سلّطت صحيفة "لوباريزيان" الفرنسية الضوء على أحد أكثر المواضيع حساسية في الدبلوماسية الأممية، وهو الاتجار بالتمثيل الدبلوماسي، أي بيع الجوازات والمناصب الدبلوماسية لأشخاص مشبوهين سياسيًا واقتصاديًا، بهدف الحصول على الحصانة التي تتيح لهم التنقل بحرية، وتمنحهم مستوى من الحماية ضد التحقيقات والمساءلات القانونية وعمليات التفتيش.
وبحسب التقرير، يتحرك هؤلاء الأشخاص بصفات سفراء ويحملون جوازات دبلوماسية صادرة عن دول صغيرة أو جزر في المحيط الهادئ والكاريبي، دون أن يكون لهم أي ارتباط فعلي بها. وغالبًا ما ينحدر هؤلاء من بلدان إفريقية، وآسيوية، وأخرى عربية.
ويزعم تحقيق الصحيفة الفرنسية أن منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو)، التي تتخذ من باريس مقرًا لها، أصبحت وجهة مفضلة لهؤلاء المتاجرين بالتمثيل الدبلوماسي، بل وتحولت إلى حاضنة لعدد من رجال الأعمال والسياسيين المشبوهين، وهو ما يثير استياءً واسعًا داخل الأوساط الأممية والثقافية بالنظر إلى الأهمية الرمزية للمنظمة.
ويشير التقرير إلى أن بعض من يُطلق عليهم "صقور المتاجرين بالتمثيل الدبلوماسي"، الذين تجاوز وجودهم في المنظمة أكثر من 30 عامًا، تمكنوا من بناء شبكة نفوذ موازية خلف الواجهة البراقة لليونسكو، تُمارس نفوذًا غير رسمي داخل المؤسسة.
استهلّت لوباريسيان تحقيقها بحادثة دالة وقعت آذار/مارس الماضي في مطار لوبرجيه الفرنسي مع الملياردير السوري وفيق سعيد المعين مندوبًا دائمًا في اليونسكو من طرف سانت فينست وجزر غرينادين منذ عام 1996
المتاجرون بالتمثيل الدبلوماسي يصوّتون في اليونسكو
يُصوّت المتاجرون بالتمثيل الدبلوماسي على قرارات وسياسات اليونسكو المتعلقة بالتعليم والثقافة، كما يمتلكون صلاحية اقتراح إدراج مواقع ضمن قائمة التراث العالمي للمنظمة.
ورغم أن استقبال سفراء ومندوبين من الدول الأعضاء أمر معتاد في المنظمات الدولية، إلا أن اليونسكو، بخلاف كثير من المؤسسات، لا تفرض قيودًا على فترة تمثيل المندوبين، مما يفتح الباب أمام بقاء بعضهم لعقود طويلة في مناصبهم.
وقد تحوّل هذا التساهل إلى بيئة خصبة للاتجار بالمناصب الدبلوماسية، حيث يضمّ السلك الدبلوماسي في المنظمة شخصيات بقيت لأكثر من 30 عامًا، من بينهم رئيسة المجلس التنفيذي فيرا الخوري لاكويل، ونائبها الملياردير النيجري جلبرت شاغوري، الذي كوّن ثروته في عهد الديكتاتور ساني أباتشا، إلى جانب الملياردير السوري وفيق سعيد (85 عامًا)، الذي يشغل منصب المندوب الدائم لسانت فينسنت وجزر غرينادين منذ عام 1996.
واقع "مافيوي" داخل منظمة ثقافية
يصف أحد المطلعين على كواليس اليونسكو الوضع في حديث لصحيفة "لوباريزيان" بأنه "واقع مافيوي" حقيقي، حيث تُستخدم الحصانة الدبلوماسية غطاءً لحماية الأموال والمصالح المشبوهة.
فعلى الرغم من أن فيرا الخوري لبنانية الأصل، إلا أنها تمثّل دولة صغيرة تُدعى سانت لوسيا. ويزعم التحقيق أن الخوري ونائبها شاغوري يديران شبكة غير رسمية داخل المنظمة، تُعنى بـ "هندسة نظام للسفراء الوهميين".
هذا النظام يعتمد على قائمة محدودة من نحو 15 دولة صغيرة وفقيرة، تُقدّم جوازات ومناصب دبلوماسية لأشخاص مشبوهين مقابل مبالغ مالية تصل إلى مليون يورو مقابل الجواز الواحد.
حادثة الملياردير وفيق سعيد
افتتحت صحيفة "لوباريزيان "تحقيقها بحادثة وُصفت بأنها كاشفة، وقعت في آذار/مارس الماضي، حين خضعت الطائرة الخاصة للملياردير السوري وفيق سعيد، المعين مندوبًا دائمًا لسانت فينسنت وجزر غرينادين، لتفتيش دقيق في مطار لو بورجيه الفرنسي، أثناء توجهه إلى بريطانيا. وهو تفتيش لم يكن معتادًا خلال أكثر من خمسين عامًا، ظل سعيد يتنقل خلالها بحرية مطلقة.
وقد كشفت العملية عن وجود مبلغ يتجاوز ربع مليون يورو على متن الطائرة، رغم أن سكرتيره الخاص كان قد صرّح بأن المبلغ لا يتجاوز 2500 دولار، ردًا على سؤال موظفي الجمارك المعتاد حول حمل مبالغ نقدية تتجاوز 10 آلاف يورو.
لكن بفضل وضعه الدبلوماسي، لم تُفتح أي قضية رسمية بحق سعيد، بل طالب لاحقًا باعتذار رسمي من السلطات الفرنسية والبريطانية، مدّعيًا أن رئيس وزراء سانت فينسنت أصرّ على بقائه مندوبًا دائمًا في المنظمة.
وقال سعيد في تصريح مقتضب: "لا يجب أن تتصوروا أن هذا المنصب وسيلة للحصول على الحصانة. أنا ببساطة أحب أن أبقى نشيطًا. إنها منظمة نبيلة، وأنا أؤمن كثيرًا بالتعليم".
ويُشار إلى أن سانت فينسنت وجزر غرينادين، وهي أرخبيل صغير في الأنتيل الصغرى، عيّنت سعيد مندوبًا لها في اليونسكو بين 1996 و2018، ثم أعادت تعيينه في بداية عام 2024.
شخصيات ظل وعقود من النفوذ
تُسلّط الصحيفة الضوء أيضًا على خلفية سعيد، المولود في دمشق، والذي ربطته علاقات متينة مع عائلة الأسد، وخاصة أسماء الأسد، إلى جانب ارتباطه بدوائر سياسية في بريطانيا والسعودية. فقد لعب دور الوسيط في واحدة من أكبر صفقات السلاح البريطانية على الإطلاق، بلغت قيمتها 60 مليار جنيه إسترليني لتزويد المملكة السعودية بطائرات قتالية.
ورغم أن تلك الصفقة شابتها فضيحة فساد كبرى لاحقًا، لم يُستجوب سعيد في أي مرحلة، بل حصل على الجنسية الكندية، وظل محصنًا سياسيًا واقتصاديًا لعقود.
إن شراء الحصانة هو حيلة قديمة
شراء الحصانة... حيلة قديمة ما تزال رائجة
يُعد شراء الحصانة الدبلوماسية حيلة قديمة ما تزال رائجة حتى اليوم. ففي عام 2003، قدّم رجل الأعمال بيير فالكون، الذي صدرت بحقه أوامر اعتقال دولية بتهمة الاتجار بالأسلحة جواز سفر دبلوماسي إلى السلطات الفرنسية، بعدما عيّنه الرئيس الأنغولي آنذاك خوسيه إدواردو دوس سانتوس سفيرًا لبلاده لدى اليونسكو.
وتُؤكد "لوباريزيان" أن مثل هذه الحالات تُلحق ضررًا بالغًا بصورة المنظمة، مشيرة إلى أن معظم السفراء الذين يُعيّنون دون صلة حقيقية بأجندة اليونسكو أو مجالات عملها، غالبًا ما يستعينون بنواب ينخرطون بدورهم في مزاد دائم تُحركه المصالح الشخصية، حيث يكون الولاء لمن يدفع أكثر، لا لمبادئ العمل الثقافي أو الدولي.
وتكمن المعضلة، بحسب التحقيق، في أن اليونسكو لا تملك صلاحية رفض الملفات الدبلوماسية التي تفرضها عليها الدول الأعضاء. وعلى الرغم من إدراك المنظمة أن بعض الأسماء تثير شبهات، إلا أن ردها يبقى محصورًا بعبارة: "الدول الأعضاء تتمتع بالسيادة في اختيار ممثليها".
في المقابل، تبقى وزارة الخارجية الفرنسية الجهة الوحيدة المخوّلة قانونيًا برفض دخول أي شخصية دبلوماسية إلى الأراضي الفرنسية. ويحذّر أحد الخبراء في المجال من أن هذه الممارسات تخلق بيئة مثالية لتكريس نظام للاتجار بالحصانة.
بينما صرّح مسؤول داخل المنظمة قائلًا: "من الواضح أن الحصانة الدبلوماسية تُستخدم في كثير من الحالات كغطاء لأعمال مشبوهة، وقد آن الأوان لكي تضع الدول الأعضاء إطارًا أخلاقيًا حازمًا لهذا النظام".