26-ديسمبر-2015

كان مارلون براندو رقيقًا وحادًا، دقيقًا ومتهورًا، شغوفًا ولا مباليًّا

ساعة وثلاث وأربعون دقيقة هي مدة كافية لأخذ استراحة من أعباء الزمان والمكان والدخول مباشرةً إلى عالم النجم السينمائي الراحل مارلون براندو من خلال وثائقي مميز طرحته شركة شوتايم بعنوان "مارلون: أنصت إليّ Listen To Me Marlon".

في منزل مفكك، وعلاقات أسرية مضطربة، نشأ مارلون براندو

خشبة مسرح كبيرة وملامح وجه تبدو عليه نقوش الزمن والأماكن. مجموعة فوضوية من ملصقات الأفلام والملابس المتناثرة. هكذا يبدو عالم مارلون براندو حقيقيًّا بلا رتوش أو مساحيق تجميلية. لم تكن الطفولة سعيدة أبدًا، ففي منزل مفكك وعلاقات أسرية مضطربة نشأ الطفل مارلون الصغير. 

كان الأب قاسيًّا والأم مدمنة للكحوليّات لكنها رقيقة وشاعرية كما وصفها مارلون براندو. لطالما علّمه والده أن يعتمد على نفسه ويشق طريقه، لذلك سافر إلى نيويورك ليلتحق بمعهدٍ يُدعى "المدرسة الجديدة" والتي كوّنها مجموعة من اليهود الفارين من "هتلر" إبان الحرب العالمية الثانية (1939 – 1945). يتوقف مارلون براندو قليلًا يأخذ نفسًا عميقًا ثم يصيح: ستيلا أدلر.. تلك السيدة التي يدين لها بالفضل في تعلّم حرفية التمثيل وفن المحاكاة. كانت تردد دائمًا: "على الممثل أن يكون مسيطرًا على خشبة المسرح فالانسحاب ليس من الطبيعة البشرية". 

تعلّمت أدلر على يد قسطنطين ستانيسلافسكي المخرج الروسي الشهير. آمن ستانيسلافسكي بضرورة دراسة الحالة النفسية للشخوص حتى يتمكن الممثل من القبض على لحظات الإبداع والتماهي. هكذا كان مارلون براندو فيلسوفًا في نظرته إلى الأشياء، وقدرته على استنباط الأمور. منذ دخوله إلى عالم السينما بفيلمه الأول "الرجال – 1950"، أدرك مارلون براندو أهمية الانخراط في الشخصية وبذل المزيد من الجهد كي يصبح الدور مثاليًّا. 

لقد اضطر مارلون براندو إلى التزام الفراش لمدة شهر قبل التصوير، بالإضافة إلى مواظبة التمارين الرياضية في إحدى الصالات لكون بطل الفيلم معاق حرب. ومع قدوم عام 1951 قدّم فيلمه الخالد "عربة اسمها الرغبة" من إخراج إيليا كازان. ثم جاء فيلمه "عاش زاباتا – 1952" الذي حصد من خلاله مارلون براندو جائزة أفضل ممثل في مهرجان كان السينمائي. ثم جاء الفيلم المنُتظر "على واجهة الماء – 1954" الذي حصد من خلاله أول جائزة للأوسكـار. 

مارلون براندو: في مملكة العمى يصبح ذو العين الواحدة هو الملك

كانت حياة مارلون براندو مليئة بالأحداث والمواقف، لكنها لا تخلو من المفارقات والدموع، خصوصًا تلك الفترة التي قرر فيها المكوث في جزيرة تاهيتي التي طالما قرأ عنها في مكتبة المدرسة. هناك عاد مارلون براندو إلى النقاء وحكمة الغيوم. لقد تعلّم تقديس الحرية، والمساواة بين البشر. لكن على عكس ما يراه المشاهدون لم يحب مارلون دوره في الفيلم الخالد "ثورة على السفينة بونتي – 1962" ربما لأن صُنّاع الفيلم لم يناقشوه في تفاصيل الدور وأبعاده. 

هكذا كان مارلون براندو رقيقًا وحادًا، دقيقًا ومتهورًا، شغوفًا ولا مباليًّا. لكن تلك التركيبة في النهاية ساهمت في تكوين هذا الممثل الذي شهد له الجميع بالكفاءة وتوجوه على عرش هوليود. قال عنه الكاتب الأمريكي "ترومان كابوت": "لقد جسد مارلون براندو الصورة المثالية للشباب الأمريكي: شعر أشقر، عيون رمادية تميل إلى الزرقة، بنية قوية. إن خريطة الولايات المتحدة الأمريكية موشومة على وجهه". 

وبعد عدّة إخفاقات في الحياة خصوصًا بعد طلاقه من زوجته الأولى آنا كاشفي التي رُزق منها بطفلٍ أسماه كريستيان، جاهد المخرج فرانسيس فورد كوبولا كي يقنع المنتجين بإسناد دور الدون فيتو كورليوني للمبدع مارلون براندو في الجزء الأول من ثلاثية "العراب – 1972". 

في الوثائقي، قال مارلون براندو إن هذا الدور جاءه في الوقت المناسب تمامًا خصوصًا بعد وصفه فيلم "حلوى – 1968" بأنه أسوأ أدواره على الشاشة. عاد مارلون براندو بقوة إلى الواجهة، وتحوّل شخصية فيتو كورليوني إلى أسطورة خالدة. لكن المفاجأة كانت رفضه لجائزة الأوسكار ذلك العام عن دوره في فيلم "العرّاب"، وقد اعتذرت ابنته للجنة التحكيم نتيجة للممارسات الوحشية التي انتهجتها الحكومة ضدّ الهنود الحمر وقتها.

عاش مارلون براندو حياة مليئة بالحزن حاول من خلاله أن يُبرز فلسفته الخاصة

لقطات داخلية وخارجية متناثرة ينتهجها مخرج هذا الوثائقي ما بين صوت مارلون براندو المميز وألبومات صوره، مرورًا بأحداث حياته ومنزله المنعزل. يقول مارلون براندو: "في مملكة العمى يصبح ذو العين الواحدة هو الملك"، كأن لسان حاله يقول: لا أحد يمتلك الحقيقة الكاملة كما تعلّم دائمًا من "وليام شكسبير". 

مع اقتراب الوثائقي من نهايته يخبرنا مارلون براندو أن فيلمه "التانغو الأخير في باريس – 1972" من أحب الأدوار إلى نفسه، فقد شارك المخرج الإيطالي برنالدو بيرتلوتشي في إخراج هذه التحفة الفنية النادرة. إن أهمية هذا الفيلم تكمن في تقاطعه غير المباشر مع حياة مارلون براندو، حيث إيقاع الحياة كصوت القطار، وقسوة الأب أحيانًا، وشعوره بالاغتراب أحيانًا أخرى. ومع مرور الوقت وأدائه للعديد من الأدوار المهمة على شاشات السينما، بدأ وزن مارلون براندو في الازدياد ثم شعوره باليأس والآسي عندما انتحرت ابنته في عام 1995 تأثرًا بمقتل صديقها على يد أخيها.

لقد عاش مارلون براندو حياة مليئة بلحظات الحزن والفقد حاول من خلاله أن يُبرز فلسفته الخاصة. لكن تلك الحياة انتهت في 1 يوليو/تموز 2004، وأُسدِل الستار على الفصل الأخير لواحد من أهم نجوم السينما. ولا أشك أن هذا الوثائقي عن حياة مارلون براندو لهو من أهم ما أنتج عن هذا الممثل الأسطورة. 

اقرأ/ي أيضًا:

فيلم المريخي.. تخفيف أعباء المأساة

فيلم القداس الأسود.. للجريمة جذور