08-سبتمبر-2015

فارق كبير بين مسني بيروت ومسني لندن (أ.ف.ب/Getty)

لا أذكر شيئًا عن مسنّي بيروت سوى أماكنهم التي بدّل الزمان وجوهها. في تلك المساحة الصغيرة عند مدخل بنايتنا، كنت أرى واحدًا منهم. رجل ثمانيني لا يتحرك من مكانه. اعتاد المارون وجوده حتى أصبح جزءًا من معالم الحي. الفارق الوحيد أنه كان يختفي في الليل ويعود ليظهر في الصباح الباكر. ولا أذكر أني صادفته يومًا وهو على وشك الظهور أو الاختفاء. لا استطيع تصوره إلا في موضع الجلوس، منحنيًا، وفي معظم الأحيان، غافيًا. لم يكن أحد يناديه باسمه، أو أي إسم آخر. كان كل من أراد الحديث عنه يكتفي بالإشارة إليه. ولم يكن أحد يناديه، أو بمعنى أدق، لم يحدث أني سمعت أحدًا يناديه، ذلك أن الحديث كان دائمًا عنه وليس معه.

كان هذا منذ أكثر من خمسة عشر عامًا، وهو كل ما أذكره عن مسنّي الشارع في بيروت التي غادرتها إلى لندن بعد نحو عامين من إختفاء الختيار. أتساءل اليوم وأنا أتذكر أو ربما أتخيل شوارع العاصمة من دونه ورفاقه: متى بالضبط يقرر المسنون في بيروت مغادرة الشارع إلى البيوت؟ رحلتهم هذه، التي غالبًا ما تنتهي بالموت، لماذا لا تترك شبابيكها مفتوحة على الأضواء والهواء؟

الوجود المنتظم للمسنين في شوارع لندن وضواحيها يخلق في رأسي هذه الأسئلة. فهنا، تختلط وجوه المسنين بالوجوه الشابة في الشوارع والساحات والمقاهي ومحطات المترو كأنها تنافسهم في الحياة وتساويهم في الموت. لا شيء من نشاطاتهم يذكر ببيروت أو يستحضر ذاكرة مشابهة عنها، حتى أن هذا يصعب تخيله. فلم المح يومًا عجوزًا ثمانينيًا أو تسعيني يحمل عربةَ اليدِ لتتبضع في الدكاكين الصغيرة، أو ينتظر الباص ويعرف موعده، أو يحتسي القهوة في مقهى عابر وهو في كامل اناقته، أو يمشي بمحاذاة حفيده على رصيف بعيد عن البيت، كما يفعل المسنون هنا.

قالت مارغاريت إنها ستزور بيروت  قريبًا ولم تكترث لتقدمها في السن إطلاقًا

منذ أسبوعين تقريبًا، سألتني عجوز ثمانينية بينما كنا ننتظر الباص الذي يمر عبر سوق شعبي قديم، حيث كنا أنا وهي متجهتان، عن بلدي. وبعد أن حدثتها عن أبرز ما يميزه (ميزة لبنان الجغرافية الأكثر رواجًا وإستهلاكًا: قرب الجبل من البحر) قالت لي بشوق وكأنها تقطع لي وعدًا إنها ستحاول زيارة لبنان في الصيف القادم أو بعده. لم تكن مارغاريت تنتظر الموت، أو تعيره أي إهتمام، لم تحجز له موعدًا في رزنامتها المزدحمة، بينما يجمد من هم في سنها في لبنان كل شيء، في انتظاره. مضت مارغاريت وأختفت في إحدى فروع السوق الضيقة، ومشيت أنا مع سؤال جديد، ماذا لو كرهت مارغاريت لبنان وأكتشفت أن المدينة بلعت وجهها؟ أستطيع تخيلها وهي تتلفت حولها في محاولة يائسة للبحث عن أشخاص قرروا اختصار ما تبقى من حياتهم تحت شبابيك مغلفة.

دلالات: