16-سبتمبر-2016

غوستانتين غايز/ هولندا

"إن الوضع سيئ جدًا، وأنا أشعر به.. أشعرُ بكل تلك القذارة.. أشعرُ بالغثيان، وهو شيءٌ جديد هذه المرة؛ لقد أصابَني وأنا في مقهى… لستُ أنا ذاك الشيء، لستُ أنا الغثيان، إنّما أحسّهُ على الجدار، على الرافعتين هناك، حولي في كل مكان، وليسَ هو والمقهى إلا شيٌء واحد.. لا أشعرُ بهما داخِلِي أبدًا، إنما أنا مُحاطٌ بذلك كله".

لا يتوقف الأمر في نعتنا أحدًا بالعاهر لممارسته الجنس بمقابل مادّي فقط، وإنما يشمل ذلك ممارسته عبرَ العقل أيضًا

يتابع "أنطوان روكنتان" حديثهُ المطوّل عن غثيانه الذي أصابهُ حسبما أسلَفَ في مقهى (الغثيان 1938 - جان بول سارتر)،  ويصفُ استفحالَ الأمر به حدَّ إصابتهِ في مقتل؛ ليعارضَ مقولة "سقراط" الشهيرة: "أنا أفكّر إذًا أنا موجود" (To do is to Be) إذ يقول: "إنني كائن؛ كائنٌ موجودٌ أفكر.. إذًا فأنا موجود؛ إنني كائن لأنني أفكر، لكن لماذا تراني أفكر؟. إنني كائنٌ لأنني أفكر بأنني لا أريد أن أكون!"، حيث أراد من خلال ذاك التساؤل، أن يقول بعبارة مبسّطة لسقراط: إنك تدّعي أنني حالما أفكّر فسأكون موجودًا، وأنا أفكر بطبيعة الحال.. حسنًا.. لكن لماذا وبماذا تريدني أن أفكّر يا سقراط؟.. إنني أفكّر الآن في ألا أكون بالتفكير إطلاقًا.. وإنما أن أفعل أيضًا. (To be is to Do).

اقرأ/ي أيضًا: يارو ماموت يتحرر من العبودية

لم يكن "روكنتان" أيها السادة، يكتب يومياته لأجل الكتابة، إذ إنه غير آبه بذلك، ولا حتى بأي شيء آخر في هذا العالم؛ لكنه كان يفعل ذلك بحثًا عن شفائه، وتخلُّصًا من غثيانه وإعيائه؛ يقول: "سأنام. لقد شُفيت، وإنّي قد عَدلْتُ عن كتابة انطباعاتي يومًا بعد يوم، على غِرار ما تفعل الفتيات الصغيرات في دفترِ جُملٍ جديد"؛ إذن.. روكنتان مصاب بالغثيان مما حوله، من الجالسين في المقهى، والعابرين من أمامه، وفستان السيدة المُسرعة لغرض ما، والعرَق على جبين عامل النظافة، واستيقاظهم في الصباح، وعودتهم إلى المنازل من أعمالهم في المساء؛ وهو يكتب كل ذلك ويدوّنه، في الوقت الذي (يفكّر فيه) ويعارض مقولة فيلسوف، في أنه يتوجّب عليه أن (يفعل) لا أن يفكر فقط.  

لكن السؤال الذي يطرح نفسهُ الآن، ماهو الفعل الذي يستوجب على أنطوان القيامُ به كي يكون؟، من هنا أيها السادةُ تبدأ الإجابة على سؤالنا.. ماذا لو لم يكن ثمة عاهرات؟!. ومِن العنوان نبدأ، وعند العنوان نقف.

الـ"عاهر" جمعُها عاهرون وعُهَّار، والمؤنث منها عاهرٌ وعاهرة، وجمعها عاهِرات وعواهر؛ ويُكنّى بالعاهر من فسَدَ وأضحى بلا أخلاقيات، والأخلاقيات هي بذرة المبدأ، وهي من تَجعل من المبدأ ماهو عليه؛ فمثلًا لا يمكن أن يكون لفلان من الناس "مبدأ" في أنه لا يقبل دعوةً إلى فنجان قهوة من أحد. وهذا أمر تجب معرفته.. المبدأ أمر قائم ومرتبط بالأخلاقيات، والأخلاقيات هي من تجعل من شخص ما "عاهر" أو "شريف".

نتابع.. يتعدّى مفهوم العاهر إلى ما هو أدق من الفساد المادي الأخلاقي، إذ لا يتوقف الأمر في نعتنا أحدًا بالعاهر لممارسته الجنس بمقابل مادّي فقط، وإنما يشمل ذلك ممارسته عبرَ العقل أيضًا، في أن يشتري المرءُ (الفكرة) ببيعِ جسده مثلًا؛ تخيّلوا أن المجتمع السوري الذي أعيش فيه، لقّنني فكرة ما، توارثها عن أجداده منذ مئات السنين! واقتنعتُ من جانبي أنها طريقي إلى أن أكون موجودًا!! ("أنا أفكر، إذن أنا موجود").. نسأل: ماذا لو أُتخِمَ هذا العالم بالفكرة؟ (البالية).. نعم أيها السادة، سيتحوّل حينئذٍ بكلّيتهِ إلى موجود، لكن أيَّ وجودٍ نقصد؟.. وجود أجداده؟ استنساخًا لأفكارهم؟ أن نكون مثلما أرادونا أن نكون وفق نظامهم البائد؟.. إننا في منتصف الطريق يا روكنتان.

جاءت في فيلم "الأم والعاهرة" عبارة تقول: "من يقبل النقود من الآخرين، يستطيع إعطاءك كل شيء، حتى لو كان السروال"

 

إذن.. العاهرة ليست هي من تمارس الجنس شيوعًا، وليس ثمة عاهرات ضمن هذا المفهوم، وإنما أعضاء جسديّة بشريّة قادرة بحال من الأحوال على إيصالك لذروة النشوة الجنسية؛ نكرر.. ليس ثمة عاهرات ضمن إطار الممارسة الجنسية، وإنما أناس يُدعَون ببساطة إلى شرب فنجان القهوة في مكان خاص، ويتصلون فيه جنسيًا، وهذا لا يمت للعهر بِصِلة، لأن الموضوع غير قائم على البيع والشراء؛ وإنما هو صيغة إيجاب وقبول فقط: ما رأيك في أن نمارس الجنس، ونكون -بما لا شك فيه- مسؤولين عن تَبِعات ذلك من إنجاب وغيره؟ ببساطة.. وهذا ليس فسادًا أخلاقيًا، بدليل أن الاتصال الجسدي بالمصافحة ليس فسادًا أخلاقيًا؛ والتعامل معه على أساس الفساد الأخلاقي، هو تقليل من قيمة الإنسان، ووضعهِ في مراتب "الفاكهة" التي تؤكل.. يستهلكها المرء لمرة واحدة فقط.

اقرأ/ي أيضًا: كارمن لافوريت: سأبقى وحيدة!

جاء في فيلم "الأم والعاهرة" (La maman et la putain 1973) للمخرج الفرنسي "Jean Eustache" عبارة كنت قد دوّنتها في مكان ما تقول: "من يقبل النقود من الآخرين، يستطيع إعطاءك كل شيء، حتى لو كان السروال، وفي تلك الحال تضعُ الحرب لنفسها قوانينها البغيضة، وتصبحُ النجاة في إطار ذاك المفهوم، هي أن تكون أشد منهم قذارة، فتطعنهم من الخلف". في هذه الجملة التي سبقت توضيح لأمرين؛ الأول: أنَّ العاهرة هي من تقبل النقود لأجل الإمتاع بما تملكهُ في أعضاء جسدية، أو هي من يتاجر بأعضائه، وبعقله قبل كل ذلك، بأن تمتّع الآخرين بما يريدونه، مقابل الحصول على المال… والأمر الثاني هو أن انتشار مفهوم العاهرة في هذا الإطار الذي نطرحهُ هنا، يحتّم على البشر جميعًا أن يتعاملوا مع بعضهم بالطريقة المشابهة، وأن يطعنوا بعضهم الآخر من الخلف بُغية الاستمرار؛ وهذا هو الفرق بين أم الطفل التي مارست الجنس لأجل الحب، وأم الفن التشكيلي التي رسمت لأجل الحب، وبين الكاتبة التي قالت لأجل الحب، وبين المطربة التي غنّت لأجل الحب، وبين العاهرة التي أرادت كل ذلك مقابل المال فقط. 

غثيانُ السيد "روكنتان" أيها السادة ناتج (ببساطة) عن عدم قدرته على الطعن من الخلف، أو في استساغة القوانين التي فرضها الصراع البشري منذ آلاف السنين.. أُصيب روكنتان بالغثيان لأنهم أرادوه موجودًا بلا أي معنى؛ موجودًا كنسخة عن آباءه وأجداده فقط، موجودًا كجزء من نظامهم في المعيشة، موجودًا خاليًا من أدنى درجات المسؤولية والأخلاق تجاه الآخر، موجودًا لم يشعر بالقلق تجاه حرّيته ولا الطريقة التي يتوجب عليه انتهاجها في تعامله مع الآخرين، "الآخرون هم الجحيم".. أصابه الغثيان لأنهم أرادوه مؤمنًا بالفكرة ومسلّم بها، أيَّ فكرة كانت.. الخلاص، أو ربما السعادة حسبما يسمّونها. كلاهما يصب في مصلحة الآخر على أية حال. 

لكن ما هو (أعمق) من ذلك، وأعتى بآلاف المرات، هو أن "روكنتان" أقرَّ ضمنيًا بأنه ما كان له أن يُصاب بالغثيان ويبحث عن ملامح وجهه وسط كل ذاك القرف، لو لم يكونوا على تلك الحال المزرية، كما هي الحال مع مفهوم "البرودة" التي جاءت تسميتها كـ غياب للحرارة… تخيّلوا لو كان هذا الشاب في جزيرة بمفرده، كيف يمكن أن ينعت نفسه بالـ حر، أو الـ عبد، أو الـ صالح، أو الـ طالح؟ .. كيف يمكن أن يميّز بين كونه مثقفًا أو جاهلًا دون اختلاطه بالآخرين/ الجحيم.

شكرًا لكل المؤمنين بأن الغايات تبرر الوسائل… لولاكم ما كنت لأميّز أنني شريف إلى هذا الحد

اقرأ/ي أيضًا: من يكتب عن كتّابنا المزيفين؟

واسمحوا ليَ الآن أن أعتذر إليكم جميعًا، إذ أنني مضطر على القول بأن امتداح الأعمال الأخلاقية والخيّرة في هذا العالم، ماهو إلا تمجيد غير مباشر للشر؛ تخيّلوا أنني شكرت فلانًا ورفعتُ لهُ قبّعتي لأنه أعاد لي المال الذي اقترضهُ أول أمس، قلتُ له: شكرًا لأنك رجل شريف؛ ألا يعني ذلك أنني أشكر الشر لأنه موجود، ولأن الشخص الذي اقترض منّي المال وأعاده قد خالف هذا الشر؟ وأن الخير لم يكن ليوجد لولا هذا الشر أيضًا؟؟؟ نعم .. إن هذا قاسٍ جدًا، لكنني مضطر لإخباركم بذلك.

إن الإجابة على سؤالنا "ماذا لو لم يكن ثمة عاهرات" أيها السادة، هي أنني لولاهن ماكنتُ قادرًا على أن (أكون) موجودًا، شكرًا للعاهرات، شكرًا لكل هذا الشر، شكرًا لكل سُبل التفاهة والانحطاط الفكري والأخلاقي؛ شكرًا لكل المؤمنين بأن الغايات تبرر الوسائل… لولاكم ما كنت لأميّز أنني شريف إلى هذا الحد.

في نهاية المطاف، لا سبيل لإنقاذ هذا العالم إلا بالحيوانات (كي أميّز أنني إنسان)، وبالأطفال (كي أميّز أنني مُدرك)، والمجانين (كي أميّز أنني عاقل)، وصغار الكسَبة (كي أميّز أنني مؤمن بكل ما أقوم به)، والعاهرات (حتى أميّز أنني شريف)، ومن خلفِهِنَّ الجنود (الذين ما انفكّوا يقتلون وينشرون قذارة قاداتهم في كل مكان)؛ أما الآن.. فلنتابع طريقنا إلى (الجحيم). 

اقرأ/ي أيضًا:

تاريخ كلمة Close وأصلها السرياني والعربي

هل استطاع مارتن لوثر كينج تحقيق حلم حياته؟