23-مارس-2021

اللوحة لـ رولا الحسين

فتحت عينيها. بحاجبين معقودين وبنظرة استغراب تعلو وجهها التفتت إلى يمينها ثم إلى يسارها تبحث عمّا قد يكون سبب استيقاظها.

المنبِّه قربها لم يرنّ بعد. أحد لم يطرق على الباب، لا طرقًا خفيفًا ولا عنيفًا. هي لا تستيقظ عادة في هذا الوقت. لا تستيقظ قبل أن يرنَّ المنبِّه. وخلال أيَّام الأسبوع يرن المنبه في تمام السّاعة التّاسعة، وعندما يرنّ لا تنهض مباشرة من السَّرير، إنّما تفتح عينيها وتنتظر الوقت الذي يناسبها لتقذف بجسدها وقوفًا على بلاط أرض الغرفة. وفي أيام نهاية الأسبوع لا تحتاج للمنبِّه لأنَّها تفضِّل أن لا تلتزم بموعد استيقاظ، وغالبًا ما تستيقظ قبيل الظهر. واليوم أربعاء. ولم يرن المنبه بعد!

ليس ضوء الصباح ما أيقظها لأنها أصلًا أسدلت الستائر السميكة العازلة للضوء قبل أن تنام الليلة السابقة، وهي معتادة على بقايا الأصوات التي تتسرب من النافذة المغلقة إلى غرفتها، فلا تكون سببا مباشرًا للاستيقاظ. والمنبه لم يرنّ.

عندما تستيقظ سواءً خلال أيّام الأسبوع أو أيّام نهايته، تكون ضجة حياة بيروت وتحديدًا الشوارع الداخلية لمنطقة عين المريسة المفتوحة على البحر وكورنيشه قد استيقظوا قبلها، وتسربت من الأحياء الداخلية التي تطل عليها غرفة نومها إلى مسامعها أصوات جرارات محلات الجزارين وأصوات الأبقار المرتعبة وأصوات صرير الجنازير التي ستلتف حول أعناقها وترفعها عن الأرض قبل أن تُنحر، أصوات منبِّهات الأمهات وتثاؤب أولادهن وهدير باصات المدارس، زمامير السَّيارات وأصوات محركاتها، أصوات اصطدام عبوات الغاز في المتجر المقابل للمبنى الذي تقطن به، أصوات باعة الفاكهة والخضار، أصوات المارَّة، صوت بائع الفول عند زاوية الشارع، أصوات المشاة بخطوات بطيئة، أصوات المشاة بخطوات سريعة وأصوات بائعي الصحف.

نظرت مجددًا إلى الساعة وهي تحاول أن تفهم سبب هذا الاستيقاظ. الأصوات المعتادة موجودة. ولكن وكأن طبقة أصوات أخرى جديدة تطغى عليها. لم تتمكن من تحديد طبيعتها.

وكان عادة صوت واحد يرافق هذه الأصوات ، ويستمر وحده بعد غياب كل الأصوات الأخرى، هو صوت هدير أمواج البحر وتكسّرها على سور الكورنيش الذي يفصله عن شقّتها طريق بخطين لذهاب وإياه السيارات ويصلها عادة من كل النوافذ وتحديدًا باب شرفة الصالون المطلة عليه. انتبهت أن هذا الصوت ليس ضمن الأصوات المعتادة. صوت اختفى، وطبقة صوت جديدة أضيفت!

ضجة الحياة التي تسربت اليوم من نافذتها إلى أذنيها، ليست هي من أيقظها. إنما اختلاف هذه الضجة عن باقي الأيام. ما أضيف وما حذف عليها.

كان لا يزال لديها نصف ساعة لتحين ساعة استيقاظها المعتادة. وبما أن منبِّهها لم يرنّ بعد، لم تنهض. أغمضت عينيها مجدّدًا لكن لم تنم. وظلَّت تحاول أن تنام ما تبقى من الوقت وعندما عجزت، نهضت وتوجهت إلى الحمام بكسل الصباح المعتاد.

وبخطوات أوتوماتيكية جلست وتبوَّلت، غسَّلت، غسلت يديها، نظَّفت أسنانها وغسلت وجهها بغسولها الصَّباحي ثم نظرت إلى المرآة ووضعت على وجهها كريم الحماية من الشَّمس ثم المرطِّب اليومي، نزعت شعرة زائدة من بين حاجبيها بملقط الشعر الموجود قرب المغسلة ورجعت إلى غرفتها، فتحت الستائر والنافذة وأيقنت ما خمنته سابقًا: رائحة ما أضيفت وأخرى حذفت. ثم تنبهت أن طبيعة الضوء مختلفة. الضوء موجود ولكن ليس كعادته.

وهي تحاول أن تفهم أكثر  هذه التغيرات وتحصيها كانت تستشعر وجود تغيير آخر لكن لم تتمكن من التقاطه. راداراتها كانت تحتاج مزيدًا من الصحو، وفي هذه الأثناء خلعت عنها ملابسها بالكامل ولبست ملابس داخلية بيضاء وجينز وبلوزة بيضاء بلا أكمام وجوارب زرقاء وحذاء رياضي أبيض مع خطين أزرقين على كل فردة، ورشَّت رشَّتين من عطر Si على عنقها، حملت حقيبتها الزرقاء التي حملتها بالأمس والتي تحتوي على دفترها وأقلامها وكتابها ومحفظتها ونظارتها الشمسية وشاحن وسماعات موبايلها. ألقت نظرة أخيرة على المرآة الطويلة قرب سريرها، واتّجهت إلى الباب الخارجي فتحته وخرجت. سمعت صوت المنبه يرنّ وهي تقفل الباب خلفها. هبطت الدرج.

هبوط درج الطوابق الأربعة الذي تعتمده كل صباح بدل استخدام المصعد كرياضة وحيدة تمارسها، كان مثيرًا للغرابة ذاك الصّباح. ولا علاقة لتلك الغرابة بأفكارها اليوميَّة المختلفة التي كانت ترافقها كل صباح عند هبوطه وصعوده أو عند أي ساعة من ساعات احتلالها للمقاهي، إنّما الضّوء الذي كان يفترض أن يبدأ بالتّسرب إلى عينها من فتحات جدران المبنى المطلة على البحر والموازية للدَّرج خلال هبوطها درجاته لم يكن قد بدأ بالتَّسرب بعد، بالرغم من عدم وجود نوافذ ولا ستائر سمكية عازلة للضوء تغطيه. نظرت إلى ساعة يدها لتتأكد من الوقت ظنًّا منها أنها لربّما أخطأت قراءته عندما نهضت. تأكدت أنّها لم تخطئ.

هبطت عشرين درجة من أصل ثمانين، والضوء لم يكن قد تسرّب بعد. إنّما بدل الضوء سمعت أصوت مواء قطط. ليس قطة ولا اثنيتن ولا خمسة، بل كأن قبيلة قطط كانت تموء كلّها معًا. كلّما هبطت المزيد من الدرجات واقتربت من الطَّابق الأرضي تزايدت قوة الصَّوت وتزايد معه استغرابها. ثم بدأت تشمُّ رائحة سمك كثيفة. ظنَّت بادئ الأمر أنَّه ربما أحد الجيران قرر أن يقلي السّمك في هذا الوقت الباكر ثم انتبهت أن الرائحة ليس رائحة سمك مقلي فقط، إنَّما مزيج من روائح سّمك مقلي ومشوي ويطغى عليه رائحة سمك نيئ. رائحة زنخة. وعادةً لا تصلها هذه الرّائحة من المطاعم التي تفتخر بتقديم السّمك من البحر المطلّة عليه والمنتشرة بكثرة على الكورنيش مقابل أو قرب ملهى الهارد روك الشّهير.

لا يمكن أن يزداد هذا الصباح غرابة قالت في رأسها وبدأت تُسرع خطوات هبوطها نحو الطابق الأرضي وصولًا لبوابة البناية حيث الرائحة أصبحت أقوى، وصوت مواء القطط أصبح أعلى، والضوء لا يزال متأخر.

وصلت إلى المدخل. لم تر البحر بعد لأن مدخل البناية خلفي ولا يقابل البحر، إنّما يطلّ على إحدى الشوارع الموازية لشارع بْلِيسْ المكتظ بالمكتبات والمطاعم والأفران والسناكات الصغيرة التي تزداد كل يوم وتزداد معها أنواع ووصفات الأطعمة السريعة، لتلبي شهيّة طلّاب الجامعة الأمريكية التي تقع بمقابل شارع بْلِيسْ وتحتل مساحة كبيرة تصل واجهتها على الخط الذي تقع عليه البناية التي تسكن فيها. وصولها حيث تقف أيضًا أصوات طلاب الجامعة وطلاب مدرسة الـ IC القريبة حتى أنّ أصوات أبعد كانت تصلها من شارع الحمرا الموازي لشارع بْلِيسْ والذي يغصّ في أيّ ساعة من ساعات النهار والّليل بأصوات المتسوِّلين، وأصوات مئات أقداح القهوة والكابوتشينو وملاعق الستانليس تحرِّك السُّكر الغارق في أكواب الشاي على مقاهي الأرصفة وأصوات بائعي اليانصيب. ولكنَّها استغربت أنّها لم تشمّ ولم تسمع رائحة وصوت البحر بعد. إنّما فقط صوت مواء قطط ورائحة زنخة. وقفت مكانها وركّزت على مصدر الرَّائحة الزّنخة والمواء، واستطاعت أن تحدِّد أنهما قادمين من جهة البحر. مدَّت يدها إلى حقيبتها لتبحث عن نظاراتها الشَّمسية ثم انتبهت أن ضوء النّهار حيث تقف وحيث ستتّجه لا يزال خافتًا عكس الضوء القادم من الجهة الأخرى فوق منطقة الحمرا، الذي على الرُّغم من أنّه أقوى إلا أنّه ليس بقوة وسطوع الصّباحات العاديّة. اتّجهت مع ذهولها إلى اليسار. ومرَّت أمام المداخل الخلفيّة للمباني الأربعة التي تسبق المنعطف الذي ستسلكه. بدأ الضوء يخفت أكثر عند المنعطف حيث بائع الفول وقف ينادي وحوله تجمهر أكثر من جائع بانتظار صحنه دون أي مبالاة بالعتمة والرائحة وغياب صوت البحر. انعطفت يسارًا وبدأت تخطو خطواتها التي ستوصلها إلى الكورنيش. ومع كل خطوة كان صوت مواء القطط يصبح أكثف، ورائحة السمك تصبح أزنخ. وبعد بضع خطواتٍ وقفت والتفتت خلفها بعيدًا فوق الأبنية، لتتأكد أنّ الضَّوء أقوى ممَّا هو أمامها. وكلَّما أبعدت النَّظر في السَّماء خلفها يصبح الضَّوء أقوى، ثم التفتت مجدّدًا أمامها وأكملت المشي صوب البحر حتى أصبحت كتلة السَّماء فوقه أشدَّ عتمة. مع كل خطوة إلى الأمام كانت تلتفت إلى الخلف لتقارن الضوء فيزداد شعورها بالغرابة. الضوء خلفها لا يتقدّم، والعتمة أمامها ثابتة مكانها. أسرعت وتيرة مشيتها علَّها تجد جوابًا يخفِّف من الغرابة التي تشعر بها .

اقتربت أكثر من صوت مواء القطط الذي أصبح أعلى. وبدأ يصلها صوت باعة ينادون على شيء ما لم تفهم ما هو. صوت الباعة هذا يشبه الصوت الذي يتسرب عادة من نافذتها عندما تكون مفتوحة، لكنه مضاعف مئات المرات، ومتداخل مع صوت مواء القطط. رائحة زنخة السمك أصبحت أقرف عندما أصبحت أقرب من البحر مما سبَّب لها غثيان. توقفت جانبًا وأخذت نفسًا عميقًا لتتجنب التَّقيؤ، وسندت ذراعها على جدار صالون الحلاقة أسفل المبنى. ضاعف النفس العميق الرائحة الزنخة في أنفها ورئتيها، لكنها لم تتقيأ. رآها أحد زبائن الصالون أثناء خروجه منه وسألها إن كانت بخير، أجابته ونظرة امتعاض تغمر وجهها: هذه الرائحة مقرفة، ماذا سنفعل؟ هل عرفتم السبب؟

أجابها وهو يهم متابعًا سيره دون أن يهتمَّ فعلًا بحل مشكلتها التي لم يفهمها أصلًا: سبب ماذا؟

"سبب الرَّائحة" أجابته بينما أكمل سيره بعكس اتجاه وقفتها، فسمع ما قالت فيما أصبح خلفها وأدار وجهه نحوها وهو يمشي ونظرة استغراب بادية على وجهه، وقلب شفته السفلى ورفع كتفيه بما يعني أنّه لا يعرف عما تتحدّث. وأدار وجهه مجدّدًا وأكمل سيره وأكملت هي استغرابها الذي أصبح مضاعفًا.

تمثال جمال عبدالناصر بدا من بعيد على يمينها كالعادة منتصبًا، فكّرت أن هذه الرّائحة من شأنها أن تجعله يقتلع جسمه الصّلب من مكانه ويركض إلى الخلف هربًا. لكنّه كالجميع لم يفعل. أصبحت على بعد خطوات قليلة من البحر ولم تتمكن بعد من رؤيته أو شم رائحته. وغرابة العتمة فوقه أصبحت حقيقة جدًا بالنسبة لها، فلا يمكن أن تكون قريبة هذا القرب من حلم. لم يبق سوى أن تقطع الشارع العريض أمامها لتصبح أمام البحر، ولاتزال لا تشم رائحته! مشت بحذر متجنبة أن تصدمها أي من السيارات، فمن شأن غرابة الأصوات أن تُربك السّائقين، لكنّهم لم يرتبكوا. ازدادت ريبتها مع كل خطوة، حتى وصلت حيث الدرابزين الذي يفصل الكورنيش عن البحر، ولا رائحة له بعد ولا صوت.

في هذه اللحظة شعرت أنّها تقف أمام بوابة حلمٍ. الواقع خلفها بضوئه، والحلم أمامها بعتمته ورائحته وأصواته. فجأة أصبح قربها وأمامها مئات البشر لكنّهم لا يمارسون الرّياضة كما كانوا يفعلون في الصّباحات السّابقة، إنّما يتقدمون مثلها باتجه الدرابزين لكن دون دهشتها ودون ضوء الصّباح وصياديه القليلين. بشر يتدافعون ويمشون بسرعات مختلفة للوصول إلى الدرابزين الحديدي الذي أصبح أمامها مباشرة. الدرابزين لا زال كما كان يمتد على مسافة طويلة جدًا لا يمكنها رؤية أين ينتهي، وإذا كان لا يزال يمتدّ كما العادة فهو يصل يسارًا حتى كورنيش المنارة ومنطقة الرّوشة وأبعد، وصولًا إلى منطقة الرّملة البيضاء، ومن يمينها حتى السان جورج والزيتونة باي ويتخطّاهم. ولكن في ذلك الصّباح، كان يقف خلف الدرابزين آلاف الباعة بعرباتهم ويشكلون خطًّا موازيًا للدرابزين، يبيعون سمكًا نيًّا ومشويًا وينادون بأعلى أصواتهم وهم يشوون ويقلون السَّمك أمامهم وفي سقف عرباتهم ضوء قناديل كهربائية معلقة لأنّ ضوء أعمدة الكهرباء المزروعة على الكورنيش لم يكن كافيًا، ثم كانت قطط تقفز من كل صوبٍ وتحمل في فمها سمك ترميه أمام الباعة على عرباتهم ثم تعود وتختفي خلفها. والباعة يقسمون السمك النيئ يقلون بعضه ويشوون بعضه، ثم يضعونه في سندويتشات ويسلمونها لأكوام الزبائن المكتظة أمام عرباتهم. ذهول ما رأته لم يمنعها من الضحك. بل هو كان سبب ضحكها. وضعت يدها على فمها لتخنق هذه الضحكة التي تمنعها من فهم ما يحصل. لا أحد غيرها مذهول، لا أحد غيرها يضحك.

اقتربت مع ابتسامتها المدهوشة وضحكتها المكتومة واخترقت أكوام الناس ثم الباعة حتى أصبحت مباشرة أمام فراغ ضئيل يفصل بين عربتين. كانت تريد أن تعرف من أين تأتي ثم تذهب كل تلك القطط. البحر الذي لم تره بعد بسبب حاجز الباعة وأكوام الناس والعتمة يفترض أنه خلف العربات، وما تعرفه عن القطط أنها تجيد السباحة ولا تحب الماء. ضوء العربات وأعمدة الكهرباء لم تكن كافية لترى ماذا يوجد بعيدًا خلف العربات أو بالأحرى لم يكن كافيًا لتصدق أن ما تراه حقيقي وليس سراب.

آلاف القطط بل ربما مئات آلاف القطط تحتل ما كان البارحة بحرًا. واليوم امتصت مياهه بورة تربتها حمراء، فتحول المكان ليصبح حلبة دائرية بوسع البحر، تملؤها قطط لم ترى مسبقًا بنشاطها وحيويتها وتتجه كلها نحو الباعة وفي فم كل منها سمكة تضعها أمام الباعة ثم تعود لتأتي بغيرها من... فوق.

لم يكن بإمكانها أن تصدق ما تراه وهي ترفع نظرها إلى فوق. حتى وهي على بعد خطوة منه. حتى أحلامها كانت واقعية أكثر مما كانت تراه أمامها: احتلت مكان السماء رقعة دائرية كبيرة مطابقة لمساحة الحلبة الدائرية الحمراء أمامها. السمك عالق في هذه الرقعة. السمك يسبح في رقعة السماء هذه ويخفي زرقتها التي أصبحت بعتمة لون السمك الرصاصي. الهواء وحده يفصل بين رقعة السمك الدائرية أعلاه والحلبة أدناه. والقطط تتسلق بقايا صخور، ثم تصعد على أكتاف بعضها البعض ليصلوا إلى السمك ويلتقطوا ما يقع بين مخالبهم ويرموه للقطط المنتظرة تحت فتحملها بدورها للباعة وتعود لتكرر فعلتها. تتوقف القطط أحيانًا لتلتهم سمكة ثم تعود للعمل ذهابًا وإيابًا. طاقة خليّة نحل بأجسام قطط.

الحياة حول حلبة الكورنيش كانت صاخبة بصوت الباعة والزبائن ومواء القطط. والبحر الذي كان يومًا ما هناك برائحته ولونه ومائه وصخب أمواجه لم يكن هناك في ذلك اليوم. البحر الذي كان حتى اليوم السابق لم يعد هناك. ولا يبدو أنَّ أحدًا يلحظ هذا الأمر، كأنَّه تفصيلًا، كأنّه لم يكن أبدًا.

لم تعد تسمع الصَّخب حولها. الصَّخب في رأسها أطفأ الصَّخب خارجه. ورائحة زنخة السمك تجمدت في أنفها. أغمضت عينيها وهي لا تزال متجمدة مكانها وسط تدافع المارة على عربات السمك، بدأت تتنفس بعمق لتلتقط أي خيط يعيدها إلى صوابها ويخرجها من بوابة الحلم الذي تقف على عتبته.

فتحت عينيها على هذا الأمل، لكنّه خاب. على مقربة منها وقفت امرأة تُخرج من حقيبتها ثمن السَّمك الذي طلبته، فأمسكتها بذراعها، نظرت إليها المرأة مستغربة من تصرفها فبادرت إلى الاعتذار بسرعة:

"عفوًا عفوًا، لم أقصد أن أمسك بك هكذا، أردت فقط أن أسألك قبل أن تغادري، ما الذي يحصل هنا؟"

أجابتها بعد أن اختفت نظرتها المؤاخذة: "نشتري السمك"

"ولكن، أين البحر؟ ومتى حصل هذا؟"

"البحر! ماذا تقصدين؟ عن أي أمر تتحدثين؟ عفوًا أنا مستعجلة ولا أفهم ماذا تقولين". قالت المرأة كلماتها هذه وهي تدفع للبائع وتستلم منه سمكاتها ثم غادرت قبل أن تستمع إلى ردِّها.

لحقتها بنظراتها المدهوشة لكن المرأة لم تلتفت إليها. وقع نظرها على نظر شاب فتمسكت بهذه النظرة لتسأله: "ماذا حصل للبحر؟ ما قصة الأسماك فوق؟".

فأجابها بابتسامة مشاكسة: "ما بها الأسماك؟ كثيرة اليوم ها؟ يومك سعيد يا جميلة" وأكمل طريقه.

بقيت واقفة كالتَّائهة وسط مئات من البشر والقطط الذين يعرفون تمامًا أين هم وماذا يفعلون. لم يأبه أحد بذهولها، وورطة غياب بحرها.

اصطدم كتف أحدهم بكتفها، ولاحظ نظرتها التّائهة غير الآبهة بألم الاصطدام فسألها إن كانت بخير، وطلب منها أن تبتعد عن الزحمة قليلًا وتجلس على المقعد كي ترتاح. قالت له إنّها بخير، لكنها لا تفهم ما الذي يحصل، وأين اختفى البحر. فردَّ عليها أنها تبدو مرهقة وربما هذا هو سبب اختلاط الأمور عليها. لم تجبه بأي كلمة بل انصاعت لما قاله له وهو يساعدها على الجلوس على المقعد قبل أن يعود إلى المكان الذي خسره أمام أحد الباعة.

بدأت رائحة السمك المشوي والمقلي الشهي تحتل مكان الرائحة الزنخة. وانتبهت أنها لم تتناول فطورها بعد، ولا حتى قهوتها. نظرت سارحة باتجاه الباعة ورأت أحدهم يحصل على سمكته في ورقة تشبه ورق الصحف لكن لونها أبيض. منظره عندما بدأ بالتهامها وهو يمشي فتح شهيَّتها.

فكّرت أنها ربّما هي تقف على بوابة الاستيقاظ وليس على بوابة الحلم، وربما البحر كان الحلم وليس الأرض البور الحمراء. ثم فكّرت أن فكرة وجود كمية مياه كبيرة كتلك الموجودة في البحر الذي خسرته غير منطقية أصلًا. ربما نومها العميق نتيجة تعبها في اليوم السابق وإقفالها للستائر لتعتيم الغرفة قد أدخلاها بحلم طويل حقيقي جدًا. أو ربّما تسلَّلت من حلمها ودخلت في ثغرة ما إلى أحد تلك العوالم الموازية حيث لا يوجد بحر والسمك يسبح في السماء.

رائحة السّمك المشوي والمقلي كانت تزال تسيطر على أنفها وطعمه المالح أصبح في فمها. وقفت ومشت خطوات قليلة باتجاه إحدى العربات أمامها. انتظرت دورها ثم طلبت سمكة مشوية برغيف باغيت. كانت السّمكة كالكثير غيرها جاهز، رفع البائع سّمكة مشوية عن الموقد أمامه وضعها داخل رغيف كان فتحه سابقًا ثمّ وضع الرغيف على ورقة بيضاء وأعطاها إياه. دفعت ثمن سمكتها ثمّ أضافت عليها رشّة ملح وعصرة ليمون. فكرت أن تأكلها وهي تمشي، ثم قررت أن تعود لتجلس حيث كانت على المقعد. جلست، وضعت حقيبتها قربها، أمسكت الباغيت بطريقة متقنة كي لا يقع أي من قطع السمك على الأرض أو على ملابسها. قضمت أول قضمة وهي تنظر إلى الباغيت، ثم نظرت أمامها وهي تعلك ما قضمت. قالت في سرها أنه لأمر جميل وساحر لو كان هناك فعلًا حقل واسع وأزرق فيه ماء واسمه بحر.

وفكرت أنها ستفتح الليلة الستائر لعلّها تتسلل مجدّدًا إلى عالمها الموازي السابق. قضمت قضمة أخرى بشهيّة أكبر من القضمة الأولى بعد أن تذوّقت طعمها الرّائع، وتسلّلت بعض المرارة إليها وهي تفكّر باحتمال فشل محاولاتها في التّسلّل، ثمّ هزّت كتفيها وحاجبيها واستدركت أنّها لن تكون تلك مشكلة فعلًا، لأن منظر الأسماك معلّقًا في الأعلى جميلٌ جدًّا أيضًا.

 

اقرأ/ي أيضًا:

الأزعر والبردان والساهي وأنت وأنا

أعترفُ بأنّني كنت خطًأ