25-نوفمبر-2016

لقاء الرئيس السادات وهمت مصطفى في ماسبيرو زمان (يوتيوب)

في حزيران/يونيو الماضي، أعلن التلفزيون المصري بدء البث التجريبي لقناة "ماسبيرو زمان". وفي الرابع من آب/أغسطس الماضي بدأ البث الرسمي للقناة بما تيسر من القرآن الكريم بصوت الشيخ محمد رفعت، تلته حلقة من برنامج الأطفال "عصافير الجنة" تقدمه المذيعة الراحلة سلوى حجازي، ثم حلقة من برنامج "سينما القاهرة" التقت فيها ميرفت أمين، مذيعة البرنامج، بالزوجين رشدي أباظة وسامية جمال في منزلهما. أُذيعت من بعدها حلقة من مسلسل "أشجان" من بطولة سهير رمزي وإخراج يحيى العلمي، وبعد أذان صلاة المغرب بصوت محمد صديق المنشاوي، توالت البرامج وحلقات المسلسلات القديمة.

تستنجد قناة "ماسبيرو زمان" بالأفلام والمسلسلات القديمة لجذب المشاهدين لكن بإخفاق دائم

تحت عنوان "من فات ماسبيرو تاه" بدأت القناة الوليدة بث ما يحويه أرشيف التلفزيون المصري. بهذا الشعار الذي يحمل غرورًا لا يبدو مفهومًا مصدره لدى مُسيّري اتحاد الإذاعة والتلفزيون المصري، ذلك الكيان الذي صار عبئًا ثقيلًا على الدولة (تتمنى لو تتخلص منه في أقرب فرصة). وبعيدًا عن بدائل كثيرة كان يمكن استخدامها كشعار للقناة الجديدة، فإن المأخذ الأساسي على اختياره يعود إلى أن أحدًا من الجيل الحالي لقيادات ماسبيرو لم يشارك في صنع ذلك التراث الذي يتباهون به حاليًا ويعرضونه بشكل حصري. كما أن أغلب تلك المواد متهالك فنيًا (في الأصل) ولم يرمم، وربما هي آخر ما تبقى لديهم بعد أن ضاع ما تبقى، في أقبية المبنى المهترئ، الذي لا يعرف النظم الحديثة للحفظ والأرشفة وصار مثالًا على الإهمال والبيروقراطية الفاسدة.

اقرأ/ي أيضًا: الإعلام المصري.. خارطة مشبوهة

المتابع للقناة سيجد تشويهًا أوليًا يلحق بالمواد التراثية المذاعة. يتمثل في كتابة "لوغو" القناة بحجم كبير كعلامة مائية في وسط الشاشة، وهو تصرّف "غريب" ينمّ عن عقلية "رديئة" في التعامل مع المواد الفنية، يضاف إلى أنه يشوّه وجوه الممثلين/ات في المسلسلات والأفلام المعروضة، والتي تعتمد بشكل أساسي على الكادرات المتوسطة والقريبة. هذا التشويه يشبهه أحد النقاد المصريين، بحادثة غيتار المغني براين آدامز في مطار القاهرة، حين أصر أحد موظفي الجمارك على كتابة بيانات الغيتار عليه رغم أنه غيتار نادر ولا مثيل له.

وتأتي القناة في وقت تشهد فيه الساحة الإعلامية العربية، والمصرية خصوصًا، احتفاءً يراه البعض مفتعلًا بكل ما هو ماضي. وتبدو المواد المذاعة على شاشة "ماسيبرو زمان"، وكأنها تستمد قيمتها من كونها تعيد إحياء تراث يصبّ توظيفه على الدوام في ما يشبه النواح والبكائيات على "الماضي الجميل" الذي لم يعد موجودًا.

موجة الحنين المبتذل

البحث عن تفسير لاتجاه بعض المؤسسات الإعلامية العربية إلى الترويج لبرامج وقنوات تلعب على وتر الحنين إلى الماضي غالبًا ما يأخذنا إلى تلك الظاهرة غير المفهومة من الحنين المُعمّم لدى قطاع واسع من المشاهدين العرب إلى السنوات البعيدة التي كانت فيها "الحياة أسهل"، وفق ما يدّعون.

في الحالة المصرية، يمكننا الإشارة إلى برنامج "عرض خاص"، والذي يُعرض على شاشة القناة الثانية منذ سنوات مُقدمًا فقرات من الأعمال الدرامية والتلفزيونية القديمة. ومع انتشار موجة النوستالجيا التي داهمت الشاشات المصرية في العامين الأخيرين قامت بعض القنوات الخاصة بالاستعانة ببعض حلقات البرنامج عبر برامجها المختلفة، مثلما فعلت إسعاد يونس خلال برنامجها "صاحبة السعادة"، بالإضافة إلى منى الشاذلي، التي استعانت أيضًا فى حلقاتها بأجزاء من البرنامج ضمن حلقات برنامجها "معكم"، والأمر نفسه مع سمير صبري فى برنامجه "ماسبيرو"، وهو ما يؤشر على حالة يتم رعايتها والترويج لها لأسباب تبدو غامضة.

البعض يتحدث عن ضرورة العودة إلى ذلك الزمن الذي اتسم بـ"الرقي واحترام القيم"، ويرى من المفيد أن يتم تقديم إنتاجات ذلك الزمن إلى الأجيال التي لم تعاصره كي "تحلّق بهم في أزمنة راودهم الحلم للعيش خلالها بعيدًا عن زمن تنافس فيه البعض على عرض القبح والإثارة من أجل جذب الجمهور". هذا الرأي يتشاركه عدد من كبار السن الذين يرون في العودة إلى الماضي لقاءً بالأصالة، مثلما تؤكد السيدة رباب (60 عامًا) في حديثها إلى "ألترا صوت": "نحن نستمتع بمشاهدة أفلام ومسلسلات وبرامج مضى عليها أكثر من خمسين عامًا. ربما تكون أحداثها ووقائعها لم تعد تتماشى مع العصر الحالي وتفكير الجيل الجديد، ولكننا نلجأ إليها كمساحة للراحة والسكينة والانسلال من ضغوطات الحياة الحديثة. إنها تذكّرنا بما كنا عليه يوما ما".

تلك الأسباب لا تبدو مقنعة لعبدالله (27 عامًا)، الذي يشير إلى خطأ منهجي في التسويق لتلك الموجة من الحنين المبتذل، على حد تعبيره، ويقول: "ربما يكون صحيحًا أن الزمن الذي عشت فيه كان أجمل، ولكن ذلك الحكم أو الانطباع لا يصح تعميمه على من هم أصغر منك سنًا. هناك شيء لا أفهمه أبدًا في دعاة العودة إلى الماضي الجميل واستجداء النوستالجيا على مدار اليوم. خصوصًا من الشباب. وهو أنه لا أحد من هؤلاء عاش أصلًا في ذلك الزمن، وكل ما في الأمر أنهم يستهلكون مقولات وعبارات وقيم لم يختبروها بالأساس".

اقرأ/ي أيضًا: هل دعا مهرجان القاهرة السينمائي ممثل "بورنو"؟

وحول أسباب تلك الظاهرة يشير عبد الله إلى سببين: "أولًا، أن يكون الحاضر سيئًا وبالتالي لا يكون أمامنا سوى التعلق بالماضي ومن ثم إضفاء صفة الجمال عليه، ويساعدنا في ذلك انتقائية الذاكرة التي تستبعد كل ما لا تريده أن يعاود الظهور، وتلك آلية يجري اعتمادها تقريبًا من قِبل كل من يروّج لفكرة الماضي الجميل. وثانيًا، أن تكون العودة للماضي ترجمة لحالة من العجز الكامل عن الاستمتاع بما هو موجود فعليًا أو عدم القدرة على تحقيق مستقبل أفضل، وهذا السبب يمكن الوقوف عليه لدى كبار السن ممن لم يعد أمامهم الوقت الطويل في الحياة وكل ما يفكرون به هو انتظار الموت."انتظار الموت يستدعي غالبًا استجداء الذكريات"، وفق ما يقول عبد الله، وربما يشمل ذلك التفكير على نزعة من الحنين الجارف تجاه نمط حياة معين لم يعد موجودًا ولن تتاح له الفرصة للوجود ثانية، لأن الماضي -كما نعرف جميعًا- لا يعود أبدًا.

تسويق الذات؟

لا تبدو "ماسبيرو زمان" قادرة على منافسة القنوات الفضائية من خلال تشكيلتها من البرامج والمسلسلات. بالنظر إلى إيقاع الحياة اللاهث وتغيّر الأذواق ووسائل الترفيه وطريق الحصول على ذلك الترفيه. تقول سالي (طالبة في كلية الطب بجامعة القاهرة) إن "القنوات الفضائية، لديها طابع حداثي مميز من حيث الشكل وأكثر جاذبية من حيث المحتوى لأنها تواكب التغيرات وتمتلك القدرة على الوصول لشريحة مشاهديها المحتملين، بينما "ماسبيرو زمان" لا يبدو أن لها توجهًا معينًا يمكن أن يشكل عاملًا جاذبًا أو وسيلة لتسويقها، بمعنى آخر هي قناة لا هوية لها"، وتبرر سالي رأيها بالقول: "هم لا يمتلكون سوى البرامج والمسلسلات القديمة ويعتقدون أن ذلك سببًا كافيًا لتحقيق النجاح أو نسب المشاهدة العالية، وربما تكون تلك المادة جاذبة لشرائح كبار السن ممن عاصروا تلك الفترة -الستينيات والسبعينيات- ولكن هؤلاء أصلًا لا يمثلون نسبة كبيرة من سكّان مصر، فضلًا عن صعوبة الوصول إليهم وإعلامهم بأن هناك قناة جديدة تذيع المسلسل الفلاني أو البرنامج العلاني. أما بالنسبة للأجيال الأصغر سنًا فهناك "يوتيوب" دائمًا ليأتيك بما تريد"، توضح سالي.

لا تبدو "ماسبيرو زمان" قادرة على منافسة القنوات الفضائية ويجدها الشباب المصري بعيدة عن تطلعاتهم ولا هوية لها

أمر آخر يشير إليه عصام (طالب في كلية الإعلام في جامعة القاهرة) وهو الشكل الفقير الذي تظهر عليه القناة، وإذاعتها أحيانًا لمواد تعاني من رداءة الصوت والصورة، كما أنه ليس هناك أي إبهار بصري أو ابتكار في البروموهات التي تذاع بين البرامج. "ينطبق عليهم المثل الشعبي "الخواجة لما يفلّس يدوَّر في دفاتره القديمة". تشعر أن الطريقة التي يتعامل بها المسؤولون عن القناة تتبع منهج رصّ البضائع من دون أي آلية للفرز والانتقاء، وكأنهم وجدوا لقية ولا يعرفون ماذا يصنعون بها"، يقول عصام منتقدًا غياب العقل التنظيمي وراء القناة الجديدة. ويشير إلى عدم وجود خريطة برامجية ثابتة للقناة تشجّع المشاهدين على متابعتها بشكل مستمر وكأنهم يعرضون ما يصادفهم من شرائط دون تدقيق: "في إحدى المرات كانت القناة تعرض مسلسلاً نادرًا وبعد إذاعة عدد من حلقاته توقف المسلسل فجأة، وعرفت فيما بعد أن السبب يعود إلى عدم وجود باقي الحلقات لتعرضها للتلف".

اقرأ/ي أيضَا: مذبحة ماسبيرو.. من يحمي الجيش من بطش الأقباط؟

هذه الأخطاء التي يشير إليها طالب الإعلام لا تبدو متوافقة مع ما أعلنته صفاء حجازي، رئيس اتحاد الإذاعة والتلفزيون المصري، قبل بدء بث القناة، حول أهمية الاستفادة من تراث ماسبيرو "إيمانًا بحق الأجيال الجديدة في معرفة هذا البناء العظيم وكيف استطاع نقل تراث مصر وثقافاتها وتاريخها عبر الزمن للعالم"، مشيرة إلى أهمية جذب المعلنين مرة أخرى إلى ماسبيرو.

ويشير خبراء إلى أن السبب الرئيسي وراء بث القناة هو استغلال التراث الفني في التغطية على نقص الأعمال الجديدة والحصرية، بسبب الأزمات المادية التي يعيشها اتحاد الإذاعة والتلفزيون المصري. وبعد ثلاثة أشهر على بدء التشغيل الرسمي للقناة، لا يبدو ممكنًا أن يتحقق ما رغبت به رئيس التلفزيون المصري، فليس هناك ما يدعو لتصوّر أن المسؤولين على "ماسبيرو زمان" قادرون على دفعها لاحتلال مكانة متقدمة في اختيارات المشاهدين، ومن ناحية أخرى، لا تبدو فكرة جذب المعلنين موضوعية بأي شكل من الأشكال، نظرًا للقصور الذي تعانيه القناة والذي يبدو استكمالًا لحالة الإهمال التي سيطرت على قطاع التلفزيون المصري طوال عقود سابقة، حتى بدا ماسبيرو "كشخص فقد عقله يتحدث إلى نفسه في برامج لا يتابعها أحد". والأدهى أن ذلك الكيان المترهل لا يعتبر مما يحاول تسويقه الآن، فمن باب أولى أن يراجع مسؤولوه حالة التدهور المستمر التي يعيشها ويسائلون أنفسهم: "هل قدّمنا ما يصلح لتشاهده الأجيال القادمة بعد 50 عامًا؟".

اقرأ/ي أيضًا:

محمد فوزي..أيقونة البهجة وصريع ثورة يوليو

فضائيات الوهم الاجتماعي