09-نوفمبر-2016

الكاتب البريطاني ماكس بورتر (1981)

ماكس بورتر، قاصّ وروائيّ إنجليزي (1981) روايته الأولى "الحزن شيء مغطىً بالريش" نالت إعجاب الكثير من القرّاء والنقّاد حتى ترشّحت خلال فترة قصيرة من كتابتها لتصل إلى القائمة القصيرة لجائزة غولدسميث الأدبيّة، كما دخلت في القائمة القصيرة لجائزة الغارديان لأفضل كتاب.

تدور الرواية حول موضوع الموت والحزن والتسلّي من ذلك كلّه بالفنّ والحبّ. الحديث في الرواية مبعثر كما المفجوع بموت من يحبّ، شيءٌ من حوارات وكتابة شعريّة توحي بأشياء كثيرة للقارئ لعلّ أهمّها تلك الهشاشة التي تعتري هذا الإنسان. تذكّر الرواية بقصيدة الشاعرة الأمريكية إيميلي ديكنسون "الأمل شيء مغطًّى بالريش" وهي من الشعراء المفضّلين الذين انشغل بهم بورتر في عشريناته كما يذكر في إحدى المقابلات التي أجريت معه حين سئل عن العنوان، وبدا لي في إجاباته إنسانًا واسع المعرفة عميق الثقافة خاصّة فيما يتعلق بموضوعة الحزن والفجيعة والفقد.

لكن حين سئل في المقابلة عن مصدر القصّة وأصلها، تردّد قليلًا في الإجابة وتلعثم هنيهة وقال: "إنّها تعود لتجربة شخصيّة لي حين مات والدي وأنا في سنّ السادسة!"، ورفض بعدها بحزم مؤدّب الحديث عن ظروف موت أبيه، ولكنّه أكّد على أنّها مختلفة عن موت الأمّ في الرواية التي سنعرض فيما يلي ترجمة جزءٍ صغير من الصفحات الأولى منها. 


الأولاد

هناك ريشة على مخدّتي. 
المخدّة مصنوعة من الريش، هيّا إلى النوم. 
إنّها ريشة كبيرة، سوداء. 
تعال نم على سريري. 
هنالك ريشة على مخدّتك أنت أيضًا. 
فلنترك الريش مكانه وننم على الأرض. 

الأب

بعد انقضاء أربعة أيّام أو خمسة على موتها، جلست وحدي في غرفة المعيشة أفكر بما يجب عليّ فعله. تململت في جلستي، كنت في انتظار أن تزول عنّي الصدمة، في انتظار أي شكل من شعور منتظم متولّد عن الزيف المنتظم لأيّامي. كنت أشعر بأني فارغٌ معلّق. كان الأولاد نائمين. شربت. لففت بعض السجائر ونفثت دخانها عبر النافذة. شعرت أنّ النتيجة الكبرى لموتها هو أن أصبح إنسانًا منظّمًا على الدوام، أن أصبح الرجل الذي يضع القوائم لتبادل كليشيهات التودّد، والمهندس الأشبه بالآلة الذي يرتّب المهامّ الروتينية للعناية بأطفال صغار لا أمّ لهم. بدا الحزن رباعيّ الأبعاد، مجرّدًا، وبالكاد مألوفًا. شعرت بالبرد. 

أقام لدينا بعض أفراد العائلة والأصدقاء تلطّفًا منهم، ولكنّهم عادوا كلّ إلى حياته وشؤونه. حين ذهب الأطفال للنّوم كانت الشقّة خاليّة من أي معنىً، ليس ثمّة ما يتحرّك. 
رنّ الجرس فقدّرت أنّ المزيد من العطف يقف على الباب. طبق لازانيا جديد، بعض الكتب، عناق سريع، بعض الوجبات الجاهزة للأولاد. كنت طبعًا أكتسب المزيد من الخبرة بسلوك المعزّين المتجوّلين. إنّ كونك في بؤرة الاهتمام يمنحك وعيًا أنثروبولوجيًا مثيرًا عن الآخرين؛ عن المغمورين، من انطفأت فيهم جذوة الحياة، من لا يساوون شيئًا حتى الآن، من يطيلون الزيارة، عن أفضل أصدقائها الجدد، أو أصدقائي، أو أصدقاء الأولاد. أولئك الذين مازلت لا أملك أي فكرة عنهم. شعرت كأنّي أنا الأرض بصورتها العجيبة التي تظهر فيها كوكبًا حوله حزام ثخين من حثالة الفضاء. شعرت أنّه سيلزمني سنوات عديدة قبل أن يصبح ذلك الحلم المعقود من تمثّل النّاس للحزن بسبب وفاة زوجتي رقيقًا إلى الحدّ الذي يتيح لي أن أرى الفضاء الأسود من جديد، ولا داعي لأقول، بكل تأكيد، إنّ أفكارًا من هذا القبيل تجعلني أشعر بتأنيب الضمير. لكنّي، دفاعًا عن نفسي، قلت إنّ كل شيء قد تغيّر، فهي قد رحلت عنّي وبوسعي أن أفكّر بما أشاء. ثم إنّها لن تغضب من ذلك، فقد كنّا كلانا مفرطين في التحليل، نفترض دومًا سوء النيّة، بل لقد كنّا ربّما غدّارَين، حائريَن. لقد كنّا عادة نتقحّب بالتذمّر بعد حفلات العشاء. كنّا منافقين. أصدقاء. 

رنّ الجرس مجدّدًا. 
نزلت الدرج المفروش بالسجّاد نحو مدخل البيت البارد وفتحت الباب. 
لم تكن هناك أضواء في الشارع، ولا صناديق قمامة، ولا أحجار على الرصيف. لم يكن هناك لا شكل ولا ضوء، ليس ثمّة إلا رائحة النتن. 
كان هنالك صوت صدعٍ ثمّ حركة سريعة، شيء ما صفعني إلى الخلف، نحو عتبة الباب. كان المدخل مظلمًا تمامًا وباردًا حدّ التجمّد، وقلت في نفسي: "أيّ عالم هو هذا الذي أعيش فيه إن كنت سأُسرق في بيتي هذه الليلة؟" ثم فكّرت وقلت: "بصراحة، لا فرق. سأقول له لطفًا لا تُفزع الأولاد من نومهم، فهم بحاجة للنّوم. سأعطيك كل فلسٍ أملكه بشرط ألّا توقظ الأولاد".
فتحت عيني وإذا كلّ شيء ما زال في ظلام دامس وما من صوت سوى صوت طقطقة وحفيف. 
إنّها أرياش. 
شممت رائحة قويّة من البِلى، ونتنًا فرويًّا حلوًا لطعام فاسد، وعفنًا، وجلدًا، وخميرة. 
كان الريش قد دخل بين أصابعي، وفي عيني، وفي فمي، وأسفل منّي تشكّل سرير من الريش يرفعني قليلًا فوق الأرض. 
كانت عينٌ لامعة سوداء بحجم رأسي، ترمش ببطء، في تجويف جلديّ مجعّد، تبرز من وعاء بحجم كرة القدم. 
هشششششششش. 
هشششششش.
وكان هذا ما قال: 
لن أتركك حتّى تكون غير محتاجٍ إليّ. 
قلت له، أنزلني. 
ليس قبل أن تقول مرحبًا. 
صحت بصوت مخنوق، ضعني على الأرض. ودفّأت بشخّتي طرف جناحه. 
أنت خائف، ولكن قل مرحبًا. 
مرحبًا. 
قلْها بأسلوب لطيف! 
تراجعت إلى الوراء، واستسلمت، وتمنّيت لو أنّ زوجتي لم تكن ميتة. تمنّيت لو أنّني لست ملقىً مرتعبًا أمام طائر ضخم على مدخل بيتي. تمنّيت لو لم تستحوذ عليّ فكرة هذا الشيء بعد أن أصابتني أكبر محنة في حياتي. لقد كانت تلك أمنيات حقيقية. لقد كان الأمر رائعًا بشكل مؤلم. كنت أمتلك شيئًا من الوضوح. 
مرحبًا أيها الغراب. سعيدٌ باللقاء بك بعد طول انتظار. 
*

ثم ذهب. 
للمرّة الأولى منذ أيام نمت. حلمت بفترات ظهيرة أقضيها في الغابة. 
الغراب 
يا للرومانسية، كيف التقينا أوّل مرّة. تصرفت بسخافة. شقة بسريرين في الطابق العلوي، مع عليّة، تسللت بسهولة عبر الجدار وصولًا إلى غرفة النوم في تلك العليّة لأرى أولئك الأولاد المدثرين بالقطن نائمين بصمت، وأسمع تلك الهمهمة المسكرة للأطفال البريئين. كان المكان بأكمله ثقيلًا بالحداد، فالأمّ المتوفّاة تظهر في كل ركن فيه، في كل قلم، جرّار، معطف، حذاء، كل شيء يعلوه شريط من الحزن. 

استيقظ يا إنسان (الريش في مؤخرتك، في عينيك، في فمك) ولكنّه نام وصارت الغرفة ضريحًا. لقد كان بقيّةً من صدفة، وكنت أدرك أنّ ذلك أفضل أشكال الخبل، وشيءٌ حقيقيّ من المرح. وضعت مخلب على كرة عينه واحترت بين أن أفقأها مرحًا أو رحمة. انتزعت ريشة من جناحي ووضعتها على جبهته. 
كتذكار، أو تحذير، أو مسحة ليل في الصباح. 
كاستراحة قصيرة من الحداد. 
همست له أنْ سأقدّم لك شيئًا كي تفكّر به. 
استيقظ ولم يرني على سواد صدمته. 
ثمّ عاد واستغرق في نومه. 

اقرأ/ي أيضًا:

صحراء غرفة النوم

متى ستقبلُ يا ربيع؟