04-أكتوبر-2017

انفصال كتالونيا سيمثل خسارة اقتصادية للجميع (بيار فيليب ماركو/ Getty)

دوّى اسم إقليم كتالونيا عبر وسائل الإعلام العربية والغربية، حيث لا مكان في أوروبا الغربية ينادي بالاستقلال بصوت عال كما هو الحال في هذا الإقليم. وفي الآونة الآخيرة، ازداد الاهتمام بأمر الإقليم بعد أن قامت السلطات الكتالونية بإجراء استفتاء حول انفصال الإقليم عن إسبانيا، بالمعارضة لرغبة السلطات الإسبانية المركزية، والدستور الإسباني.

في إسبانيا 17 إقليم ذاتي الحكم، من بينها إقليم كتالونيا الذي يبلغ عدد سكانه 7.5 مليون نسمة أي 16% من إجمالي سكان إسبانيا

وقد رفضت الحكومة الإسبانية هذا الاستفتاء انطلاقًا من كونه غير قانوني وأمرت بوقفه، كما ألقت الشرطة القبض على كبار المسؤولين الكتالونيين وصادرت صناديق الاقتراع في العديد من مراكز التصويت، لكن ذلك لم يمنع الكتالونيين من التصويت، ولصالح الانفصال عن الحكومة المركزية في مدريد.

اقرأ/ي أيضًا: تاريخ كتالونيا في 300 صفحة

ومع انشغال الرأي العام العالمي بقضية انفصال إقليم كتالونيا، يجدر بنا توضيح القصة شبه الكاملة لهذا الإقليم، بالإجابة على أسئلة: ما هو إقليم كتالونيا؟ ولماذا ينادي بالاستقلال؟ وما الأهمية التي يمثلها لإسبانيا؟ وما النتائج المترتبة على وقوع الانفصال على الطرفين؟

ما هو إقليم كتالونيا؟

إقليم كتالونيا هو واحد من 17 إقليم ذاتية الحكم في إسبانيا. يقع شمال شرق البلاد، ويبلغ عدد سكانه حوالي 7.5 مليون نسمة، أي ما يساوي تقريبًا 16% من إجمالي التعداد السكاني لإسبانيا. ويُنتج الإقليم الغني ما يقرب من خُمس الإنتاج المحلي لإسبانيا، كما أن له الدور الأكبر في قيادة التنمية الصناعية في إسبانيا منذ الثورة الصناعية.

عام 1992 استضافت برشلونة عاصمة الإقليم، دورة الألعاب الأولمبية، ومنذ ذلك الحين، أصبح الإقليم محورًا للسياحة المزدهرة في البلاد، وزاد ذلك من ثراء كتالونيا.

ولكتالونيا تاريخه وثقافته ولغته الخاصة، إذ يعود تاريخه الممتد لحوالي ألف عام. وكان يتمتع باستقلالية ذاتية قبل الحرب الأهلية الإسبانية، حتى ضُم تحت وصاية الجنرال فرانثيسكو فرانكو، الذي بعد وفاته استطاع الإقليم الحصول على الحكم الذاتي بموجب دستور عام 1975. لكن ذلك لم يعد كافيًا بالنسبة للقوميين الكتالونيين الذين قادوا مطالب الانفصال من حينها وللآن.

لماذا وصلت الأمور لهذه المرحلة؟

كانت برشلونة واحدة من أكثر المدن المحببة في الاتحاد الأوروبي، لغناها من جهة، وباعتبارها وجهة سياحية مميزة، فضلًا عن شهرتها في كرة القدم. لكن الأزمة الاقتصادية عام 2008، والممتد أثرها للآن، أصابت كتالونيا كما غيرها، ولكن باعتبارها الأغنى، كان الاعتماد عليها أكبر، تصرف أكثر للحكومة المركزية، وتحصل منها على الأقل.

كانت فترة إفاقة إسبانيا من تداعيات الأزمة هي البداية لتعاظم وانتشار الشعور بين الكتالونيين بأن الحكومة المركزية في مدريد تأخذ أكثر بكثير مما تعطي، خاصة أن الإقليم هو أحد أغنى أقاليم إسبانيا.

وفقًا لإحصائيات 2014، كان الفرق بين ما تُحصله الحكومة المركزية من ضرائب الكتالونيين وبين ما يحصل عليه الإقليم من خدمات، قد وصل إلى 9.89 مليار يورو، لصالح الحكومة المركزية! وهو ما يُعادل 5% من الناتج المحلي للإقليم. لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، ففي عام 2015 خصص مشروع الميزانية الوطنية في إسبانيًا، للإقليم 9.5% مقارنة بما يقترب من 16% في عام 2003. كما أن مساهمة الإقليم في إجمالي الضرائب المحصلة من كل أقاليم إسبانيا، يفوق الأقاليم الأخرى، إذ تبلغ مساهمته الضريبية حوالي 21% من إجمالي الضرائب. 

الفرق بين ما يدفعه كتالونيا للحكومة المركزية وبين ما يحصل عليه منها هو 9.89 مليار يورو لصالح الحكومة المركزية

كل هذه التداعيات، أدت في النهاية إلى ارتفاع ديون كتالونيا إلى 35.4% من إجمالي ناتجها المحلي، ما جعلها ثالث أكثر المناطق المديونة في إسبانيا خلال الربع الأول من هذا العام، بعد فالنسيا وكاستيلا لا مانشا. وفي نهاية حزيران/يونيو الماضي، بلغت ديون كتالونيا 76.7 مليار يورو، ما يعني قدم قدرتها على الاقتراض المباشر من الأسواق المالية، لذا تعتمد على قروض الدولة. 

اقرأ/ي أيضًا: "حتمية" انهيار الاتحاد الأوروبي.. مطالب الانفصال ليست كتالونية فقط

أنصار الانفصال يعتبرون أن "خلل جباية الضرائب"، ودفعهم الكثير من الأموال للحكومة المركزية هو السبب، وأنه لو توقف الإقليم عن دفع الأموال للحكومة المركزية، فإن ذلك سيحول عجوز ميزانية الإقليم إلى فائض.

هل يستطيع إقليم كتالونيا المضي قدمًا دون إسبانيا؟

الاقتصاد يحكم في ذلك بدرجة كبيرة، وكما ذكرنا تُمثل كتالونيا حوالي خُمس الإنتاج المحلي الإسباني، ويُعادل اقتصاده تقريبًا اقتصاد البرتغال. وتُمثل صادرات الإقليم حوالي ربع إجمالي صادرات إسبانيا، وفقًا لإحصائيات "المعهد الإحصائي الكتالوني".

يُعرف إقليم كتالونيا كذلك بجذبه للاستثمارات، إذ إن ما يقرب من ثلث الشركات المُصنعة الأجنبية في إسبانيا تختار عاصمة الإقليم، برشلونة، مقرًا لها، وكذلك المصارف الكبرى وشركات الأغذية وما إلى ذلك، ما يجعلها أقرب لأن تكون عاصمة صناعية واستثمارية لإسبانيا.

ومع توفير كتالونيا لواحد من أكبر مجمعات الدعم اللوجيستي للصناعات في المنطقة، استطاع الإقليم أن يصبح واحدًا من أكبر بؤر الصناعة من حيث فرص العمل ومعدل دوران رأس المال، ما جعله في 2016، يحتل المركز الثاني بين دول الاتحاد الاوروبي في صناعة السيارات بعد ألمانيا التي تتصدر هذا المجال.

وإذا بدأ الحديث عن مقومات كتالونيا الاقتصادية، فلا يمكن إغفال قطاع السياحة في الإقليم، إذ يتصدر الإقليم قائمة أكثر المناطق زيارة في البلاد، خاصةً مع شواطئ برشلونة وكوستا التي تجذب كثيرًا من السياح الأجانب إليها.

وبحسب المعهد الإحصائي في كتالونيا، فقد زار أكثر من 18.9 مليون سائح، الإقليم، في 2016، ما يُمثل 23.8% من جميع السياح الذين زاروا إسبانيا نفس العام. ويُعد مطار برشلونة ثاني أكبر مطارات إسبانيا بعد مدريد، وفي عام 2016 استقبل المطار أكثر من 44 مليون مسافر، ذلك أن له مكانة خاصة لدى شركات الطيران منخفضة التكاليف، والتي تتخذ منه مركزًا لها في أوروبا خلال رحلاتها الطويلة إلى الأمريكيتين.

ما هي التداعيات الاقتصادية على كتالونيا في حال الانفصال؟

حتى الآن لا يمكن الجزم بسيناريو محدد لما قد يحدث إذا تحقق الانفصال فعليًا، خاصة وأن إمكانية حصول كتالونيا على عضوية الاتحاد الأوروبي هو أمر مجهول حتى الآن، ببساطة لأن قوانين الاتحاد الأوروبي تنص على موافقة جميع الأعضاء على قبول عضوية الدولة الجديدة، لذا انقسمت معظم الآراء إلى معسكرين يضم كل منهما مجموعة من المحللين الاقتصاديين والسياسيين إضافة لمسؤولين، ولكل معسكر منطلقاته المختلفة عن الآخر. 

المعسكر الأول تتزعمه الحكومة الإسبانية المركزية، ويرى أن قوى كتالونيا الاقتصادية تكمن في كون الإقليم جزءًا من إسبانيا التي بدورها هي جزء من الاتحاد الأوروبي، لذا فإن وزارة الاقتصاد الإسبانية، وعلى لسان وزيرها لويس دي خويندس، ترى أن بانفصال كتالونيا، وخروجها بالتالي من الاتحاد الأوروبي -إذ لا يُتوقع أن توافق إسبانيا بسهولة على دخول كتالونيا الاتحاد الأوروبي- فإن ذلك سيؤدي إلى انخفاض إجمالي ناتجها المحلي ما بين 25٪ و30٪، وستتضاعف البطالة، ومن المحتمل أن يؤدي ذلك أيضًا الى رفع تكلفة تصدير السلع المنتجة في الإقليم إلى أعضاء الاتحاد الأوروبي والدول الأخرى. 

من غير المرجح أن يكون دخول كتالونيا للاتحاد الأوربي سهلًا، ذلك أنه سيحتاج إلى موافقة إسبانيا على ذلك

في نفس السياق، قال اقتصاديون في بنك "بيرنبيرغ"، في ورقة بحثية عن انفصال كتالونيا: "لا نرى حاليًا أي وسيلة عملية لكي تصبح كتالونيا دولة مستقلة داخل الاتحاد الأوروبي، كما يريد معظم مؤيدي الاستقلال".

اقرأ/ي أيضًا: بعد استفتاء استقلال كتالونيا.. شبح الحرب الأهلية يُخيم على إسبانيا

وأوضح ستيفن براون، الخبير الاقتصادي في "كابيتال إكونوميكس"، أن إقليم كتالونيا بانفصاله سينضم لقائمة الدول الصغيرة غير الأعضاء في منظمة التجارة الدولية، وهذا بتعبيره "يعني أن الإقليم سيواجه حواجز تجارية كبيرة"، من حيث زيادة أسعار السلع المستوردة في كتالونيا. مُضيفًا أنه حتى لو استمر الإقليم في استخدام اليورو كعملة له، فإن ذلك لا يعني أنه سيجد مقعدًا له في البنك المركزي الأوروبي.

أما عن المعسكر الثاني والذي تتزعمه الحكومة الانفصالية بالإقليم، فله وجهة نظر مُختلفة، مفادها أن إقليم كتالونيا هو أهم ركيزة في الاقتصاد الإسباني، وأن العجز الذي يعاني منه اقتصاد الإقليم حاليًا ليس إلا نتيجة لما يعتبرونه استغلالًا من الدولة الإسبانية لثروات الإقليم.

ويرى اقتصاديون أن العجز الذي يعاني منه الإقليم والبالغ 8% من إجمالي الناتج المحلي، إن ظل مُستقرًا على المدى القصير بالانفصال، هو أفضل من ارتفاعه نسبة لا تقل عن 7% على المدى الطويل ببقائه تابعًا للحكومة المركزية في إسبانيا.

ماذا عن إسبانيا؟

على الصعيد الإسباني، من شأن هذا الاستقلال أن يترك فجوة كبيرة في الاقتصاد الإسباني، وهو ما حذر منه بنك إسبانيا المركزي، في بيانٍ نقلته وكالة أنباء رويترز، لافتًا إلى أن التوترات السياسية التي تحيط بالاستفتاء على استقلال إقليم كتالونيا عن الدولة الإسبانية، يمكن أن تضر بالنشاط الاقتصادي.

وكما سبق ذكره، فإن إقليم كتالونيا يشكل خُمس الاقتصاد الإسباني نظرًا لسيطرته على أكبر الشركات الإسبانية المصدرة، ويبلغ الناتج المحلي للإقليم نحو 210 مليون يورو، وهو ما من شأنه أن يشكل خسارة لإسبانيا بنحو 19٪ من إجمالي ناتجها المحلي، في حال لو انفصل الإقليم عنها، بالإضافة إلى خسارة فرص جذب الاستثمارات الجديدة، علمًا بأن الإقليم يستحوذ على 29.2% من الاستثمارات. فضلًا عن خسارة إسبانيا لحوالي 25.6% من صادراتها التي يتم تصنيعها في الإقليم.

ومن المؤكد أن إسبانيا سوف تفتقد فريق نادي برشلونة، ولسوف تخسر الزخم الذي كان يعرفه دوريها بعدم مشاركة الفريق الأشهر عالميًا فيه. من جهة اُخرى نادي برشلونة يمثل قيمة اقتصادية لا يستهان بها، فوفقًا لتقرير نُشر على الموقع الرسمي للنادي، فإنه يقف وراء تدفق إيرادات مالية على مدينة برشلونة تقدر بـ708 مليون يورو خلال موسم 2016/2017، كما أنه يوفر حوالي 15 ألف وظيفة مباشرة، بخلاف الوظائف غير المباشرة.

ولا شك أن من بين القضايا الأكثر تعقيدًا التي لم يُطرح حتى الآن أي مقترح لتسويتها حال تمّ الاستقلال عمليًا، هي قضية الدين العام الإسباني، وكيفية حساب حصة كتالونيا من هذا الدين، وماذا إذا أعلنت كتالونيا الاستقلال من جانبٍ واحد؟ حينها قد ترفض أيضًا أن تتحمل نصيبها من الدين الوطني، خاصةً وأنها مديونة بما يكفي، وقد لا تقبل تحمل المزيد من الديون، خصوصًا وأن منطق انفصالها يتعلق بالتخفف من التزاماتها تجاه الحكومة المركزية.

لو تم انفصال كتالونيا فستخسر إسبانيا نحو 19% من إجمالي ناتجها المحلي و25.6% من إجمالي صادرتها

ومن المتوقع ألا تتوقف خسائر الحكومة الإسبانية فقط على صعيد الاقتصادي، فلربما تمتد الخسائر على الصعيد السياسي، ويكون هذا الانفصال بمثابة شرارة للتفتت وتشجيع أقاليم أخرى على الانفصال، خاصةً وسط مطالبات الانفصال المستمرة من إقليم الباسك.

 

اقرأ/ي أيضًا:

في 8 نقاط.. كل ما تريد معرفته عن مجريات استفتاء استقلال كتالونيا

الربيع الأوروبي.. بداية لتفكيك القارة العجوز