06-أغسطس-2017

ماكرون وزوجته أثناء الاحتفال بالعيد الوطني الفرنسي (Getty)

فاز الشاب البرجوازي الصغير إيمانويل ماكرون (39 عامًا)، الذي جاء من مدينة "أميان" الشمالية بمقاطعة "السوم" في فرنسا في الانتخابات الرئاسية بنتيجة 66.06%، مقابل 33.94% لصالح منافسته الأهم آنذاك ماري لوبان – بعد تأييد منافسيه بعد خسارتهم في الجولة الأولى، إلى جانب امتناع قطاع كبير عن التصويت عمومًا – فاستطاع الرجل أن يلفت أنظار العالم أجمع إليه في حوالي ثلاثة أشهر فقط.

صنع ماكرون حزبه "إلى الأمام" بخلفية مستقلة "لا من اليمين ولا من اليسار" على حد قوله

صنع ماكرون حزبه "إلى الأمام" بخلفية مستقلة، "لا من اليمين ولا من اليسار" على حد قوله، ليتحوّل الرجل المصرفي، ووزير الاقتصاد السابق الذي يهتم بالمال والأعمال، إلى قمة عالم السياسة ودهاليزها، الجديدة نوعًا ما عليه، ويتحوّل من مستشار للرئيس الفرنسي السابق فرانسوا هولاند إلى رئيس فعلي للجمهورية الخامسة في فرنسا؛ تلك الدولة التي كانت ولا زالت تعج بأحزاب "غير قوية" وتبحث عن رجال سياسة جُدد، متمردين، تبعد خلفياتهم عن الصفوف المتواجدة لتراهن باليانصيب على ما لم تعرفه الأحزاب بعد، لعله يأتي بالأمل، ووجد الجميع في الشاب الطموح الذي لا يخسر، إحدى ضالاتها، ورهانها، وثورتها التي نجحت بدون خسائر في اعتقادهم.

لكن ثمة تصوّر للفيلسوف الإيطالي أنطونيو غراميشي يمكن أن ينطبق على ما أفردته الأحداث والمواقف السياسية الفرنسية بعد ثلاثة أشهر من تربّع إيمانويل الصغير على رأس السلطة، بأن التجديد أو الثورة لا تنحصر أو تنتهي عند الفوز بالسلطة السياسية فقط، وإن كان ذلك أمرًا لا غنى عنه. لكنّها معنية خصوصًا بتأسيس نظام اجتماعي جديد؛ نظام اجتماعي قائم على المساواة والإشراك.

اقرأ/ي أيضًا: ماكرون الظاهرة.. وأفول الأحزاب التقليدية

في حين أن ماكرون الذي وقف يصرخ في مناظراته السابقة عن الحقوق والسعي نحو الحرية؛ سواء في الداخل الفرنسي الذي وعده بـ50 مليون يورو لتحديث بنيته التحتية، وتقليص ضرائب الشركات وإعانة البطالة، لكن شيئًا لم يحقق. أو حتى خارج فرنسا، لمّا بدت آراءه تجاه بلاد العالم العربي وصراعاته تبيّن جنوح الرجل نحو الاستقرار والمصلحة الشخصية نوعًا ما، وذلك على خطى صديقيه الذين على ما يبدو غير مهتمين بحريات وحقوق تلك الدول أيضًا؛ الأمريكي دونالد ترامب والروسي فلاديمير بوتين.

تراجع في الشعبية الداخلية ومخالفة في الوعود
نجح ماكرون في تشكيل حركته السياسية "إلى الأمام" التي كانت سببًا أساسيًا في تواجده ووصوله إلى قصر الإليزيه، ثم استطاع السيطرة بعد ذلك على البرلمان الفرنسي بأغلبية كبيرة، وخرج من الدورة الأولى للانتخابات بنتائج "مدهشة"، وحصل على نسبة 30% من الأصوات، أي حوالي 400 مقعد في البرلمان المكون من 577 مقعدًا أو يزيد.

ذلك بالرغم مما جاء في المناظرة الأخيرة التي جمعته بماري لوبان؛ إذ تعاملت الأخيرة بحدة وعنف، وجعلته يقاطع السيدة "المتطرفة" حين قالت: "سواء انتصرت أو لم انتصر سوف تحكم فرنسا امرأة"، في إشارتين، الأولى لزوجته ومعلمته التي لها كبير الأثر عليه، والثانية لرئيسة الوزراء الألمانية أنجيلا ميركل التي تتربع على قيادة الاتحاد الأوروبي الآن دون أن يخفى على أحد، والذي يفخر ماكرون بالانتماء إليه، فضلًا عن تعاطفها ودعمها الكبير لماكرون، حتى أن سياسيين وصفوا علاقتهما بـ"المريبة"، ليقم الاقتصادي الفائز بالأغلبية "التي لم تر بديلًا له"، لكن تلك الكلمات التي كانت تتناقل في الخفاء، أًصحبت منذ ذلك الوقت تسبب تخوفات وسط الجماهير.

وانخفضت نسبة الموافقة على أداءه بنسبة 10% لتصل إلى 54% فقط من مجمل الداخل الفرنسي الذي يحق لهم التصويت؛ حيث قال 47% ممن شملهم الاستطلاع أنهم "راضون إلى حد ما" مقابل 54% في حزيران/يونيو الماضي، بينما قال 7% منهم فقط إنهم "راضون للغاية"، مقابل 10% في الاستفتاء الماضي.

كما أظهر الاستطلاعات أن شعبية رئيس وزراءه إدوارد فيليب تراجعت أيضًا بقوة، فقال 52% ممن شملهم الاستطلاع أنهم "راضون إلى حد ما" عن الأداء، مقابل 59% قبل شهر واحد فقط؛ منهم 4% قالوا إنهم "راضون للغاية"، مقابل 5% الشهر السابق. فيما انخفضت نسبة الراضين عن أدائه 8% في شهر واحد لتصل إلى 56% في تموز/يوليو.

وارتفعت نسبة "غير الراضين" عن رئيس الوزراء حوالي 35% في حزيران/يونيو إلى 43% هذا الشهر؛ موزّعين بين "غير الراضين بالمرة" بنسبة 15%، وحوالي 28% "غير الراضين إلى حد ما". بينما رفض 3% ممن شملتهم تلك الاستطلاعات الإدلاء برأيهم هذا الشهر من الأساس، مقابل 1% رفضوا في حزيران/يونيو الماضي.

في سياق آخر ذهب ماكرون ليعادي المؤسسة العسكرية وقائدها، حيث نقلت بعض الصحف الفرنسية عن منتمين إلى الجيش، ما اعتبروه تدنيًا في معنوياتهم، قبل خفض ميزانية الجيش وبعده. وأكد ماكرون بعد ذلك أنه القائد الفعلي والمقرر لموضوع خفض الموازنة من عدمه، ولا يحق لأحد أن يخالفه الرأي أو يضغط باتجاه معاكس، كما انتقد "ماكرون" المعارضة وفرض قوانين ضريبية جديدة أيضًا.

في هذه المرحلة من مدة رئاسة ماكرون التي سوف تدوم خمس سنوات، يشهد الرجل أسوأ تدني في شعبية رئيس منذ 20 عام

وهو ما توقعته قوى سياسية كانوا قد حذّروا من "تحول المؤسسة التشريعية إلى أداة خاضعة لنفوذ الرئيس، وهو ما قد يحدّ من الحياة الديموقراطية في الداخل الفرنسي، وينعكس مرحليًا على قرارات الدولة وتوجهاتها في الدبلوماسية والخطط المتخذة لنقاش ملفات حساسة".

بعد حوالي 90 يومًا أو أقل، شهدت تلك الشعبية التي كان يحوزها ماكرون انخفاضًا كبيرًا، وهو ما لفت أنظارنا إلى تعبير صحيفة "ليبرسيون" الفرنسية، إذ قالت "إنه في هذه المرحلة من مدة رئاسة ماكرون التي سوف تدوم خمس سنوات، يشهد الرجل أسوأ تدني في شعبية رئيس منذ 20 عام، نتيجة كثرة التناقضات والأخطاء"، كما أن هناك عددًا من نواب حركته نفسها، قد أظهروا استياءهم من الإعلانات الوهمية عن خطط الإصلاحات التي لم يتحقق منها شيء.

لماذا تراجعت شعبية إيمانويل ماكرون في الشرق الأوسط؟
يسيطر ماكرون الآن على مجمل مفاتيح السلطة الداخلية في النظام السياسي الفرنسي، أي إنه يملك حق التصرف بأريحية في السياسة الخارجية للدولة، إذًا نسير في هذا الجزء من التقرير عزيزي القارئ، نحو مواقف الرجل إزاء الواقع العربي وشعوبه التي يمكن أن نعتبرها أكثر من يفتقد تلك "الحرية" التي جاء ماكرون مدعيًا ترسيخها.

فيما يخص الكيان الصهيوني، أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، بعد لقائه مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أن فرنسا تشترك مع إسرائيل في قلقها من أنشطة "حزب الله" اللبناني، وتسليحه في جنوب لبنان، كما حاول الاندماج مع الجانب الإسرائيلي للتخلص من ذلك الخطر، وأكّد "إن معاداة الصهيونية نفسها امتدادًا لمعاداة السامية".

اقرأ/ي أيضًا: ماكرون.. الدخيل الفرنسي الذي سوف يصبح رئيسًا

بينما فيما يخص القضية الفلسطينية، تمسك بحل الدولتين، باعتبار أن ذلك هو الطريق الوحيد لتحقيق سلام دائم بين الإسرائيليين والفلسطينيين، مؤكدًا في نفس الوقت على رفضه الضغوط المختلفة على الكيان الصهيوني، وأدان الهجوم الذي نفذه ثلاثة شباب فلسطينيين، وأسفر عن مقتل عنصرين من الشرطة الإسرائيلية والمهاجمين جميعًا، وتسبب بإغلاق الحرم الشريف أمام المصلين والزوار لمدة يومين. وأكد ماكرون تضامنه مع الإسرائيليين في ذلك، ولم يلتفت إلى الجرائم التي يقوم بها الكيان الصهيوني منذ سطوته على تلك الأرض التي لا يملكها. وإجمالًا كان ذلك اللقاء قد أثار غضب كثيرين في الداخل والخارج.

وعلى جانبٍ آخر، علّق ماكرون على أنه حريص على تحقيق فترة انتقالية شاملة وطويلة المدى في سوريا لضمان الأمن في المنطقة والتوصل إلى سلام عادل، وتمكين غالبية اللاجئين من العودة إلى سوريا، كما أكّد أن السياسة الفرنسية في السنوات الست الماضية، فيما يتعلق بمقاطعة نظام بشار الأسد في سوريا ودعم المعارضة كانت "فاشلة"، وحذّر من التدخل العسكري في سوريا على إنه حل للأزمة، ودعى إلى الحوار والتفاوض بمشاركة دولية واسعة وبإشراف الأمم المتحدة، ومحاولة الوصول إلى حلول توافقية من شأنها التمهيد لانتقال سياسي في سوريا للأسد حق فيه؛ أي أن يبقى بشار الأسد لأنه لا يوجد بديل شرعي له ليحكم السوريين.

في ليبيا، سعى ماكرون للدخول كوسيط في الأزمة الليبية منذ رحيل القذافي، الدائر بين حكومة الوفاق الوطني ورئيسها المنتخب فايز السراج

وتجاهل ماكرون كل المجازر التي تدين بشار داخل سوريا، رغم إنه هو ذاته من قال: "الأسد عدو للشعب السوري لكنه ليس عدوًا لفرنسا"، لم نعرف بعد كيف يمكن لرئيس أن يكون عدوًا لشعبه في حين إنه يمثل فائدة ما لأفراد آخرين، غير أن يكون خائنًا لذلك الشعب، وهو بالطبع ما لم يقصده ماكرون أثناء موقفة الذي يماثل فيه صديقه الروسي بوتين.

في ليبيا، سعى ماكرون للدخول كوسيط في الأزمة الليبية منذ رحيل القذافي في شباط/فبراير 2011، الدائر بين حكومة الوفاق الوطني ورئيسها المنتخب فايز السراج في مقابل اللواء القادم من واشنطن خليفة حفتر، وحاول فتح مجال للحوار مع اللواء حفتر، بل قرر التعاون معه ومد يد العون، وحاول أن يؤازره سياسيًا وعسكريًا.

وهو ما رفضته دبلوماسية الرئيس السابق فرانسوا هولاند، ما أثار جدلًا واسعًا، كما أعلنت فرنسا عبر وزارة خارجيتها ترحيبها بإعلان حفتر غرة الشهر الجاري "تحرير بنغازي من الإرهاب"، بأن رعاية عملية استئناف جهود التسوية السياسية من أجل تشكيل جيش ليبي نظامي يخضع للسلطة المدنية "شيئًا جيدًا".

اقرأ/ي أيضًا: فوز ماكرون.. من وجهة نظر عربية

ويرى محللون أن سياسة فرنسا ماكرون، سواء في ليبيا أو سوريا إلى جانب موقفه من فلسطين حملت خطأ كبير عن عهدها السابق فرانسوا هولاند، وأنها بشكل أو بآخر مسؤولة عن الإرهاب الذي يستشري في العالم العربي، بينما يرجع خبراء ذلك الاتحاد الذي تم بين ماكرون وبوتين، كان بسبب تراجع دونالد ترامب عن تأييده الأوروبي، إذن جاء ذلك كاتحاد أوروبي-روسي بديل يواجه ترامب أو يهدده بالتراجع لحماية فرنسا خصوصًا وأوروبا عمومًا.

بينما يعتقد آخرون أن الجانب الأمريكي المشغول بالشرق الأوسط يجد دعم من مجلس التعاون الجليجي، مقابل التواجد الروسي الذي يفرض نفسه، وينتزع صداقته "بالقوة" سواء من تركيا أو إيران وغيرهما، بالتالي كان التواصل مع الجانب الروسي الحل الأمثل للدخول إلى ثقب العالم العربي، وإظهار ثمة زعامة موهومة على أراضيها، لكن على ما يبدو أن ذلك يبرهن على تخبط سياسات الشاب الصغير في الخارج وهو ما يمكن اعتباره نتيجة منطقية لما يحدث في الداخل أيضًا.

تجاهل ماكرون كل المجازر التي تدين بشار داخل سوريا، رغم إنه هو ذاته من قال: "الأسد عدو للشعب السوري لكنه ليس عدوًا لفرنسا"

تلك الصراعات الدائرة قد لا تضع اعتبارًا لحسابات الشعوب العربية عمومًا ولا مستقبلها، ولا ينظر إلى تلك القضايا من مبدأ الشرعية والأحقية بين المتخاصمين وفق معايير موضوعية سواء في ليبيا أو سوريا أو غيرها، بقدر الوقوف بجانب المنتصر والأكثر فائدة.

"إن منطقة الخليج العربي يجب أن تبقى مستقرة" كان هذا التصور الذي قاله ماكرون قد سبقه إليه ترامب دون أن يدرِ أو يهتم بأضرار ذلك الاستقرار المزعوم ولا كيف يتم، أو كيف يسترد الشعب السوري حقوقهم من جرائم بشار الأسد، ربما كانت الخرقة السياسية واسعة وكبيرة على أن يديرها الشاب الصغير.

 

اقرأ/ي أيضًا:

ماكرون وأردوغان.. التجارب السياسية الجديدة

زيارة ماكرون إلى المغرب.. دكتاتور فرنسا الهادئ بلا وزرائه