011، والحاضر 2020. وعبر التنقُّل فيما بينها، يسعى إمام إلى الإحاطة بتحوُّلات المدينة، ورصد طبيعة علاقة الفن، فن الهامش تحديدًا، بفضاءاتها وتحوُّلاتها الاجتماعية والعمرانية التي فرضتها عدة أحداثٍ فارقة غيَّرت ملامحها، لا سيما ثورة كانون الثاني/ يناير 2011.

اقرأ/ي أيضًا: رواية "الهاجس".. قاع المجتمع الباريسي بين الحربين

وبحسب الروائي المصري، تحاول "ماكيت القاهرة" إعادة تعريف عاصمةٍ وجدت نفسها تتراجع لصالح أخرى جديدة ظهرت فجأة، وذلك بموازاة سعيها لاستشراف مستقبلها، وتفكيك ماضيها، والإضاءة على مآزق حاضرها أيضًا، مما يجعل منها، في هذا السياق، عملًا روائيًا يجمع بين الاسترجاع والرصد والتنبؤ في آنٍ معًا.

ويستند طارق إمام في محاولاته لهذه، إلى حيوات ثلاث شخصياتٍ موزعةٍ على أزمنة الرواية الثلاث. وهي شخصياتٌ، رغم تباعدها، إلا أنها تجتمع في مساراتٍ متقاربة، تتقاطع عندها مصائرها بشكلٍ تنهض معه أسئلة الرواية التي تبحث في علاقة الفرد بالمدينة، والحياة والموت، والزمن المنفلت، والقمع، والعلاقة الجدلية بين المتن والهامش، وغيرها.

ننشر هنا مقطعًا من الرواية.


القاهرة – 2020 م

في لحظةٍ مبكرةٍ من حياتها، أدركت نود أنها لن تكون أبدًا شخصًا واحدًا في المرايا. حدث ذلك ذات يومٍ بعيد، كانت فيه تقف وحيدةً وعارية أمام مرآة غرفة نومها، عندما فوجئت أن سطح المرآة يعكس جسدين.

بدءًا من ذلك اليوم، ستستسلم لتلك الشراكة الغامضة في ما يجب أن يكون صورتها المنفردة، وبدوره، لن يظهر ذلك الآخر أبدًا خارج مراياها.

كان انعكاسًا شديد التجسد لشخصٍ لا وجود له، على الأقل في الواقع الذي تنتمي نود لقوانينه. وكان هذا الشرط القاسي لظهوره يعني أشد لحظاتها خصوصيةً وتخففًا، سواء كانت تتقلب عاريةً في سرير غرفة نومها أو تتغوّط نصف عارية في حمّام مول.

ذلك الشخص كان رجلًا. للدقة: لقد أصبح رجلًا الآن، لأنه عندما انعكس أمامها لأول مرة، وهي بعد طفلة، كان هو أيضًا لا يزال طفلًا. لقد رأت صباه مثلما ترى الآن شبابه ومثلما تُخمِّن أنها ستُواصل الاطّلاع على شيخوخته، واثقةً رغم ذلك، كلما تساءلت أيهما سيودِّع الآخر أولًا، أنها ستموت قبله.

ظلَّا يكبران معًا، هي في الواقع وهو في الزجاج، حد أن خشية فقدانه أخذت تزحف وتتوحش _ يومًا بعد يوم وسنةً تلو سنة، مثلما تزحف الأحلام وتتوحش _ لتحل محل الاستغراب وعدم التصديق.

وهكذا أدركت نود مبكرًا أنها لا تخشى ما يستحيل تصديقه، وأن الخوف، الخوف الحقيقي، الخوف القاتل، مختبئ في كل ما تراه يوميًا بوصفه حياتها.

هذا الرجل الذي لا وجود له في العالم، كان متجسدًا بقوةٍ لا يمكن إزاحتها، قوة لم تكتف ببزوغها الفادح، لكنها ظلت تكبر وتتمدد، بحضورٍ لا يكف عن التضاعف ليخصم يومًا بعد الآخر من حضورها هي، حتى أن المخرجة الشابة راحت تبهت، كأنها هي انعكاسه، آخذةً، على مهل، بالتحوّل إلى شبح، في انتظار اللحظة المرعبة التي ستقف فيها ذات يومٍ أمام مرآة، لتراه وحده.

منذ ظهر لأول مرة لم يفارقها، شرط أن تكون وحيدةً أمام المرآة. ومثل كل الوقائع الغريبة أو التي لا تُصدَّق، تبدأ بالإنكار وتنتهي بدمارنا، دمار كامل ونهائي إن هي اختفت أو توارت، والثابت الوحيد أن الحياة لا تعود نفسها أبدًا.

رغم ذلك، كان أكبر بكثير من صورة، وأعمق من انعكاس، إذ كان ينمو، وتعبره السنوات بالطريقة نفسها التي تعبرها بها. كان يُغيِّر ملابسه، يسيل دمُ جراحه في شقوق الزجاج، وتلتبس تجاعيده النامية بخدوش المرايا، ودموعه، كانت تحجب عنها الرؤية كيومٍ ماطرٍ فوق زجاج سيارة. لقد كان شخصًا مكتملًا، لا ينقصه سوى أن يوجد.

هكذا، وبعد كل هذه السنوات من بزوغه الأول، بات أكثر ما يمكن أن يرعب المخرجة الشابة، أكثر من اختفائها هي، أن تقف في يوم أمام مرآة، فتكتشف أنه _ هو _ من اختفى.

بسبب ذلك الهاجس، ودائمًا في اللحظات غير المواتية، كانت تجتاح نود الرغبةُ المريضة في التأكد أنه ما زال موجودًا، يقاسمها عالمها. هنا كانت تُخرج مرآتها، غير عابئة بنظرات محدثها المستغرِبة، تتظاهر بتعديل خصلة شعر أو التأكد من ثبات الميك أب أو تهز فردة حلق دائرية بلمعة ذهب زائفة في شحمة أذنها. أحيانًا كانت تتزيّد فتهمهم له بكلمات طمأنة سريعة ومبهمة، قبل أن تعيد المرآة لحقيبتها، وتسترد الابتسامة الإجرائية، كأن سلوكًا شاذًا لم يحدث للتو.

كان ذلك الهاجس يغمرها كسيل، حتى لا يدع مجالًا للشك أمام من تُجالسه أنها تعاني نوعًا من الجنون أو وسواسًا قهريًا لا سبيل إلى قمعه، تَسبَّب في العبارة التي التصقت بها في "الوَسَط" حتى صارت تعليقًا محفوظًا على اسمها: "هي غريبة شوية". عبارة لم تجد أبدًا ما يدعمها لمن لم يجلس إلى نود في الواقع، لأن إخراج مرآة من حقيبة يد والتطلع فيها أثناء مقابلة عمل أو حوارٍ عملي كان شيئًا لا توصف غرابته الاستثنائية إلا لمن شهد الموقف.

رغم ذلك، لم تبال نود بما حصدته من خسائر جرّاء غرابة أطوارها. كان لا بد أن تطمئن عليه، ليس بالضبط كرجلها _ وقد كان بالفعل رجلها الحقيقي حتى هذه اللحظة _ لكن كطفلها الذي يجب أن تتأكد أنه لم يختنق داخل حقيبة يدها. كأنها بإخراج مرآتها والتطلع إليه، كانت تمنحه قدرًا من الهواء الضروري، حتى لو كان شخصًا ينتمي إلى محيطٍ مختلف، يقف على يابسة ضفةٍ مقابلة، على شاطئ عالمٍ آخر، قادرٍ رغم كل شيء على أن يُبقيه حيًا في هوائه الخاص.

ورغم أنها فكّرت في فترة أن تذهب لمعالِجة نفسية، إلا أنها سرعان ما استبعدت الفكرة، فالواقع ليس واحدًا بالنسبة للجميع، وكانت نود تعرف أن الجميع، وعلى اختلاف الأعراض، مرضى بالحياة.

عادت نود لتتذكر رعبها بينما تجلس الآن قبالة امرأة، عرفت أن اسمها "المسز"، وكان ذلك أكثر من كافٍ لها. بتأمّل وجهها الذي تبدو تجاعيده جروحًا مندملة، وشعرها الأبيض الناعم المفروق من المنتصف، والمنسدل كهلالين عند مطلع رقبتها، أضافت نود صفةً واحدةً أخرى ليكتمل تعريف تلك المرأة بالنسبة لها: "عجوز"، وكان هذا النعت يكفي نود لتصف أي شخصٍ لم يعد طفلًا.

لقد أتت هنا من أجل إجراء إنترفيو، لحساب مشروع، يطلب مخرج/ـة أفلام وثائقية، دون أن يفصح "جاليري شُغل كايرو/ ساحة فنون المدينة" عن طبيعة المشروع بالضبط، مكتفيًا بالإعلان عن تايتل مبهم في موقعه الإليكتروني تدعمه عباراتٌ قليلة ومقتضبة، بوصفه "منحة إقامة لشباب سينمائيي الأفلام الوثائقية المستقلة"، مشفوعة باستمارة ترشح وبسيل من الشروط والأحكام.

_ "كايرو كام" مشروع سينمائي طموح يهدف لإنتاج سلسلة أفلام وثائقية محورها جاليري شُغل كايرو لتكون جاهزة للعرض مطلع العام القادم، يناير 2021، بالتزامن مع مرور عشر سنوات على افتتاح الجاليري..

كانت العجوز قد بدأت التحدث عن الملامح العامة للمشروع الذي أتت نود طامحةً لتكون أحد أفراده. وكجميع "الملامح العامة" لأي موضوع، كانت المرأة تقول كل شيء، وإجمالًا، بالقوة نفسها، لا تقول شيئًا، أو هذا ما بدا لنود. استوقفت نود كلمة ملامح، اعترضت أذنيها كقاطع طريق، لتُذكِّرها أن ثمة وجهًا يختنق الآن في ظلام حقيبة يدها.

وهكذا، وفيما كانت العجوز تسترسل، فتحت نود سوستة حقيبتها الجوتشي المقلدة، والتي لا يمكن تفريقها عن نظيرتها الأصلية، ما ينطبق على كل قطعة ملابس أو حلي ترتديها نود، الماهرة في إخفاء طبقتها بالطريقة التي يُتقن بها ملثمٌ إخفاء وجهه.

بلهفة عبثت نود في جوف الحقيبة كأنها نسيت شيئًا ضروريًا بداخلها. ودون أن تعبأ بما يمكن أن يكون عليه رد فعل العجوز حين تكتشف السبب، أخرجت مرآة مدوّرة ذات غطاء، ربتت عليه أولًا كمن يطرق بابًا، ثم، وكما يفعل الشخص مع حيوانٍ حبيس، فتحتها بسرعة لتطمئن أن صفحتها لا تزال تعكس وجهين.

حرَّكت نود المرآة أمام وجهها أفقيًا، يمينًا ويسارًا، بينما تُمرِّر إصبعًا فوق أحد حاجبيها وتزم شفتيها وتمطّهما كما لو أنها تتأكد ببساطة من ثبات الروج، وهو مبررٌ أفدح مما لو تأملت وجهها دون التظاهر بتعديل شيء في مظهرها. وحيث اطمأنت أن الوجه الآخر لا يزال يشاركها محيط المرآة الضيق – بنفس سلامِه، واستسلامه لضجر حياته التي كان يحياها فقط لكي يظهر لشخصٍ آخر – أغلقت مرآتها وأعادتها للشنطة.

ظلت مُطرقةً للحظات فيما ينساب مونو تون الصوت الآلي ثابت الإيقاع للمسز. الشيء الوحيد الذي يربط الغرفة بالعالم كان نافذة، مقوّسة بالتناغم مع ما يُفترض أنه الجدار الأيسر للغرفة لو لم تكن غرفةً دائرية، وكانت نود فور دخولها الغرفة قد حوَّلت الدائرة التي تحيط بها إلى أربعة جدران وهمية بحدودٍ من خلقها. كان زجاجُ النافذة المغلق عاريًا من الستائر، من ذلك النوع الذي يُصنع فقط كي ينقل ما خلفه دون أن يعكس ظل الرائي، شفافًا مثل لغةٍ في جريدة.

نظرت نود صوب النافذة. كانت المدينة تعبرها بمشهد مختلف في كل لحظة. حتى التفاصيل البعيدة في الأحياء التي لا تُرى من هنا كانت تقترب ثم تبتعد وتحل محلها مشاهد أخرى، وكأن النافذة عدسة منظارٍ مكبر يستعرض المدينة.

ربما كانت هذه طريقة المسز لتعرف في أي مكان تعيش، خمنت نود التي حدست أن هذه المرأة ربما لم تغادر هذه الغرفة أبدًا، غير مستبعدةٍ حتى، لفرط ما بدت العجوز جزءًا من المكان، أنها ولدت حيث تجلس الآن.

ظلت نود تحدق للحظات في المدينة التي تعبر الزجاج. لا جديد سوى هياكل الكباري التي تتكاثر في هذه الأيام لتُزاحم المدينة حتى التصقت حواف بعضها بنوافذ وبلكونات البيوت، وأصبح من الممكن لطفل أن يمد يده ليلامس سيارة متوقفةً في الزحام. ثمة مدينة ستصبح عما قريب عاصمة جديدة، لم يعثروا لها على اسم بعد، صارت القاهرة كلها ممرًا إليها.

 

اقرأ/ي أيضًا:

رواية "من خشبٍ وطين".. صداقة مع غابة وقنفذ

رواية "المئذنة البيضاء".. السيرة التي يستحقها مسيح دجّال