12-يونيو-2018

المترجم الفرنسي/الجزائري مارسيل بوا (1925 ـ 2018)

رغم أنّ الجزائر ليست عضوًا في المنظّمة العالمية للفرانكفونية، إلا أنّها تأتي في صدارة الدّول المستعملة للّغة الفرنسية حديثًا وقراءةً وكتابةً، بالنّظر إلى احتكاكها التّاريخي المباشر بالفرنسيين ما بين سنتي 1830 و1962 وغير المباشر من خلال المقرّرين الدّراسي والإعلامي، اللّذين بقيت الفرنسية لغتهما الثانية حتّى اليوم.

تأتي الجزائر في صدارة الدّول المستعملة للّغة الفرنسية حديثًا وقراءةً وكتابة

من هنا، كان عدد الرّوايات الجزائرية الصّادرة باللّغة الفرنسية، في كثير من المواسم الأدبيٍّة، يساوي أو يتجاوز عدد تلك الصّادرة باللّغة العربية. علمًا أن صدور أوّل رواية جزائرية باللغة العربية، وهي "ريح الجنوب" لعبد الحميد بن هدوقة في عام 1971، تأخّر عن صدور أول رواية بالفرنسية بـ21 عامًا.

اقرأ/ي أيضًا: الجزائر.. جائزة للرواية باسم الطاهر وطار

ولأسباب موضوعية كثيرة، منها حضور اللغة الفرنسية القائم على الهيمنة اللغوية والثقافية، لم تُمنح إلا فرص قليلة للرّواية الجزائرية المكتوبة باللغة العربية لأنْ تُترجم إلى اللغة الفرنسية، فيقرأها الفرنسيون والجزائريون الذين لا يحسنون إلا الفرنسية، بحيث كان عدد الرّوايات الفرنسية التي ترجمت إلى العربية أكثر من الرّوايات الجزائرية التي ترجمت إلى لغة فولتير.

يأتي المترجم الفرنسي/الجزائري مارسيل بوا (1925 ـ 2018) في طليعة المترجمين الفرنسيين والجزائريين، الذين اعتنوا بنقل الرّواية الجزائرية المعرّبة إلى اللغة الفرنسية بحسّ ومهنية عاليين، جعلا القارئ والنّاقد الفرنسيّ يقف على أنّ ما يُكتب سرديًا في الجزائر باللغة العربية لا يقلّ جمالية وانخراطًا في التقنيات السّردية الجديدة عمّا يُكتب في خارجها، ممّا صحّح كثيرًا من الرّؤى المتعسّفة والأحكام المسبقة لدى الفرنسيين والجزائريين المفرنسين معًا.

كان هذا الدّور مهمًّا وفعّالًا، في ظلّ كون العلاقة بين اللغتين ومعتنقيهما، بعد الاستقلال الوطني عام 1962 ورثت الصّراع الذي شاب حضورهما خلال فترة الاحتلال. فكان قطاع واسع من الكتّاب الجزائريين المعرّبين يعتبرون استعمال الفرنسية في الكتابة انسلاخًا عن هوّية البلاد والشّعب، في مقابل اعتبار قطاع واسع من المفرنسين استعمال اللغة العربية  انسلاخًا عن قيم الحداثة والعصرنة ومواكبة المقولات الجديدة في العالم.

بعد أربع سنوات قضاها مارسيل بوا في تونس وبيروت ليتعلّم اللغة العربية، دخل إلى الجزائر شهورًا قبل توقيع اتفاق إطلاق النار. فقد دخلها في الوقت الذي كان فيه الفرنسيون يحزمون حقائبهم للمغادرة، بما يعني أن الرّجل كان محكومًا بالحب لا بالحرب، فسخّر نفسه ليكون جسرًا بين الثقافتين، اللتين خلّف الصّراع بينهما عددًا من القتلى يفوق عدد سكان ستين بلدًا عضوًا في هيئة الأمم المتحدة.

جسّد مارسيل بوا هذه الرّوح القائمة على الحوار بدل الصّراع والحبّ بدل البغضاء والتّواصل بدل القطيعة والاحترام بدل الابتذال والتبادل بدل الهيمنة، من المنظور الثقافيّ لا السّياسيّ، فقد ظلّ هذا الأخير بعيدًا عن روح هذه الثّنائيات، من خلال جمعه بين مهمّتين في الوقت نفسه هما تدريس اللغة الفرنسية في إحدى ثانويات الجزائر العاصمة إلى أن تقاعد عام 1986، وترجمة المدوّنة الرّوائية الجزائرية إلى اللغة الفرنسية.

أدرك مارسيل بوا بحسّه العميق ورغبته في التقاط اللحظة الجزائرية الخارجة من احتلال دام 132 سنة أن ظهور أوّل رواية جزائرية باللغة العربية عام 1971 مؤشر على أن الفضاء الجزائر بدأ يسترجع ملامحه الحضارية من خلال الكتابة بإحدى لغتيه الأصليتين، العربية والأمازيغية، فشرع في ترجمة ما يكتب عبد الحميد بن هدوقة، إلى جانب ما يكتب الطّاهر وطّار، الذي كان يتعامل مع الكتابة باللغة العربية بصفتها قضية شرف ثقافي.

ونأى مارسيل بوا، مترجم روايات "غدًا يوم جديد" لعبد الحميد بن هدوقة، و"اللاز" للطاهر وطّار، و"سيّدة المقام" لوسيني الأعرج، و"بوح الرّجل القادم من الظّلام" لإبراهيم سعدي، بنفسه عن الصّراعات اللغوية والفكرية، التي ميّزت المشهد الأدبي الجزائري على مدار 47 عامًا عاشها في الجزائر، فجمع مارسيل بوا بين الرّهبنة في التّرجمة والرّهبنة في الدّين، إذ يُعدّ من أبرز آباء الكنيسة الكاثوليكية في الجزائر.

كان مارسبل بوا يُفضّل أن تحضر ترجماته في المحافل المختلفة بدلًا عنه. فهو لا يظهر إلا نادرًا، وإذا حدث أن فعل ذلك، ففي هدوء وأخلاق عاليين

كان مارسيل بوا يُفضّل أن تحضر ترجماته في المحافل المختلفة بدلًا عنه. فهو لا يظهر إلا نادرًا، وإذا حدث أن فعل ذلك، ففي هدوء وأخلاق عاليين. يسمع أكثر ممّا يتكلّم، ويجمع عوض أن يُفرق، ويخدم غيره أكثر ممّا يخدم نفسه، ويُشيد بأناقة اللغة العربية ورونقها وبأبعادها الحضارية والإنسانية، في الوقت الذي كان فيه بعض المنتمين إليها يقلّلون من قدرتها على البهاء والعطاء.

اقرأ/ي أيضًا: اختلاق الصحراء في رواية "الأميرة المورسكية" لمحمد ديب

من هنا، يرى صديق الفقيد الرّوائي محمد ساري أنّ رحيل مارسيل بوا هو خسارة لخيار الإبداع عوضًا عن الصّراع والحوار عوضًا عن التنابز بالشكليات، "وعلى أنصار الصّداقة الثقافية بين المشهدين الفرنسي والجزائري أن يجعلوا من مسيرته ورصيده قاعدة نموذجية يبنون عليها مستقبل العلاقة بين البلدين".

 

اقرأ/ي أيضًا:

مكتبة لونيس بن علي

رواية "1994".. حرب لم تضع أوزارها